في جبال سمامة بتونس.. زيت الإكليل يفوح وجعا

 بدر الدين الوهيبي-تونس

يرسل كريم نظراته إلى الجبل المواجه لقرية الوساعية، لا يطمح في النظر إلى أبعد من السفح، إلى حيث بدأت تتراءى له قوافل النساء محملة إكليلا تسبقها نسمات الصبح حاملة شظايا كلماتهن وبعضا من أهازيج شعبية يستعن بها على تخفيف وطأة هذه الرحلة اليومية من جبل سمامة إلى المنشر.

المنشر في قرية الوساعية هو تسمية محلية لمساحة قرب سفح جبل سمامة نقطة تماس خطيرة من محافظة القصرين وسط غربي تونس بين الجيش وفلول الإرهابيين، يتخذها مقاولون مرخص لهم لتقطير زيت الإكليل المقطوف وبيعه لمختبرات الأدوية والمواد التجميلية المحلية منها والعالمية.

أحمال ما إن تتخلص منها ظهور الحمير حتى تتلقفها سواعد كريم وبقية العمال بالوزن والتكديس قرب موقد ضخم يجثم على الأرض وعلى الصدور المثقلة دخانا وحزنا عرّى ما بالنفوس من ألم، فلا هو كف عن نفث الدخان ولا هم نفثوا ما اعتمل في الصدور.

‪النساء يجلبن حمولات الإكليل للمنشر على ظهورهن وظهور الدواب‬ (الجزيرة)
‪النساء يجلبن حمولات الإكليل للمنشر على ظهورهن وظهور الدواب‬ (الجزيرة)

رحلة خطرة
يقول كريم إن النسوة هن من يقمن بالمهمة الأخطر، إذ تنطلق قوافلهن مع طلوع الفجر تسبقها الحمير متوجهة إلى جبل سمامة لقطف الإكليل. خطى ربما يهربن بها من الفقر المدقع إلى حقول الألغام التي زرعها الإرهابيون هناك.

يذكر كريم بعض نساء المنطقة المحاذية لجبل سمامة من جامعات الإكليل أو حتى الرعاة، اللواتي تعرضن لانفجار ألغام أرضية زرعها الإرهابيون أودت بحياتهن أو تعرضن إثرها لعاهات مستديمة، يجازفن بالموت سعيا للرزق بمقابل بخس لا يتعدى ستة دولارات لقنطار من الإكليل.

يتسع القدر الواحد لما يقارب ثلاثة قناطير من الإكليل (الجزيرة)
يتسع القدر الواحد لما يقارب ثلاثة قناطير من الإكليل (الجزيرة)

طرق بدائية
وسط المنشر ينتصب "القطّار" أو "النحاسة" وهو عبارة عن قدر ضخم يرتفع عن سطح الأرض قرابة المترين، نظرا لوجود حفرة تحته تستغل لوضع الحطب وإشعال النار بقوة وبنسق متواصل يتابعه العمال بانتباه شديد مخافة أن تخبو النار فينقص ضغط البخار داخل القدر وتتعطل العملية.

والقدر الواحد يلتهم قرابة الثلاثة قناطير من الإكليل تفرز وتكدس على مقربة منه، ثم تتولى معاول العمال قذفها إلى داخل القدر في عملية مضنية، لاضطرارهم إلى الاقتراب من النار وحرارتها والدخان الكثيف المتصاعد منها، إضافة إلى المجهود البدني الكبير.

لا تنتهي المعركة عند امتلاء القدر بل يصعد كريم أو أحد العمال فوقه لأداء رقصة أقل ما يقال عنها أنها خطيرة، إذ يعمد إلى المشي والالتفاف داخل القدر الضخم المرتكز على هيكل حديدي لرص الإكليل، رقصة يعزف لها العمال من الأسفل بالمعاول، أما القدر فيصرخ "هل من مزيد".

بعد الرقصة ينزل ويرتمي على فراش من الإكليل يبعد أمتارا من الموقد لاستعادة الأنفاس نظرا للمجهود البدني وللحرارة الخانقة المتصاعدة من النار أسفل القدر، بينما يعمد البقية إلى وضع غطاء حديدي ثقيل يعالجونه بصعوبة كي لا يتسرب منه البخار بفعل الضغط الحراري.

اللافت للانتباه أن العمال مجبرون في كل مراحل العملية على الوقوف إما فوق أرضية تشتعل تحتها النيران أو بجانبها من أجل "تعليف" الموقد إكليلا والنار حطبا لتواصل الاشتعال مما يدفع المياه إلى الغليان والتدفق عبر قناة تنتهي بصمام يخرج منه ماء الإكليل وزيته المركز الطبيعي.

‪يقوم عمال الموقد بتقطير زيت الإكليل الجبلي‬ (الجزيرة)
‪يقوم عمال الموقد بتقطير زيت الإكليل الجبلي‬ (الجزيرة)

أجر زهيد
مقاولو تقطير الإكليل لا يملكون إلا التراخيص الإدارية التي خولت لهم الزج بهؤلاء الرجال إلى مواقد النار لا يحميهم من توهجها ودخانها شيء على الإطلاق، وعاينت الجزيرة نت افتقاد العاملين هناك لأبسط إمكانيات السلامة والحماية من أقنعة واقية من الدخان أو أحذية متينة.

يتلقى عامل موقد تقطير زيت الإكليل أجرا يوميا لا يتجاوز خمسة دولارات عن كل عملية ملء وإفراغ للقدر الكبير.

يقول صابر -أحد العمال- إنهم لا يستطيعون إعادة العملية أكثر من مرتين يوميا، إذ تعتبر مجازفة نظرا لسهولة الإغماء والسقوط من أو على الموقد من شدة الحرارة.

مع العلم أن سعر زيت الإكليل المعالج بمواد معطرة أخرى يناهز في أغلب الأحيان متوسط سعر يقارب أو يتجاوز الثلاثين دولارا لكمية تساوي 0.05 لتر تباع في محلات العطور في أوروبا تحت مسميات تجارية تستعملها الطبقات الاجتماعية المتوسطة في تلك البلدان نظرا لجودتها.

من المفارقات المحزنة أيضا أن الأجرة اليومية لعامل موقد تقطير زيت الإكليل الطبيعي تساوي في أحسن الأحوال ثمن قطعتي صابون صغيرتين معطرتين كالتي تباع في الصيدليات والمحلات الأوروبية.

‪تعد هذه المهنة خطيرة جدا لما ينتج عنها من آثار جسدية سلبية على ممتهنيها‬ (الجزيرة)
‪تعد هذه المهنة خطيرة جدا لما ينتج عنها من آثار جسدية سلبية على ممتهنيها‬ (الجزيرة)

مخاطر صحية
تقول العديد من المواقع المتخصصة في السلامة المهنية إن العمل في العراء تحت أشعة الشمس وبجوار الأفران والمواقد، ينجم عنه اضطرابات نفسية وعصبية وشعور بضيق التنفس مما يعرض العمال إلى زيادة الأخطاء وحدوث الإصابات.

إضافة إلى تقلصات غير إرادية في عضلات الساقين وجدار البطن وتمدد الأوعية الدموية بالجلد، مما يؤدي إلى زيادة في عدد دقات القلب ينتج عنها صداع شديد، وفي بعض الحالات الإغماء المسبوق بالقيء الذي يمكن أن تنتج عنه الوفاة في حال عدم القيام بالإسعافات اللازمة فورا.

ما إن ينتهي يوم العمل حتى تتغير ملامح العمال التي تسود بفعل الحرارة الخانقة، حتى ترتمي الأجساد المفرغة من معاني الحياة على الأرض المفروشة إكليلا في انتظار مرور المقاول لأخذ الزيت وإعطائهم بضعة دراهم تدفعهم للرجوع غدا، دراهم تفوح إكليلا ووجعا.

المصدر : الجزيرة