أطلس الحرف اليدوية في مصر.. رحلة البحث عن المهمشين

Said سعيد - حرفة الصناعة اليدوي للحبال في طريقها للاندثار - أطلس الحرف اليدوية..رحلة باحث بيئي في ربوع مصر
صناعة الحبال اليدوية حرفة في طريقها للاندثار (الجزيرة)

أحمد علي-القاهرة

سنوات من البحث والترحال والانتقال من مكان إلى آخر، جريا وراء الحلم، وسعيا للبحث عن فنان أو حرفي يدوي، يمتهن ما لا يجيده غيره، ويقبض بكلتا يديه على مهنة ربما اندثرت، أو في طريقها للاندثار، يحاول نقل خبراته ومهاراته لجيل آخر، بات أكثر إقبالا على المنتجات الآلية.

أكثر من ثماني سنوات قضاها الباحث البيئي أسامة غزالي في الحل والترحال والانتقال، للبحث عن أصحاب المهن والحرف اليدوية؛ بهدف وضع خريطة أطلس للحرف اليدوية في مصر، ورصد أماكن تواجدهم، وتوزيعها جغرافيا على الخريطة المصرية، والبحث عن أسباب تجذر حرف بعينها في مناطق معينة واندثارها في أماكن أخرى، ومحاولة إيجاد تفسير تاريخي-ثقافي-مجتمعي يربط هذه النقاط.

في جنوب مصر -وبالتحديد في محافظة قنا في صعيد مصر- ولد غزالي، واكتسب من بيئته المحيطة هواياته وأنشطته المفضلة، رسم الحيوانات والنباتات وتجول بدراجته الهوائية عبر شوارع ودروب قريته والقرى المجاورة.

احترف غزالي تعليق رسومه على حوائط حجرته بعد انتهاء جولاته، وهي الجولات التي كانت ربما المحرك الرئيسي والأساسي له لتشكيل شغفه بالبيئة والطبيعة.

أطلق غزالي العنان لشغفه بالبيئة والطبيعة، فراح يسأل الجيران وكبار السن من أهالي قريته والقرى المجاورة عن أسماء الحيوانات والكائنات الحية المحيطة بالبيئة وتوثيق حياتها ومعيشتها وطرائفها من أفواه كبار السن.

بعد تخرجه عمل غزالي باحثا في محمية جبل علبة (جنوب شرقي مصر)، ومثلما كانت دراجته بوابة له للمرور إلى عالم البحث والاستكشاف، أتاح له عمله بالمحمية فرصة البحث والاستكشاف في التاريخ الطبيعي للمحمية، وما تحتويه من كنوز تراثية وتاريخية طبيعية، ليصقل الهواية بالدراسة والممارسة، بعد أن كون روابط وثيقة مع السكان المحليين ليكونوا له أدلاء ومرشدين في رحلة المعرفة التطبيقية البديلة عن المعرفة الأكاديمية.

‪فن الحرق على جذوع الأشجار‬ (الجزيرة)
‪فن الحرق على جذوع الأشجار‬ (الجزيرة)

رحلة الهند
حصل غزالي خلال عمله على منح خارجية، فسافر إلى الولايات المتحدة، وبريطانيا، والهند، وفي الهند تبلورت فكرة "أطلس للحرف اليدوية في مصر"، والبحث والتنقيب عن الحرف التي تعتبر بحكم امتداداتها الطبيعة والتراثية مصدرا للدخل والنشاط الاقتصادي لممتهنيها.

في خلال عمله للبحث والتوثيق، أطلق غزالي مؤسسة "يدوية" لمساعدة ممتهني الحرف اليدوية على تسويق وعرض منتجاتهم والحفاظ عليها من الاندثار، كعامل مساعد لمهمته الأساسية، وهي أطلس خرائط الحرف اليدوية في مصر.

تبدو رحلة غزالي، التي سافر فيها إلى 22 محافظة مصرية من أصل 27 محافظة، كأنها رحلة عكس مسار الزمن، حيث يبحث عن المهمشين ومن هم خارج الأضواء وسكان المحافظات الطرفية والبعيدة عن العاصمة، من أجل الوصول للحرفيين وأصحاب المهن اليدوية، كصناع الكليم اليدوي، والرسامين على كرناف النخيل (جذع النخيل)، ليتفاجأ بمهن غريبة أثناء تجواله وانتقاله عبر القرى، ربما لم تكن على باله، كحرف الرسم بحبات القمح، والنحت على قرون الجاموس، وصناعة وتشكيل الميزان اليدوي، والصناعات اليدوية القائمة على جلود الحيوانات، كصناعة الأحذية من جلود الماعز.

يتجول غزالي في المحافظات، وصولا إلى القرى والنجوع، وفور انتهاء كل جولة يحرص على تدوين وتوثيق ورسم وتوزيع الحرف على الخريطة، وعند مطالعتك للخريطة تكتشف وجود حرف ربما تسمع عنها للمرة الأولى، مثل صناعة "أطباق سعف الدوم الملونة، فخار الواحات بالرمل، كليم صوف الغنم، سجاد يدوي صوف، كليم قصاقيص قطن، أثاث جريد النخيل، أرابيسك جريد النخيل، حرق على الخشب، الرسم على الرمال، النحت على كرناف النخيل، تشكيل الصلصال الواحاتى".  

‪الحفر على كرناف النخيل من الحرف التي رصدها أسامة‬ (الجزيرة)
‪الحفر على كرناف النخيل من الحرف التي رصدها أسامة‬ (الجزيرة)

جهد فردي
حين تنقطع بغزالي طرق المواصلات المرصوفة يضطر إلى ركوب عربات قديمة ومتهالكة، والمشي على قدميه مسافات طويلة أحيانا، وحين تنفد منه بطاريات الهاتف والكمبيوتر المحمول يضطر إلى اللجوء للمقاهي القديمة، التي ترص دككا خشبية وتغلفها وتحيط بها أسوار من البوص وبعض الزراعات القديمة، لإعادة شحن البطاريات، وأحيانا الحصول على قسط من النوم يعينه على رحلته الممتدة.

لم يحصل غزالي في رحلته على أي دعم مالي مؤسسي، واعتمد على التمويل الذاتي لمشروعه، وهو ما كان يعوقه أحيانا عن أداء رسالته، والاكتفاء بالموارد الذاتية المتاحة له، بعيدا عن تشكيل فريق عمل كبير معني بالتوثيق والتصوير الفوتوغرافي والفيديو.

في نهاية رحلته يقول غزالي إن أهم ما اكتشفه هو أن لدينا أكثر من مصر، وأكثر من مجتمع ثقافي؛ فالحرف اليدوية لأهل النوبة تختلف تماما عن حرف أهل الوادي، وبدورها تختلف عن حرف أهل سيناء، فلكل مجتمع خصوصيته وطبيعته التي استمدها من الموارد الطبيعية المتاحة له، مما يمثل انعكاسا لفنه.

المصدر : الجزيرة