الصراع على غرينلاند.. قطعة شطرنج جيوسياسية تغري ترامب
لا توجد -بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب رجل الصفقات العقارية الكبرى- صفقة عقارية متاحة أفضل من غرينلاند، الجزيرة الأكبر في العالم بموقعها وثرواتها المفترضة والحائرة بين قارة أميركا الشمالية وأوروبا، لكن الطموحات الأميركية في ضم الجزيرة الضخمة ليست سالكة تماما، وتصطدم أيضا بمنافسة دول أخرى في إطار صراع يشمل القطب الشمالي ككل.
وفي فترات تاريخية متباعدة، وخصوصا خلال الحرب الباردة، كانت هذه الجزيرة القطبية الشمالية الشاسعة والمعزولة بمثابة جائزة إستراتيجية، وأصلا جغرافيا مثاليا بالنسبة للقوى المتنافسة. وباتت في ظل التحولات الجارية قطعة شطرنج فارقة، يريد ترامب أن يحسم بها اللعبة الجيوسياسية مع خصومه.
وظلت "أرض الناس" -كما يسميها أهلها- مستعمرة دانماركية منذ عام 1776 وحتى 1953، حين تمتعت بحكم ذاتي توسع عام 1979، وباتت تقرر ذاتيا بشأن العديد من مجالات السياسة دون تدخل من كوبنهاغن، حتى إنها غادرت الاتحاد الأوروبي عام 1985 إثر استفتاء عام، بينما بقيت الدانمارك ضمن الكتلة الأوروبية.
وبمساحتها التي تقدر بمليونين و166 ألف كيلومتر مربع، مع عدد سكان يقل عن 60 ألفا، تقع غرينلاند منتصف المسافة تقريبا بين واشنطن والعاصمة الروسية، وتعد أيضا أقصر طريق قطبي بين العاصمتين.
وخلال الحرب الباردة، استغلت الولايات المتحدة هذا الموقع الإستراتيجي لنصب أجهزة إنذار ورادارات، وشيدت قواعد جوية وصاروخية أثناء صراعها مع الاتحاد السوفياتي السابق، قبل أن تهملها تدريجيا مع انهيار عدوها الأيديولوجي اللدود منذ عام 1990.

ولم يكن ترامب أول رئيس أميركي يفكر في شراء غرينلاند. فقد أُنشئت الولايات المتحدة عمليا وتوسعت بضم مساحات جغرافية واسعة بالغزو العسكري والإغراء المالي، مثل تكساس وكاليفورنيا، أو من خلال صفقات الشراء المباشر، مثل لويزيانا من فرنسا (مقابل 15 مليون دولار) وألاسكا من روسيا (مقابل 7.2 ملايين دولار) كما استحوذت عام 1917 على الجزء الدانماركي من جزر فيرجن (مقابل 25 مليون دولار).
وكان ذلك التوسع بالشراء أو الاستيلاء محكوما بالضرورات العسكرية الدفاعية والاقتصادية، وعندما اشترى الرئيس أندرو جونسون (حكم بين عامي 1865و1869) ألاسكا من روسيا، كان يرغب أيضا في شراء غرينلاند من الدانمارك. وبنهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1946، عرض الرئيس هاري ترومان (1945-1953) على كوبنهاغن 100 مليون دولار مقابل الجزيرة، لكن الصفقة لم تتم.

اللعبة القطبية الكبرى
لا تتعلق تصريحات ترامب المتكررة عن شراء غرينلاند -أو الاستيلاء عليها بالقوة إذا تطلب الأمر- بمجرد صفقة عقارية رابحة استهوته، لكنها تعكس تصميما مستجدا من واشنطن لتنفيذ خطة قديمة، تعزز بها وجودها في القطب الشمالي لمواجهة الطموح المتزايد لروسيا والصين هناك.
وفي هذا السياق، يقول الباحث والمحلل الإستراتيجي البريطاني توماس فازي في مدونته "إن الصراع على القطب الشمالي إحدى الألعاب الكبرى الجديدة في القرن الـ21، وهي الألعاب التي بدأت بالفعل" مشيرا إلى أنه على وشك أن يصبح نقطة اشتعال في التنافس بين أميركا ومحور الصين وروسيا.
ومن شأن شراء هذه الجزيرة أو ضمها أن يجعل الولايات المتحدة ثاني أكبر دولة في العالم بعد روسيا، كما ستكسب واشنطن ميزة إستراتيجية في منطقة شمال الأطلسي والقطب الشمالي، فضلا عن الوصول إلى أكبر رواسب المعادن الأرضية النادرة -المفترضة- الواقعة خارج الصين، وكذلك حقول النفط والغاز البحرية الضخمة.
وتشير التقديرات إلى أن غرينلاند التي يغطي الجليد 79% من مساحتها تحتوي على رواسب هائلة من اليورانيوم والليثيوم والكوبالت وعناصر الأرض النادرة ذات الأهمية البالغة في الصناعات التكنولوجية الدقيقة، والتي تسيطر الصين على الجزء الأكبر من إنتاجها واحتياطاتها عالميا، بينما تعتمد الولايات المتحدة على بكين لتلبية احتياجاتها منها.
وحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" تشهد منطقة القطب الشمالي ارتفاعا في درجات الحرارة بمعدل يفوق 4 أضعاف المتوسط العالمي خلال العقود الأخيرة، مما أدى إلى تقلص الغطاء الجليدي من 4.3 ملايين كيلومتر مربع عام 1979 إلى 2.7 مليون كيلومتر مربع سنة 2024.
وباتت المناطق البحرية في غرينلاند أكثر سهولة في الوصول إليها لاستكشاف النفط والغاز بعد ذوبان الجليد، مما فتح الباب أمام سباق بين القوى العالمية للسيطرة على هذه المنطقة لأسباب اقتصادية أكثر منها عسكرية كما حصل في السابق.
وكانت واشنطن خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها سباقة إلى غرينلاند، نظرا لأهميتها بالنسبة لأمنها وحلفائها، فأنشأت فيها "دورية غرينلاند" (Greenland Patrol) وهو أسطول في القطب الشمالي لمراقبة النشاط السوفياتي.
كما شيدت قواعد ومرافق عسكرية أخرى، مثل قاعدة ثولي (بيتوفيك حاليا) الجوية عام 1951 والتي بنيت سرا لصد الهجمات السوفياتية المحتملة على أميركا الشمالية ولتزويد المقاتلات والقاذفات الأميركية بالوقود. وما زالت تلك القاعدة من الأصول الإستراتيجية المهمة للجيش الأميركي.

وقد أنشأت الولايات المتحدة أيضا قاعدة قطبية بالغة السرية عرفت باسم "معسكر القرن" (Camp Century) كجزء من "مشروع دودة الجليد" ( Iceworm) على أساس أنها "مجمّع بحثي عن بعد" لكنها كانت في الأصل مركز تخزين صواريخ نووية تحت طبقات الجليد تكون قادرة على الوصول إلى الاتحاد السوفياتي، وتم إنهاء المشروع عام 1967، ودُفنت تلك القاعدة تحت الجليد.
وعاد الاهتمام الأميركي بغرينلاند استجابة للوضع الجيوسياسي المتغير بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي 23 يوليو/تموز 2024 وضعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إستراتيجية أمنية جديدة للقطب الشمالي تقضي بزيادة الوجود العسكري والقدرات الاستخباراتية والتعاون مع الحلفاء، وهو ما اعتبرته موسكو تصعيدا للتوترات الأمنية في المنطقة.
وتقر "إستراتيجية وزارة الدفاع للقطب الشمالي لعام 2024″ بأن البنية التحتية الأميركية في القطب الشمالي، والتي تم بناؤها في الغالب خلال الحرب الباردة، تواجه تدهورا بسبب ذوبان الجليد الدائم وتآكل السواحل.
ونقلت مجلة بوليتيكو الأميركية عن مايك والتز، مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب قوله إن "الأمر لا يتعلق فقط بغرينلاند، بل بالقطب الشمالي، لدينا هنا روسيا التي تحاول أن تصبح ملكة.. يتعلق الأمر بالنفط والغاز، وبأمننا القومي، وبالمعادن الحيوية".
وفي معرض تفسيرها للإستراتيجية الجديدة، قالت كاثلين هيكس نائبة وزير الدفاع الأميركي السابق للمجلة "لقد شهدنا تعاونا متزايدا بين الصين وروسيا في القطب الشمالي، تجاريا، حيث تعد الصين ممولا رئيسيا لاستغلال الطاقة الروسية في القطب الشمالي، وعسكريا حيث تجري روسيا والصين تدريبات مشتركة قبالة سواحل ألاسكا".
ولا تتمتع روسيا بحضور في غرينلاند، لكنها على مدى العقدين الماضيين كانت سباقة في فهم الصراع على القطب الشمالي وتشكيل أدواته، فقامت ببناء أسطول ضخم من كاسحات الجليد النووية والسفن والغواصات القادرة على حمل الأسلحة النووية.

كما توجهت روسيا إلى تطوير المزيد من عمليات التعدين وآبار الغاز والنفط ومحطات النقل على طول 24 ألف كيلومتر من ساحلها في القطب الشمالي، وتعمل جاهدة للسيطرة على "طريق البحر الشمالي" الجديد أو ما يعرف بـ"طريق البحر عبر القطب الشمالي" الذي قد يبدأ الافتتاح بحلول عام 2035 مع ذوبان الجليد بشكل مستمر.
وتقوم الصين بمساعدة روسيا على تطوير "مشروع الغاز الطبيعي المسال 2" في القطب الشمالي بتكلفة 20 مليار دولار. وبينما انسحبت الشركات الغربية منه بعد العقوبات الأميركية على المشروع عام 2023، تدخلت شركات صينية مثل "بتروشاينا" لمنع انهياره في إطار تعاون روسي صيني متزايد بالمنطقة.
ويشير أندرياس أوستهاغن المحلل السياسي -لمجلة بوليتيكو- إلى أن روسيا تنظر بشكل متزايد إلى ساحل القطب الشمالي بأكمله على مسافة 1800 كيلومتر باتجاه الغرب من طرف شبه جزيرة ألاسكا، باعتباره مجالا إستراتيجيا حيويا .
وحسب تقرير لموقع أوراسيان تايمز، سيتيح فتح ذوبان الجليد بالقطب الشمالي أمام روسيا فرصا قد تغير بشكل كبير سياقات التجارة العالمية، حيث سيمنحها الطريق البحري الشمالي فوائد إستراتيجية وتجارية هائلة، وقد يقلل أوقات العبور بين آسيا وأوروبا بنحو 40%، متجاوزا الطرق التقليدية عبر قناتي بنما والسويس.
ويرجح الخبراء أن يصبح طريق الشمال البحري بمثابة المحور الرئيسي لإستراتيجية الطاقة الجديدة التي تنتهجها موسكو التي أنشأت الموانئ ومحطات الربط وأسطول كاسحات الجليد للاستفادة من طرق الشحن الجديدة لتصدير النفط والغاز الطبيعي المسال، وغير ذلك من الموارد من مناطق القطب الشمالي إلى الأسواق العالمية. كما وسعت من وجودها العسكري في المنطقة، وهو ما أثار انزعاجا أميركيا واضحا.
وفي المقابل، تشكل غرينلاند أهمية كبرى لأمن الجزء الأميركي من القطب الشمالي (ألاسكا) والحدود المشتركة مع روسيا عبر مضيق بيرينغ (Bering) -الذي يفصل بين قارتي آسيا وأميركا الشمالية- وهو ما يستوجب الاقتراب أكثر من مواقع القوات الإستراتيجية الروسية في أقصى شرقها ومراقبة النشاط الجوي الروسي عبر مضيق بيرينغ والرد عليه.
كما تسعى واشنطن أيضا للسيطرة على الممرات البحرية الرئيسية، إذ بعد فترة طويلة من الإهمال بعد الحرب الباردة، عادت "فجوة جيوك" -وهي نقطة اختناق بحرية رئيسية بين غرينلاند وآيسلندا والمملكة المتحدة- كواحدة من المخاوف البحرية الإستراتيجية الرئيسية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويرى أوستهاغن أن "مهمة ردع روسيا في (منطقة) شمال الأطلسي والقطب الشمالي الأوروبي أصبحت أكثر إلحاحا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن هذه مهمة مستمرة ودائمة تتطلب الاهتمام طالما ظلت روسيا دولة محاربة في مواجهة الغرب".
وتمتلك روسيا أسطولا ضخما من كاسحات الجليد يضم أكثر من 36 سفينة، معظمها يعمل بالطاقة النووية. بينما لدى الولايات المتحدة كاسحتا جليد فقط، إحداها يبلغ عمرها 50 عاما، وهو ما يجعل روسيا متفوقة حتى الآن بشكل كبير في المنطقة حسب تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.
وبدورها، تمتلك الصين كاسحتي جليد، كما بدأت في بناء العديد من كاسحات الجليد الثقيلة لأسطول خفر السواحل كجزء من إستراتيجيتها في منطقة القطب الشمالي، وفق ما نقله تقرير مركز خدمات الاستخبارات الجيوسياسية.

الصين في القطب الشمالي
وتخشى الولايات المتحدة أكثر من التعاون الروسي الصيني في المنطقة خصوصا مع تأكيدهما أن القطب الشمالي يعد "منطقة يرغبان في توسيع تعاونهما فيها على وجه التحديد فيما يتعلق بتطوير الشحن، وسلامة الملاحة، وتكنولوجيا السفن القطبية والبناء".
وقد ساهمت العقوبات الغربية على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا عام 2022 في توثيق علاقاتها مع الصين، وفتحت بشكل متزايد أراضيها في القطب الشمالي أمام تعاون واسع مع بكين، بما فيها تسيير دوريات مشتركة في المنطقة القطبية، كما نفّذت قاذفات من البلدين طلعات جوية مشتركة بالقرب من ألاسكا.
وفي يوليو/تموز 2023، تم إطلاق ممر شحن صيني روسي منتظم على طول الممرات البحرية في القطب الشمالي، مما قلل بشكل ملحوظ المسافة والوقت المطلوبين لنقل البضائع من الموانئ الشمالية من روسيا إلى الصين، كما وصلت 80 رحلة تضم سفن شحن وسفنا سياحية وناقلات نفط إلى الموانئ الصينية عبر الممر المائي بالقطب الشمالي عام 2023.
وردا على التعاون الصيني الروسي، أعلنت الولايات المتحدة وكندا وفنلندا في يوليو/تموز 2024 عن مبادرة ثلاثية جديدة، أطلق عليها اسم "ميثاق الجليد" لتعزيز التعاون في تصنيع كاسحات الجليد القطبية.
وتشعر الولايات المتحدة بقلق من التحديات المتزايدة التي تفرضها الصين في غرينلاند نفسها والقطب الشمالي بشكل عام، خصوصا بعد أن اعتبرت نفسها عام 2018 بأنها "دولة قريبة من القطب الشمالي" .
وبشكل عام، تنظر واشنطن إلى بكين باعتبارها منافسا إستراتيجيا -في جميع المجالات تقريبا- وتسعى إلى توسيع نطاق نفوذها الاقتصادي والعلمي والعسكري وإعادة صياغة النظام الدولي، لذلك تعتبر أي بصمة صينية في غرينلاند أو قربها تهديدا فعليا.
وفي إطار مبادراتها وتوسعها التجاري، أبدت الصين اهتمامها متزايدا بالقطب الشمالي، حيث استثمرت في مشاريع مختلفة للموارد الطبيعية في جميع أنحاء دول المنطقة، ووضعت إستراتيجية "طريق الحرير القطبي" من أجل فتح ممرات شحن جديدة وفرص استثمار.
وكانت غرينلاند ضمن تلك الاهتمامات الصينية الجيوسياسية، حيث زادت بشكل منهجي استثماراتها فيها منذ عام 2016، وباتت أكبر مستثمر في البلاد. وبلغت قيمة وارداتها من الأسماك وحدها نحو 353 مليون دولار، بينما صدرت سلعا بنحو 758 مليون دولار إلى غرينلاند، بينما بلغت صادرات الولايات المتحدة للجزيرة 6 ملايين دولار واستوردت سلعا بنحو 36 مليون دولار حسب إحصاءات عام 2022.
وفي غياب الشركات الأميركية، بدأت الشركات الصينية تستكشف آفاق الاستثمار في مجال التعدين في الجزيرة، خصوصا شركة "شنغي ريسورسس" (Shenghe Resources) الصينية التي تشير بعض التقديرات إلى أنها تتمتع بالقدرة على الوصول إلى الجزء الأكبر من الموارد المعدنية الكبيرة في غرينلاند.
ويرى بيتر جاكوبسن (الأستاذ المشارك في معهد الإستراتيجية في الكلية الدفاعية الملكية الدانماركية) أن هدف الصين من هذه الاستثمارات هو الحصول على موطئ قدم في القطب الشمالي، حيث ترى بكين في غرينلاند بوابة محتملة للنفوذ في المنطقة، وخاصة إذا حصلت الجزيرة في مرحلة ما على الاستقلال.

وفي المقابل، تعمل الولايات المتحدة والرئيس ترامب أساسا لمنع بكين من اكتساب النفوذ على تخومها، حيث "استيقظت الولايات المتحدة حقا على واقع القطب الشمالي، جزئيا بسبب روسيا، وجزئيا بسبب الصين" حسب ما أوضح راسموس نيلسن رئيس مركز ناسيفيك للسياسة الخارجية والأمنية في نوك (عاصمة غرينلاند) في تقرير لمجلة بوليتيكو.
وفي هذا السياق، أعات واشنطن عام 2018 تشغيل الأسطول الأميركي الثاني -الذي كان نشطا شمال الأطلسي إبان الحرب الباردة وتم تجميده لاحقا- لتأمين نحو 43 ألف كيلومتر مربع من ساحل غرينلاند.
كما أدت ضغوط الولايات المتحدة إلى إلغاء مشروع "كفانيفيلد" للأتربة النادرة والذي كان من المفترض أن تنفذه شركة "غرينلاند مينيرالز الأسترالية".
وكذلك قامت بشراكة مع "شنغي ريسورسس" الصينية، ومشاريع أخرى لتعدين اليورانيوم والحديد، لكن شركة الإنشاءات الصينية "سي سي سي سي" (cccc) انسحبت من مشروع إنشاء مطارين بالعاصمة نوك وفي مدينة "إيلوليسات" بضغوط أميركية مماثلة.
وفي هذا السياق، يؤكد راسموس بيرتلسن الخبير والأستاذ بجامعة القطب الشمالي في النرويج -لمجلة بوليتيكو- إن غرينلاند حيوية جدا للأمن القومي الأميركي "وهناك حدود واضحة لما تتسامح معه واشنطن، فهي لا تقبل الاستثمارات الصينية في غرينلاند".

تعقيدات الشراء والضم
ومع استيعابها لتزايد الدور المركزي الذي تلعبه منطقة القطب الشمالي في التجارة العالمية والجغرافيا السياسية، استطاعت واشنطن إضعاف الوجود الصيني في غرينلاند، دون أن يعني ذلك امتلاك اليد الطولى فيها، خصوصا مع النزعة الاستقلالية للجزيرة.
ويصطدم حلم ترامب بالاستيلاء على غرينلاند بتعقيدات كثيرة، أهمها رغبة العديد من سكان الجزيرة في الاستقلال والمعارضة الدانماركية القوية لشرائها، إضافة إلى التعاطف الكبير مع الصين، وفق ما أوردته مجلة نيوزويك الأميركية، وصعوبة استعمال القوة لضمها.
وبموجب قانون الحكم الذاتي لعام 2009، يحق لغرينلاند الدعوة إلى استفتاء على الاستقلال في أي وقت. وتؤيد أغلب الأحزاب السياسية بالجزيرة الاستقلال عن الدانمارك، كما صرح رئيس وزراء الجزيرة ميوتي إيغيدي، بأن البلاد ليس لديها أي مصلحة في أن تصبح جزءا من الولايات المتحدة.
ورغم أن عددا أكبر من سكان غرينلاند يريدون علاقات أوثق مع واشنطن مقارنة ببكين -وفق نيوزويك- فإن عددا كبيرا منهم لا يزال ينظر إلى الصين بإيجابية، وتريد أغلبية كبيرة من السكان اتباع سياسة مستقلة تجاه الصين وعدم الرضوخ لنهج واشنطن.
وحسب محللين، فإن غرينلاند تنظر إلى التعاون مع الصين من جانب براغماتي وفي سياق طموحات اقتصادية تهتم أكثر بتعزيز العلاقات التجارية والشراكات الاقتصادية وتنويعها، ليس فقط مع الصين، بل وأيضا مع العديد من البلدان الأخرى.
ويُعد هذا أولوية بالنسبة للجزيرة، لأنه يوفر فرصا اقتصادية تسمح لها بتنويع علاقاتها التجارية، وتوسيع مشاركتها في الاقتصاد العالمي، والابتعاد عن الاعتماد الحصري على أسواق الدانمارك ومساعداتها المالية وكذلك الاتحاد الأوروبي.
وكان إيغيدي قد جدد دعواته للاستقلال عن الدانمارك، واعتبر ذلك خطوة للابتعاد عن الماضي الاستعماري للجزيرة، لكنه رفض أيضا فكرة الانضمام إلى الولايات المتحدة، مؤكدا أن غرينلاند "ليست للبيع".
كما يظل الاستقلال قضية محورية قبل الانتخابات البرلمانية، التي يفترض أن تتم في 11 مارس/آذار 2025، يعقبها إجراء تصويت على الاستقلال أعلن عنه حزب "سيوموت" الحاكم، وتخيم عليه المخاوف من اهتمام ترامب بالاستحواذ على الجزيرة.
وبذلك تواجه الطموحات الأميركية في غرينلاند معضلات كثيرة، تقوض فرضية الشراء، وربما تفتح المجال للاستحواذ عليها بالقوة، لكن الجزيرة ستبقى في مركز المنافسة الجيوسياسية الشرسة اقتصاديا وعسكريا بمنطقة القطب الشمالي، مع حضور صيني وروسي يصعب إزاحته.