فولوديمير زيلينسكي بطل تراجيدي بات يصارع بوتين وترامب
تحوّل فولوديمير أوليكساندروفيتش زيلينسكي فجأة من عالم الترفيه والكوميديا ممثلا إلى قمة الدراما السياسية رئيسا لأوكرانيا في أحلك ظروفها خلال حربها مع روسيا. وأدار أكبر أزمة سياسية وعسكرية في تاريخ بلاده، في حلقات متتابعة يتعرض في آخرها لضغوط شديدة من ممثل آخر بات بدوره رئيسا للولايات المتحدة، ويلعب دور البطولة المطلقة على المسرح العالمي.
حصل زيلينسكي على شهرته من مسلسل "خادم الشعب" حتّم فيه السيناريو أن يكون رئيسا لأوكرانيا بالصدفة، فعن له تحويل الخيال إلى واقع، وترشح بالفعل وبات رئيسا، ووجد نفسه يتزعم دولة في حالة حرب، بعيدا جدا عن الكوميديا التي احترفها ممثلا.
ولم تكن عودة دونالد ترامب خبرا سعيدا للرئيس الأوكراني، وبدا أنه بخلفيات علاقة غير ودية بين الطرفين مجبرا على مواجهة واقع جديد صعب وضغوط شديدة، خصوصا بعد المكالمة الطويلة بين ترامب ونظيره الروسي، وحملة الانتقادات التي شنها عليه نظيره الأميركي لاحقا.
ويخشى الرئيس الأوكراني أن يعود ترامب بالعالم لفكرة "لعبة الكبار" في حين يبقى هو وبلده أوكرانيا خارج قاعات المفاوضات وحلولها، بعد عدم الدعوة لاجتماع الرياض الذي تم بين روسيا والولايات المتحدة.

الكوميديا التي صارت واقعا
لا يمكن وصف طريق زيلينسكي إلى الرئاسة إلا بأنه فريد من نوعه، بدءا من نشأته في كنف الثقافة الشيوعية في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية، وصولا إلى نشاطاته المبكرة بعيدا عن السياسة مركزا على النجاح في عالم التمثيل والترفيه.
وبعد ولادته لأبوين يهوديين في مدينة "كريفي ريه" (Kryvyi Rih) -حيث توجد جالية يهودية كبيرة شرقي أوكرانيا- في 25 يناير/كانون الثاني 1978، انتقل زيلينسكي وعائلته إلى إردينيت (Erdenet) في منغوليا، حيث أمضى السنوات الأربع الأولى من حياته، قبل أن يقرر والداه العودة إلى مسقط رأسه.
كانت المدينة الصناعية الصاخبة الناطقة بالروسية مكانا صعبا بالنسبة لزيلينسكي، حيث نشأ هناك على النظام التعليمي السوفياتي شديد الصرامة، وكان عليه وبقية الطلاب تمثل القيم الشيوعية، والانخراط في منظمات عقائدية مثل "أطفال أكتوبر" (Oktiabriata) و"الشبيبة الشيوعية".
وعلى الرغم من قامته القصيرة، كان زيلينسكي طفلا حيويا ومنفتحا وجذابا أثناء نشأته -كما يقول أصدقاؤه- ولم يتمثل القيم الشيوعية، وكان أميل إلى الثقافة الغربية التي دفعته إلى عوالم المسرح والفن أكثر من السياسة، وعندما كان في سن 13 من عمره سقط الاتحاد السوفياتي برمته، وانهارت معه كتلة ومنظومة عقائدية وقيم وأحلاف.
خلال تلك التحولات الكبرى، انتهى الأمر بزيلينسكي مكرها بضغط والده الأستاذ الجامعي إلى الذهاب إلى معهد اقتصادي حيث نال درجة علمية في القانون عام 2000، لكنه كان يدرك أنه ليس خياره، ولم ينتهِ به الأمر أبدا للعمل في مجال المحاماة، بل في مجال المسرح والكوميديا بالجامعة وخارجها، مؤسسا لفرق مسرحية ومديرا لشركة إنتاج.

لعب دوره في مسلسل "خادم الشعب" دورا محوريا في شهرته وحياته السياسية لاحقا، فهو مدرس التاريخ في مدرسة ثانوية الذي يصبح عن غير قصد رئيسا لأوكرانيا بعد انتشار حملته ضد الفساد على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت أوكرانيا عمليا تعيش معضلة الفساد.
وفي النهاية، أصبحت الحبكة واقعية تماما، فقد ترشح زيلينسكي للانتخابات الرئاسية عام 2019، وهو غريب عن الساحة السياسية ومعروف في المقام الأول كممثل كوميدي طوال حياته المهنية، ولكن تمكن من هزيمة الرئيس بيترو بوروشينكو وحصل على 73.2% من الأصوات بالانتخابات البرلمانية.
اختار زيلينيسكي اسم مسلسل "خادم الشعب" الذي أطلق شهرته عنوانا للحزب السياسي الذي شكله وربح به الانتخابات لاحقا، رغم أنه كان حزبا افتراضيا دون مقرات أو منتسبين أو مكاتب أو موظفين.
ويؤكد تقرير موسع لصحيفة لوموند الفرنسية بعنوان "حيوات زيلينسكي الخمس" أنه خاض المنافسة من غير برنامج انتخابي ومن غير مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات صحفية، مركّزا على وسائل التواصل الاجتماعي مثل حسابه على "إنستغرام" الذي يتابعه 4.5 ملايين شخص وعلى الظهور التلفزيوني على قناة "1+1" المحلية.

الصراع مع "الوحش" الروسي
يصف تقرير صحيفة لوموند أن زيلينسكي الفنان الكوميدي البعيد عن السياسة كان "لا يحب الحروب ولا رؤية الجرحى أو الدماء، وكان قد أُعفي من الخدمة الإلزامية في الجيش" لكن الهواجس المتعلقة بالجار العملاق ورئيسه الطموح فلاديمير بوتين كانت ماثلة لديه.
ولم يكن "فولوديا" -كما يطلق عليه الأوكرانيون- يعرف الرئيس بوتين، لكنه مثّل أدوارا كوميدية بحضوره وهو في العشرينيات من عمره. ويذكر في تصريحات للصحفي الأوكراني دميتري غوردون عام 2018 "لقد نظر كلانا إلى الآخر عن بُعد ولكن لا أتذكر أنه أغرق في الضحك للنكات التي ألقيتها" فلم يكن من السهل إضحاك الرجل الصارم والحالم بإعادة المجد السوفياتي.
وفي مارس/آذار 2014، حينما شهدت العاصمة كييف احتجاجات ضخمة ضد الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش وأوقعت مئات الضحايا، وجه زيلينسكي رسالة مباشرة إلى بوتين، قال له فيها "عزيزي فلاديمير، أتوسل إليك ألا تهمل أي إمكانية لتجنب نزاع مسلح بين بلدينا.. أتوسل إليك لا تجعل شعبنا يركع. أما أنا، فمستعد أن أجثو أمامك إذا توجب الأمر ذلك". وبات بوتين لاحقا العدو اللدود الذي رفض زيلينسكي حتى أن يقابله، ولم يكن واردا أن يستسلم أمامه.
ورث زيلينسكي الرئيس أزمة الصراع مع روسيا على إقليم دونباس شرقي البلاد وشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في عملية خاطفة، لكنه كان كمبدأ عام يسعى إلى إحلال السلام الدائم في أوكرانيا، وإنهاء الصراع في إقليم دونباس وانضمام أوكرانيا في النهاية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
كان إنهاء الصراع في دونباس في نظر الرئيس الأوكراني الشاب يعني عقد صفقة رآها في البداية ممكنة مع بوتين، لكنها باتت مستحيلة بعد غزو الجيش الروسي في 24 فبراير/شباط 2022 وتهديده للعاصمة كييف والرئيس زيلينسكي نفسه، في محاولة "لاجتثاث الصبغة النازية" عن الحكومة الأوكرانية، كما كانت تزعم روسيا.
يصفه سلفه بوروشينكو خلال الحملة الانتخابية لعام 2019 بأنه "مرشح الكرملين". وانتقد افتقاره للخبرة السياسية قائلا "إن ممثلا يفتقر للخبرة لا يستطيع محاربة المعتدي الروسي" لكن زيلينسكي بدا شخصية صارمة وقائدة بعد الغزو الروسي، مستفيدا من دعم أميركي وغربي واسع، لم تكن تخفى أهدافه المعلنة والمضمرة.

كان اختيار زيلينسكي البقاء في كييف لحظة حاسمة لرئاسته، فعندما عرضت عليه الولايات المتحدة التخلي عن الحكم -حسب التقارير- فرد بأن "المعركة هنا، أنا بحاجة إلى ذخيرة، وليس وسيلة نقل" وارتفعت نسبة التأييد الشعبي له من 30% إلى 84%، وفق التقارير الأوكرانية.
ففي حرب شرسة متعددة الأبعاد، بات زيلينسكي الذي أدمن ارتداء اللباس العسكري "حائط صد" ضد الجيش الروسي وحاميا للحدود الأوروبية ضد "أطماع " الرئيس بوتين، ووصفته التقارير الروسية وتصريحات المسؤولين الروس بأنه "تابع مطيع" للولايات المتحدة ينفذ أجندة إسقاط روسيا.
خسرت أوكرانيا الكثير من الأراضي ونحو 50 ألف جندي، رغم عشرات مليارات الدولارات والأسلحة التي ضختها الدول الأوروبية والولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن. وبدا من الصعب هزيمة روسيا النووية ذات الموارد الهائلة أو إجبارها على التخلي عن طموحاتها، وتزايدت الشكوك والانقسامات الأوروبية في جدوى الحرب، مما أضعف جبهة زيلينسكي الذي بات "بطلا تراجيديا" يصارع الوحش الروسي الذي لا يقبل الهزيمة، وزادت محنته بعودة ترامب إلى البيت الأبيض.

رقصة التانغو وعواصف ترامب
لم يكن التيار يمر بين ترامب وزيلينسكي منذ أن رفض الأخير عام 2019 تزويده بمعلومات عن نشاط اعتبره مريبا وغير قانوني لهاينز بايدن (ابن الرئيس الأميركي السابق) في أوكرانيا، والتي حوكم بسببها ترامب لاحقا، بتهمة إجبار دولة أجنبية على البحث عن معلومات عن خصومه السياسيين وتمت تبرئته من مجلس النواب لاحقا.
وسعى زيلينسكي لتجنب القطيعة الكاملة مع المرشح الجمهوري الذي كانت تصريحاته خلال الحملة الانتخابية تنذر بعواقب وخيمة، وخلال زيارته لترامب في برجه في مانهاتن أواخر سبتمبر/أيلول 2024 أكد ترامب على علاقته الجيدة به وكذلك علاقته الوطيدة بالرئيس الروسي.
كان الرئيس الأوكراني المتهيّب من إمكانية عودة ترامب إلى الرئاسة يريد أن يؤسس لعلاقة أفضل معه، حين قاطعه قائلا "آمل أن تكون لدينا علاقات جيدة أكثر" فرد ترامب بأن "رقصة التانغو تحتاج فقط لشخصين" في إشارة إلى اختياره جانب الرئيس الروسي، وكان ذلك إنذارا ببدء تلقي زوابع ترامب بعد أن بات سيد البيت الأبيض الجديد.
ولم تتأخر عواصف ترامب الموجهة ضد زيلينسكي بمجرد عودته إلى السلطة، ووصفه بأنه "كوميدي متواضع النجاح، ودكتاتور بدون انتخابات" وأنه أقنع واشنطن بإنفاق 350 مليار دولار للدخول في حرب لا يمكن كسبها، كما أن "نصف الأموال التي أرسلناها له مفقودة، ويرفض إجراء انتخابات، وتأييده منخفض".
وتنقل صحيفة "إيكونوميست" البريطانية في تقرير لها عن دبلوماسي سابق قوله "إن ترامب يريد عمليا التخلص من زيلينسكي، وأن الأمر لا يتعلق بالانتخابات فقط"، مشيرة إلى أن استطلاعات رأي تُظهر أن الرئيس الأوكراني سيخسر أي انتخابات مستقبلية بنسبة تتراوح بين 30% و65%، لفائدة الجنرال فاليري زالوزني، في صورة ترشحه.
كما ذكرت الصحيفة أن استطلاعات الرأي في يناير/كانون الثاني الماضي، تُظهر تراجع الثقة بزيلينسكي إلى 52%، في أدنى مستوى الأدنى خلال الحرب، وهو ما يجعل استمراره في السلطة أمرا صعبا.
بات زيلينسكي يدرك أنه لا يمكنه الاستمرار في الحرب أو السلام بدون الولايات المتحدة التي تحولت من حليف موثوق إلى مجرد وسيط متشكك، وأن عليه المقايضة مع الرئيس الأميركي الذي يطلب الكثير من ثروات أوكرانيا من المعادن النادرة، مقابل كل الدعم الذي تلقاه من الإدارة السابقة.
وفي سياق المسار التراجيدي لزيلينسكي، يستقبل الذكرى الثالثة للغزو الروسي لبلاده، وهو بين قطبي الرحى بوتين وترامب، وبات لأول مرة يؤثر التنحي "مقابل السلام وانضمام بلاده إلى حلف الناتو وثني روسيا عن أي عدوان آخر" وهي شروط لم يعد بإمكانه فرضها على ترامب أو بوتين وفق المحللين.