"زنيقة لعرايس".. تجارة جزائرية بنكهة من البهجة

الازقة على شكل المتاهة
تتربع "زنيقة لعرايس" على كتلة جبلية في حي القصبة العريق بالجزائر العاصمة (الجزيرة)

فاطمة حمدي-الجزائر

وهي تغطي شفاهها بكفها، مُصدِرة زغرودة الاحتفال، كانت الخالة خداوج تحتفل بتتمة جهاز العروس ابنتها الذي ختمته بعُدة الاستحمام، وهي من العادات المتأصلة في العائلات الجزائرية، حيث يتم اقتناء كل الطاقم المصنوع يدويا من النحاس الخالص والمزخرف على يد نحاسي مدينة الجسور المعلقة "قسنطينة" شرقي البلاد.

قبل 35 عاما، كانت خداوج في مكان مشابه لتقتني جهاز عرسها في أشهر سوق بالعاصمة الجزائرية، يختص ببيع هذا النوع من مستلزمات العروس ويطلق عليه "زنيقة لعرايس".

بالأقواس العتيقة في "ساحة الشهداء"، تتربع "زنيقة لعرايس" على كتلة جبلية في حي القصبة العريق بالجزائر العاصمة، تجعل من السوق المخصص لكل حاجيات العروس؛ مجموعة من الممرات الضيقة عبر سلالم تعتقد لبرهة أن نهايتها تلامس السماء.

لم يكن الوصول إلى "زنيقة لعرايس" صعبا، فكل الطرق تؤدي إلى هناك.. دافئة ممراتها رغم برودة الطقس، يمتزج ريحها بعطر البحر المتوسط الذي تطل عليه، وعبق الياسمين المعلق على أبواب المحلات، وماء الزهر الذي يرشه الباعة على المارين لإكرامهم.

‪الألبسة التقليدية في
‪الألبسة التقليدية في "زنيقة لعرايس" تشكل خريطة لكل ما تحتاجه العروس‬ (الجزيرة نت)

ولا يزال لماء الزهر حكايته في "زنيقة لعرايس"، قلب العاصمة النابض بالفرح، إذ لا يحتاج الزائر إلى مرشد في ذلك المكان الذي يشبه "المتاهة" لتداخل أزقته، فلن يكون غيرُ قلبه دليلا له.

العم محمد قديورة، أحد الباعة في محلات السوق، بدأت حكايته مع "الزنيقة" منذ صغره، فكبرت فيه وكبر معه الشغف. هو دائم الفخر باسم عائلته التي ينحدر منها لاعب منتخب الجزائر لكرة القدم الشهير عدلان قديورة.

يتحدث قديورة للجزيرة نت دون أن يرفع رأسه، منهمكا في تلميع "القليلة" (تصغير "القلة")، وهي وعاء نحاسي تستخدمه العروس في وضع الحناء. والنحاس بالنسبة له لا يقل قيمة عن الذهب، كلاهما معدن نفيس.

يحرص قديورة على ألا تخرج زبونته العروس من محله الصغير الضيق دون اقتناء ما يعجبها، فهو يرى أن الربح المادي ليس أولوية، بل إن ابتسامة من وصفها بصاحبه الجلالة هي "رأس المال والفائدة".

سيمفونية تتعالى تارة وتهدأ تارة، وليس غير الباعة مايسترو لهذا العرض الخرافي.. مزيج بين صرخات الترويج التي يطلقها التجار، وصوت الراديو المهترئ على قناة "البهجة الإذاعية" بين يدي ذلك المسن الذي يتوسد جهازه "الأنتيك"، فيعدل الأمواج تارة ويقيم "طربوشه" المائل تارة أخرى، وهو يجلس على كرسيه الخشبي الأزرق الذي تآكل بفعل رطوبة المكان.

موسيقى تتعالى من هناك، إنه فنان الإنية الشعبية الهاشمي قروابي يمارس نرجسيته في الخلود بعد أكثر من 12 عاما من رحيله، يصدح اللحن ليدندن الجميع في ذلك الشارع "واش نعمل واش المعمول، واش من حيلة تنفعني معاك" (ماذا أفعل؟ ما المطلوب؟ أي حيلة تنفعني معك؟).

‪محلات الزنيقة الضيقة تضيق بسلعها المنتشرة خارجها في الممرات (الجزيرة نت)‬ محلات الزنيقة الضيقة تضيق بسلعها المنتشرة خارجها في الممرات (الجزيرة نت)
‪محلات الزنيقة الضيقة تضيق بسلعها المنتشرة خارجها في الممرات (الجزيرة نت)‬ محلات الزنيقة الضيقة تضيق بسلعها المنتشرة خارجها في الممرات (الجزيرة نت)

قصيدة "الحراز" التي أداها الهاشمي قروابي والتي تحكي قصة "العشيق وعويشة"؛ واحدة من القصص الرومانسية التي تعطي العروس دفعة إيجابية وهي تختار جهازها من "الزنيقة".

شعارات أقوى من تلك التي تستخدمها كبريات الشركات العالمية، ففي "زنيقة لعرايس" فرصة مناسبة لتعلم دروس في التسويق وترك الإعلانات المستحدثة التي تُصرف عليها ملايين الدولارات.. يكفي أن تكون قوي الملاحظة كي تصبح ضليعا في فن الإقناع.

في آخر النهار، يضرب الباعة في "الزنيقة" موعدا آخر مع الشمس، يسدلون الستار على محلاتهم، يحملون السلع إلى داخلها بعدما كانت مترامية على جنبات الطريق الضيق، في فسيفساء لا يجيد رسمها غير أنامل من كبُر في القصبة وتحت أقواس "ساحة الشهداء".

المصدر : الجزيرة