"عالسكة".. حراثة الأرض تتحدى الحداثة

عاطف دغلس-نابلس

بعد موجة من الأمطار، تنقشع الغيوم وتخضرُّ الأرض بأنواع شتى من الحشائش والأعشاب لتغازلها خيوط الشمس المتدلية، وتعكس زهو لونها، ولهذا معنى آخر بالنسبة للحَرَّاثة، فهو يُبشرهم بموسم جيد من العمل.

في هذا الوقت من السنة تصبح الأرض "وافرة" (رطبة بلغة الفلاحين الفلسطينيين)، وهذا يجعلها أكثر ملاءمة لحرث تربتها وتقليبها لتستفيد مما سقته السماء من ماء وتحافظ على نباتاتها أيضا.

وبفارغ الصبر، ينتظر الحرَّاثة بقرية مادما قرب نابلس شمال الضفة الغربية -أمثال زكريا القُط- هذا الموسم؛ فالجميع يستعدون لحراثة أراضيهم واستغلال أيام الصحو(توقف المطر).

يقتني زكريا دابة تتنوع عادة بين الحمار والحصان للحراثة، وهو ما يُفضله الأهالي رغم الآلات الحديثة كالجرار الزراعي؛ فالدواب تُذكرهم بماض بدأ يتلاشى وحكايات يحنِّون إليها على الدوام.

زكريا القط يحرث الأرض بالحصان منذ ثلاثين سنة(الجزيرة)
زكريا القط يحرث الأرض بالحصان منذ ثلاثين سنة(الجزيرة)

تواصل مهم
ورغم سنه الأربعيني، يحترف زكريا التعامل مع حصانه، فخبرته الممتدة لثلاثين عاما كفته لأداء هذه المهمة الشاقة، وأهَّلته للتواصل مع الحصان.

وتصدح حناجر الحرَّاث بعبارات التواصل مع الدواب في مثل هذه الأوقات من السنة بين أشجار الزيتون، ويقول زكريا "إن الدواب تعي جيدا هذه العبارات وتعرف نبرة أصواتنا فتتجاوب معنا"، وهو ما يظهر انسجاما لا حدود له.

على زكريا أيضا أن يمشي بحذر خلف دابته ويوازن قيادتها، وينهرها بلطف ولا يستخدم عصاه إلا للتلويح بالخوف والتهديد لتسير بانتظام، فأي خطأ قد يثيرها، وبالتالي ترطمه برجليها وترميه أرضا.

وما ينجزه الجرار الزراعي في ساعة يحتاجه ليوم عمل كامل عبر الدابة، فالأول تتعدد سككه (أسنان المحراث) بين ثلاثة وسبعة سكك وبأعماق مختلفة، في حين تنفرد الدابة بسكة واحدة.

فوائد أكبر
لكن الدواب أكثر فائدة، ويُجمع المزارعون على ذلك، ويؤكدون أنها تقلب الأرض وتطحنها جيدا، كما تحفظ الأشجار بحراثة عروقها فلا تصل السكة للجذور وتقتلعها كما يفعل الجرار، أو تحطم الأغصان والفروع المتدلية.

وتصل الدابة لكل جزء في الأرض، لا سيما الصخرية والمقطعة بشكل "قطاين" (أحواض متسلسلة) ويجعلها ملساء، ولهذا يفضلها المزارع جمال القط ككثير من المزارعين في مادما.

الحاج جمال القط يراقب وحفيده حراثة أرضه بالحصان (الجزيرة)
الحاج جمال القط يراقب وحفيده حراثة أرضه بالحصان (الجزيرة)

بيد يشير القط (65 عاما) لأرضه "البياضة" –كما تسمى- وأشجار زيتونه مرشدا زكريا لحدودها، وباليد الأخرى يمسك بحفيده ذي الخمس سنوات ليريه الأمر واقعا، فالحفاظ على الأرض وحبها عادة يتوارثها الفلسطينيون، ومهمة منوط بالطفل القيام بها.

يقول الحاج القط: إن الجرار ربما يصلح للأرض المفتوحة، لا المعمورة بالأشجار، خاصة الزيتون، فهو بحاجة لكل ما يرطب العروق ويبقي التراب حولها، "وهذا ما تفعله الدواب".

وهو يقتنع أيضا بأن تكلفة الحراثة بالدواب للدونم الواحد (ألف متر مربع) تعادل ثلاثة أضعاف الجرار (نحو خمسين دولارا أميركيا)، لكنه يقول إنه "لا يُفرِّط في تقليد اعتاده الآباء والأجداد، والمهم أنه أكثر حفظا للأرض".  

لم تستخدم الدواب للحراثة فحسب قديما، بل كانت تقاس عبرها حجم الأرض ومساحتها، فعمل يوم كامل من الصباح وحتى المساء يعني أن الأرض تقدر بنحو 1500 متر مربع.

تشبث بالماضي
ولهذا يحفظ المسن عبد الله زيادة (أبو نزار) أرضه بالكامل، ويعي حدودها جيدا، بل إنه يعرف أراضي المواطنين من قريته، ويقول للجزيرة نت -وتأخذه تنهيدة استحضار للماضي- إن الأرض بحاجة لمن يحن عليها حتى بالحراثة "لذلك فالجرار يخرب ولا يعمر، والحداثة أجبرتنا على استخدامه".

ويستذكر أبو نزار أدوات الحراثة التي تنصب فوق الدواب، كالسكة والميزان والحواة (طوق) يوضع فوق رقبة الدابة لتنصب عليه عدة الحراثة، ويقول إن البقر استخدمت قبل الحصان والحمار "وبشكل زوجي أيضا".

المسن عبد الله زيادة لا يزال متمسكا بحراثة أغلب أراضيه بالدواب (الجزيرة)
المسن عبد الله زيادة لا يزال متمسكا بحراثة أغلب أراضيه بالدواب (الجزيرة)

وتحرث الأرض مرتين خلال العام؛ فالأولى تسمى "كسرة"، حيث تكسر الأرض بها وتقلب، والثانية تعرف "بالتثنية" وبها تقلب الأرض ثانية، والمرتان بين أواخر يناير/كانون ثاني وأواخر أبريل/نيسان.

ومثل أبو نزار يتمسك جبر أحمد (55 عاما) بالحراثة بواسطة حماره، وحتى وقت قريب اقتصر عمله على أرضه فقط، فلم يعد بجسده المنهك بفعل المرض يقوى على حراثة أراضي الآخرين.

الحاج جبر أحمد بات عمله مقتصرا على حراثة أرضه فقط (الجزيرة)
الحاج جبر أحمد بات عمله مقتصرا على حراثة أرضه فقط (الجزيرة)

يُرخي الحرَّاثون كزكريا والحاج جبر وقتا كافيا لدوابهم لترتاح خلال العمل، هم أيضا يفعلون ذلك لتناول فطورهم؛ فالتعب يظهر جليا، فالعرق يتصبَّب فوق جسد الدواب، ويعلو صوت شهيقها وزفيرها ذهابا وإيابا، كما تنتظرها آخر النهار مهمة نقل عدة الحراثة وأصحابها فوقها.

يتمسك المزارعون في مادما بالحراثة عبر الدواب -شأنهم في ذلك شأن قرى عديدة- وبهذا يجد زكريا والحرَّاثون بقريته وسيلة لكسب قوتهم، ويجعله يوما عن آخر يزداد تعلقا بحصانه وبحبه لعمله، فهو لا يجيد غير العمل بالأرض.

المصدر : الجزيرة