اللباس التقليدي للرجال يصارع البقاء بشوارع الجزائر

شارع ليزاريكاط أو الطرازين بسطيف قبلة للباحثين عن الألبسة التقليدية الجزائرية تصوير ياسين بودهان الجزيرة نت نوفمبر 2017
شارع ليزاريكاط أو "الطرازون" بسطيف قبلة للباحثين عن الألبسة التقليدية (الجزيرة نت)

ياسين بودهان-الجزائر

على مدار 25 عاما كاملة، لا تختلف يوميات الحاج عبد الرحمن، فمع كل إشراقة شمس جديدة يتأبط مقعده الخشبي، ومعه إبرته، وخيوط طرزه، والوجهة دائما شارع "الطرّازون" في قلب مدينة سطيف.
 

في هذا الشارع العريق، بقلب مدينة سطيف عروس الشرق الجزائري، أو مدينة "التربة السوداء" كما سمّاها الرومانيون قديما، كل شيء هناك يرمز للأصالة، ويستحضر عبق الماضي، ففيه تباع الساعات القديمة، والتحف التقليدية المصنوعة من النحاس، وفيه تنتشر الحلي التقليدية، وأدوات الأكل المصنوعة من الخزف والفخار.

في إحدى زوايا هذا الشارع، اختار الحاج عبد الرحمن مكانا له يقضي فيه يومياته، جالسا على مقعده الخشبي العتيق المرصّع بتجاعيد سوداء قاتمة تحكي قصة عمرها سنون طويلة، تماما، مثلما تحكي تجاعيد وجهه ويديه قصص مداعبة إبرته التي خاط بها لوحات جمالية آسرة من الوبر والصوف، تدثـر والتحف بها سكان سطيف، وما جاورها من قرى ومداشر.

هذه المدينة التي تتربع على هضبات سلسلة جبال مغرس وجبال البابور، تعلّم قاطنوها قديما وما يزالون على الاستعداد لمجابهة ظروف الطبيعة القاسية، فمع حلول كل شتاء يعدون العدة بتخزين الطعام، وحياكة اللباس المقاوم لظروف هذا الفصل القاسية.

الحاج عبد الرحمن يرابط بشارع
الحاج عبد الرحمن يرابط بشارع "ليزاريكاط" بولاية سطيف للحفاظ على القشابية والبرنوس الجزائري

سطيف، ورغم موجات الحداثة والتطور التي طالتها في مأكلها وملبسها، فإن الحاج إبراهيم يؤكد أنه لا شيء يحمي ساكنتها من قساوة الشتاء، وبردها القارس، فلا المعاطف الطويلة، ولا الشالات الملونة، ولا القبعات الصوفية الحديثة والأنيقة تحول بينهم وبين لسعات موجات الصقيع التي تحل على أحياء المدينة، وقراها، قبل حلول موسم الشتاء، لا شيء يحميهم من ذلك، يقول جازما للجزيرة نت غير "القشابية والبرنوس الجزائري الأصيل".

الطرازون
ففي "ليزاريكاط" التسمية التي ورثها سكان سطيف للشارع منذ حقبة الاستعمار الفرنسي أو "الطرازون" كما يحلو للحاج إبراهيم أن يسميه نسبة إلى حرفة الطرز، حيث أوراق الشجر المتساقطة والمتناثرة على الرصيف معلنة قدوم الخريف، هناك يقاوم عدة خياطين الموضة وسطوة الملابس الشتوية الحديثة، بالحفاظ على صناعة الألبسة التقليدية التي عبرت وما تزال عن شهامة ورجولة الجزائريين، ومن أهمها لباس "القشابية" و"البرنوس" أحد أبرز معالم الزي الرجالي الجزائري.

والبرنوس عبارة عن معطف طويل يضم غطاء رأس مذبذب بدون أكمام، يسدله الرجل فوق أكمامه، ويختلف لونه باختلاف استعماله، فالأبيض يلبسه العريس يوم زفافه، بينما الأسود والبني يلبسه من يدفع عن نفسه قرّ الشتاء.

ويوجد بالجزائر نوعان من البرانس، الأول وبري يصنع من وبر الإبل، ويتميز بالخفة ويدفع ماء المطر، وهو أغلى أنواع البرانيس ويصل سعره أحيانا إلى عشرة آلاف دولار وتستمر عملية حياكته لأسابيع أو أشهر. وهناك البرنوس الذي يحاك بصوف الأغنام، ويكون سعره أقل ولا يتجاوز خمسمئة دولار.

والقشابية لباس على شكل جلباب إلا أنها أقصر منه، لها كمان طويلان وغطاء للرأس يوضع عند الحاجة، تنسج من الصوف ووبر الإبل أيضا، وسعرها يخضع لقاعدة كلما خف وزنها غلا ثمنها.

ولها دلالات وارتباطات وثيقة بتاريخ الجزائر، وخاصة فترة الاستعمار الفرنسي، حيث كانت اللباس المفضل للثّوار والمجاهدين المرابطين في أعالي الجبال خلال ثورة التحرير في الخمسينيات.

العمامة لباس تقليدي باتت لا تكسو سوى رؤوس المسنين
العمامة لباس تقليدي باتت لا تكسو سوى رؤوس المسنين

إرث تقليدي
هذا الإرث التقليدي ليس حكرا على سطيف وساكنتها فقط، بل تشتهر العديد من المدن الجزائرية الأخرى بصناعة اللباس التقليدي الرجالي، مثل منطقة القبائل أو الأمازيغ، ومناطق الصحراء، وبشكل خاص مدينة مسعد بولاية الجلفة التي تشتهر بـ "البرنوس الوبري المسعدي" الذي يقدم هدية وعربون وفاء لكبار ضيوف الجزائر من الشخصيات السياسية والفنية، وغيرها.

وبكثير من الحسرة والألم، تحدث الشيخ إسماعيل لــ الجزيرة نت والذي ورث حرفته هذه عن شقيقه المتوفى ورابط في شارع "الطرازون" منذ خمسينيات القرن الماضي عن إصرار الطرازين والخياطين على الحفاظ على جزء هام من التوليفة المتكاملة والمتفردة للأزياء التقليدية الرجالية الجزائرية التي يعاني جزء كبير منها من التغييب والنسيان، مثل العمامة وسروال اللوبيا.

عزوف الجيل الجديد عن امتهان هذه الحرفة مصدر قلق بالغ للشيخ إسماعيل، فجيل اليوم -على حد تعبيره- يهوى الأنشطة التجارية والحرفية الخفيفة والتي تدرّ عليه الربح السريع، بينما يتهربون من هذه الصنعة التي تتطلب دقة متناهية، واتقانا بالغا، ونفسا طويلا.

وإذا كانت القشابية والبرنوس بشكل خاص ألبسة تنسج قديما من طرف النساء في البيوت، وتقدم هدايا وعربون حب ووفاء للأزواج أو الأقارب، فإن هذه العادة اندثرت اليوم، ويخشى أن يكون مصير هذا اللباس كمصير الألبسة النسائية التي ميزت حرائر الجزائر مثل "الحايك" و"العجار" المصنوعة من الحرير الأبيض الخالص والناصع.

المصدر : الجزيرة