الغائب الحاضر رغم المرض.. جيش التلاميذ ينقذ شابا من السرطان

اخصائية طبية ترافق صابر طبيا ومعنويا (الجزيرة)
الشاب صابر العبدلي برفقة اختصاصية المعالجة (الجزيرة)

ناجح الزغدودي-تونس 

مقعد الدراسة بمعهده في محافظة القصرين ما زال فارغا، فصاحبه سافر ليشغل مكانا آخر بمستشفى علاج السرطان بتونس العاصمة، أما زملاؤه بالمعهد فتحولوا إلى جيش متطوع لتوفير نفقات العلاج، في انتظار عودته للاحتفال. 

كان تلميذ المرحلة الثانوية صابر العبدلي (17 عاما)، من منطقة فريانة بمحافظة القصرين، ينتظر أن يشارك زملاءه فرحة العودة المدرسية قبل نحو شهر، ولكن الورم السرطاني الخبيث حرمه تلك الفرحة، وانقلبت حياة العائلة.

لم يكن صابر ليتمكن من القدوم إلى تونس العاصمة (340 كيلومترا من فريانة) للعلاج لولا مساندة أصدقاء المعهد وأقاربه الذين جمعوا مساعدات مالية تغطي نفقات انتقاله إلى العاصمة، وتوفير منزل قريب من المستشفى لأسرته.

محاطا بوالدته التي تبيت معه بالغرفة نفسها، وتتفقد خيوط الأجهزة الطبية المتصلة بذراعه اليمنى، وترتب غطاءه كأنه ما زال ذلك الطفل الذي يحتاج إلى رعاية؛ كان صابر يبدي صلابة وإيمانا بقدرته على الشفاء وهزيمة المرض، إذ يقول "معنوياتي مرتفعة ومؤمن بما كتبه الله لي". 

‪أم صابر ترافق ابنها بالمستشفى أثناء رحلة العلاج من السرطان‬ (الجزيرة)
‪أم صابر ترافق ابنها بالمستشفى أثناء رحلة العلاج من السرطان‬ (الجزيرة)

محنة السرطان
اكتشف صابر مرضه بالسرطان صدفة، إذ يقول "عندما شعرت بالألم ولامست انتفاخ عضلة ساقي"، أحضرت والدته امرأة قامت بتدليك ساقه، لكن العلاج البدائي لم يفلح. 

وتقول الأم الخامسة الكامل: كانت فاجعة، يومها "شعرت بأنني مثل حطام زجاج تناثر أجزاء على الأرض". ثم لاذت بالتضرع والدعاء من أجل شفاء ابنها، وهي لا تملك حيلة لعلاجه.

مصدر مخاوف أم صابر على حياة ابنها من مرض السرطان هي فقدانها شقيقها قبل ثلاثة عقود بسبب السرطان، ولكن ما ملأ قلبها بالتفاؤل هو طمأنة الأطباء بأنه تم كشف الورم مبكرا، كما أنها تثق في إمكانات العلاج المتوفرة رغم بعد المسافة.

وسام عبدلي، ابن عم صابر وصديق الدراسة يحمل قميصه لجمع التبرعات (الجزيرة)
وسام عبدلي، ابن عم صابر وصديق الدراسة يحمل قميصه لجمع التبرعات (الجزيرة)

 صابر الغائب الحاضر
غيّب "السرطان" جسد صابر عن دراسته، لكنه لم يغيبه عن قلوب أهالي قريته، فقد رسمت صورته على قمصان الشبان، وزينت شوارع "فريانة"، وكتب اسمه على الجدران وعلى صفحات فيسبوك كأنه مرشح مرموق أيام الانتخابات.

ضجت "فريانة" باسم صابر، وهرع الكبار والصغار للمساعدة، تفاعلا مع تدوينة على شبكات التواصل الاجتماعي، واستنفر الشباب والكهول والفقراء والأغنياء داخل الجهة وخارج الوطن لتوفير الدعم، كأنهم يصنعون بنفسهم الدواء المفقود بالمنطقة.

تقول بلقيس دولامي (تلميذة بمعهد صابر) وهي تشير إلى صورة صابر المطبوعة على قمصان زملائها داخل قاعة الدرس؛ "أردنا الوقوف إلى جانبه في محنته من منطلق التضامن الأخوي والواجب الإنساني". وتضيف أن زميلهم "حاضر رغم الغياب".

إحاطة اجتماعية ونفسية لأسرة صابر من أصدقائه (الجزيرة)
إحاطة اجتماعية ونفسية لأسرة صابر من أصدقائه (الجزيرة)

بدت بلقيس واعية بقيم التضامن المجتمعي، وتتابع بشيء من الفخر "لم نكن نملك سوى مصروفنا اليومي، ولكن تضامننا العفوي كان أقوى وأسرع من تدخل السلطات"، وتضيف "نحن سعداء لأننا وفقنا في مساعدة زميلنا، وفخورون بأننا لم نخذله". 

لم يترك منظمو الحملة بابا للمساعدة إلا طرقوه، وطغت حملة جمع التبرعات لصابر على الحملة الانتخابية، إلى حد وضع صوره على ملصقات المرشحين وصورهم، ما أجبر المترشحين على التفاعل مع الحملة.

أصدقاء صابر بجوار ملصقات حملة جمع التبرعات لعلاجه (الجزيرة)
أصدقاء صابر بجوار ملصقات حملة جمع التبرعات لعلاجه (الجزيرة)

تمكن الأصدقاء في يوم واحد من جمع 4.5 آلاف دينار (أكثر من 1500 دولار) من التبرعات التي كان معظمها من مصروف جيب التلاميذ، وتبرع مرشح للانتخابات وحده بنحو ألفي دولار (خمسة آلاف دينار)، وتمكنت العائلة بعدها من السفر للعلاج.

محاطا بنشطاء الحملة الذين يترددون على منزل والد صابر بالحي الفقير بفريانة، حاملين قمصانا عليها صورته؛ كان الأب إسماعيل يجفف دموع قلق على صحة ابنه البعيد عنه، امتزجت بالامتنان؛ فالتضامن الذي لمسه من أهالي فريانة أنقذ حياة ابنه وأنقذه من بيع منزله.

زيارات يومية إلى والد صابر لمؤازرته (الجزيرة)
زيارات يومية إلى والد صابر لمؤازرته (الجزيرة)

جيش الطوارئ
انطلقت حملة جمع التبرعات على صفحة فيسبوك التي أنشأها مكرم تليلي (معلم بالمعهد) حتى تجمع حوله الشباب والكثير من أهالي فريانة، واتسعت دائرة جمع التبرعات، وتمكنوا من توفير مبالغ كبيرة.

قدم المتطوعون أعمالا مسرحية وتظاهرات ثقافية، قدموا عائدها لصالح تكاليف علاج زميلهم صابر.

أكتوبر الوردي
شأنها شأن محافظات الوسط الغربي (القيروان والقصرين وسليانة وسيدي بوزيد)، لا يوجد بمحافظة القصرين (460 ألف نسمة) مركز لعلاج السرطان، مما يحرم المواطنين من الخدمات الصحية، خاصة بمنطقة فريانة الحدودية.

لكن التضامن الأسري والمجتمعي الذي حظي به صابر ودعم العائلة شكلا عوامل أسهمت في العلاج. 

قصة صابر في كفاحه ضد السرطان بمساعدة أصدقائه أصبحت قصة نجاح أهلية ملهمة، حفزت المعلم مكرم على تنظيم حملات مساعدة لطفلة أخرى مريضة بالسرطان (ملاك)؛ فانخرط أهالي فريانة في حملة مساعدتها، لتكتب صفحات إنسانية جديدة عند سفح جبل الشعانبي الغامض. 

المصدر : الجزيرة