الرد الإسرائيلي بين خطط نتنياهو "المجنونة" وحساباته الخاطئة

طائرة "إف 35" ينتظر أن تكون وسيلة الرد الإسرائيلي على إيران (شترستوك)
طائرة "إف 35" ينتظر أن تكون وسيلة الرد الإسرائيلي على إيران (شترستوك)

من الصعب تصور ما يضمره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الرد الذي يبدو محسوما على إيران. لا حدود تكبح نتنياهو في حروبه المفتوحة وغير المحسومة في مجملها. يحرك ذلك الفشل جزء من نوازع نتنياهو لفتح جبهة جديدة مع إيران قد تكون الأخطر، إضافة إلى رغبته بحسم ما يعدّه معركة لكسر "حزام النار".

ومنذ ليلة الصواريخ الإيرانية، ينشغل نتنياهو ومعه المجلس الوزاري المصغر (الكابنت) والقادة الأمنيون والعسكريون في اجتماعاتهم المتتالية بطبيعة الرد وحدوده ونوعيته، وتذهب معظم التحليلات والتقارير التي تتابع تلك المداولات على أنه سيكون "حازما وقويا"، وسط مساع أميركية تدفع باتجاه أن يكون "متوازنا ومحدودا"، وبين تهديدات إيرانية "برد قاس وغير طبيعي" على أي استهداف إسرائيلي غير متناسب.

تشير بعض التقديرات إلى أن نتنياهو قد يذهب بعيدا في رده على إيران، بما يشمل تصفية الحساب القديم مع البرنامج النووي الإيراني -الذي سبق استهدافه بعمليات استخباراتية وهجمات سيبرانية واغتيال علماء وتفجيرات واستيلاء على ملفات- بقصف المنشآت النووية مباشرة، لكن دون ذلك محاذير، من بينها الرفض الأميركي، ومخاطر غير محسوبة ومفاجآت غير منتظرة، وكذلك إمكانية فشل واردة.

وتذهب تقديرات أخرى إلى أن الرد "الأسلم" والمتماثل قد يكون بضرب قواعد ومنشآت عسكرية بما يزيح عبء رد إيراني آخر، أو باستهداف المرافق والمنشآت الإستراتيجية المتمثلة في صناعات النفط والغاز والموانئ بغية تدمير اقتصاد البلاد، وإثارة قلاقل داخلية، وكذلك تنفيذ هجمات إلكترونية واغتيالات مركزة واستهداف مراكز السيادة. ونظريا، سيستوجب ذلك ردا مضادا من طهران، بناء على تصريحات وتهديدات القادة والمسؤولين الإيرانيين.

نتنياهو خلال تفقده لقواعد سلاح الجو الإسرائيلي مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو خلال تفقده لقواعد سلاح الجو الإسرائيلي (الصحافة الإسرائيلية)

حيرة الأهداف

يشير محللون إلى أن تأخر الرد الإسرائيلي يعود إلى الحسابات المربكة في اختيار بنك الأهداف وحجم الضربة، خصوصا بعد أن طلب الرئيس الأميركي جو بايدن عدم مهاجمة المواقع النووية ومنشآت الطاقة الإيرانية. ويصعب على إسرائيل نظريا تجاهل الموقف الأميركي، في وقت قد تفتح فيه ضربة غير محسوبة حربا إقليمية واسعة.

وفي هذا السياق، يرى الكاتب يوسي ميلمان (صحيفة هآرتس عدد 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024) "أن صناع القرار الإسرائيليين في حيرة من أمرهم بشأن الأهداف التي يتعين عليهم ضربها"، خصوصا مع المواقف الأميركية المتناقضة حول شكل الضربة المفترضة وحجمها وتداعياتها، رغم الضوء الأخضر الممنوح لتل أبيب.

ومع ذلك، تخشى الولايات المتحدة من "سيناريو مجنون" لبنيامين نتنياهو الذي خالف بايدن وإداراته في كثير من المواقف والقرارات خلال العام الماضي واتخذ إجراءات عسكرية وسياسية تصعيدية رغم التحذيرات الأميركية.

ويرى محللون أن نتنياهو ربما يحاول دفع الولايات المتحدة إلى الدخول في حرب إقليمية تخلط جميع الأوراق، يراها السبيل الوحيد للتخلص من إيران وتهديدها النووي، والخروج من ورطته السياسية والعسكرية.

وخلال العام الجاري، يبدو نتنياهو كأنه تجاوز كل الخطوط الحمراء، بما في ذلك علاقته بالولايات المتحدة الأميركية، مستغلا الفترة الانتخابية الحامية وضعف إدارة الرئيس جو بايدن، كما كسر قواعد الردع وقاد إسرائيل إلى حرب طويلة وعلى جبهات متعددة -على عكس نظرية الأمن الإسرائيلية- ووطّن الإسرائيليين على قبول الخسائر العسكرية الباهظة وقتل وأسر عشرات الجنود، وباتت قضية الأسرى في غزة ثانوية، بينما يصعّد مع إيران تصعيدا قد يقود إلى انفجار إقليمي.

ووفق حساباته، يعتقد نتنياهو أن أذرع "الأخطبوط الإيراني"-حسب توصيفه لـ"محور المقاومة"- قد زالت أو ضعفت كتهديد إستراتيجي لإسرائيل. فحركة حماس بعد عام كامل من الحرب على غزة تبدو -وفق تقديره- في حالة ضعف، أما حزب الله فهو بعد الضربات المتلاحقة لقيادته السياسية والعسكرية، واستهداف بناه التحتية، يعاني بدوره -كما يرى- من إنهاك شديد رغم صموده في المواجهات البرية، والضربات التي ما زال يوجهها للمستوطنات والمدن الإسرائيلية.

صورة قمر اصطناعي تظهر منشأة نطنز النووية أثناء حريق عام 2021 (رويترز)

النووي.. الهدف الأقدم والأخطر

وفق تحليلات إسرائيلية، يرى نتنياهو أن الوضع الحالي لمحور المقاومة وحالة الحرب مع إيران يمثلان "فرصة لا ينبغي تفويتها" لضرب المنشآت النووية الإيرانية وتدمير المشروع النووي الإيراني، بوصفه التهديد الإستراتيجي الأكبر، وباعتباره الهدف القديم الذي فشلت إسرائيل في تحقيقه رغم عمليات التخريب الكثيرة التي لم تصل إلى القصف والهجوم العسكري المباشر.

ويتقاسم نتنياهو هذا التوجه مع الأطراف اليمينية في حكومته، فقد قال وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، على حسابه في منصة إكس، "إنه يتعين إنهاء الحرب من خلال إطاحة النظام في إيران والقضاء على مشروعه النووي".

وتجد هذه الطروحات تشجيعا من أوساط مختلفة؛ من بينها الباحث والمحاضر في قسم "دراسات الشرق الأوسط والإسلام" في جامعة حيفا يارون فريدمان الذي رأى أن هجوم إيران الصاروخي على إسرائيل يُشكل "فرصة تاريخية لضرب المفاعلات في إيران، ومن الممكن ألا تتكرر هذه الفرصة إن أضعناها"، مشيرا إلى أن الآمال التي قام عليها الاتفاق النووي مع إيران "كانت فارغة".

وحسب ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز، نقلا عن مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية، "لم تقدم إسرائيل ضمانات" للرئيس جو بايدن بعدم استهداف المنشآت النووية الإيرانية، كما أنها تجد تأييدا لذلك من دونالد ترامب، المرشح الجمهوري الذي قد يصبح رئيسا جديدا للولايات المتحدة خلال بضعة أشهر.

ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن إسرائيل قد تتخلى مبدئيا عن هدفها الرئيسي في إيران بضرب البرنامج النووي لأسباب تتباين بين عدم توفر القدرات والشكوك في نجاح العملية والضغوط الأميركية والدولية والتخوفات من انفجار الوضع بأكثر مما تتحسب له.

وفي هذا السياق، تشير صحيفة فايننشال تايمز البريطانية إلى أن تدمير المشروع النووي الإيراني قد يكون مستحيلا على إسرائيل من دون مساعدة أميركية للاعتبارات التالية:

  • المواقع النووية الإيرانية مدفونة عميقا تحت الأرض ومحمية بطبقات صخرية وخرسانية مُسلحة ويصعب الوصول إليها وتدميرها بالقصف التقليدي.
  • طائرات "إف 35 لايتنينغ" غير قادرة عل حمل القذائف الضخمة القادرة على اختراق الموقع المحصنة على عمق 60 مترا أو أكثر، وكذلك "إف 15" و"إف 16". فقد لا تملك إسرائيل نفسها تلك النوعية من القذائف القادرة على اختراق الأعماق.
  • تتطلب عملية فعالة كهذه سربا كبيرا من الطائرات (100 طائرة حسب فايننشال تايمز) تطير لمسافة طويلة (1600كيلومتر على الأقل) وتبقى معرضة لمخاطر إسقاطها أو سقوطها.
  • تتطلب عملية القصف الواسعة والمعقدة وعلى أكثر من موقع جهدا عسكريا هائلا ومقاتلات تحمي القاذفات الإسرائيلية، مما قد يحولها إلى معركة جوية كبيرة لا تعرف نتائجها.
  • لو استعملت إسرائيل الصواريخ (مثل صاروخ أريحا الذي لم يستعمل من قبل) لن تكون قادرة على إحداث أي ضرر بالمنشآت النووية.
  • لو استعملت إسرائيل مقاتلات "إف 35" الشبح المتطورة قد تكون عرضة للإسقاط بمنظومات "إس 300"، أو بمنظومات أخرى أكثر تطورا قد تكون لدى إيران، وهو ما سيعدّ ضربة كبيرة لإسرائيل بقطع النظر عما حققته من أهداف.
  • أشارت تقارير غربية إلى أن طائرة "إف 35" عجزت عن كشف ترددات منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس 300" خلال دورياتها على الحدود الروسية المتاخمة لدول البلطيق، وهو ما يفتح المجال لمفاجآت غير منتظرة للعملية الإسرائيلية.
  • من غير المرجح أن تنجح موجة واحدة من القصف في إحداث ضرر كبير بالمنشآت النووية الإيرانية، ومن الصعب عمليا تنفيذ موجة ثانية مع بعد المسافة وفي ظروف قتال تكون فيها منظومات الدفاع الجوي الإيرانية فعالة.
  • يتطلب قصف إيران عمليا عبور مجالات جوية لدول قد تكون من بينها السعودية والأردن والعراق وسوريا، وربما حتى تركيا، وهو ما قد لا تسمح به هذه الدول، أو يعرض العملية للانكشاف.
  • أي خلل تقني أو بشري أو عطب ما في عملية عسكرية واسعة ومعقدة قد يصيب العملية كلها بالفشل.
  • بوجه عام، لن تكون العملية خاطفة (مقارنة بقصف مفاعل تموز العراقي عام 1981) أو سرية (بحكم حالة الحرب القائمة) وليست هناك ضمانات لنجاحها، وقد تتحول إلى كارثة على إسرائيل.
  • وقد تنسحب كل هذه المخاطر على عملية عسكرية أخرى لا تستهدف بالضرورة المنشآت والمواقع النوية

وتبعا لذلك، يرى الكاتب يوسي ميلمان (هآرتس 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024) أن هناك عددا من الاحتمالات المهمة التي يتعين على إسرائيل أن تضعها في اعتبارها؛ "أولها أن الهجوم على المواقع النووية الإيرانية لن ينجح أو لن يخلّف أضرارا كبيرة، وهذا من شأنه أن يشكل ضربة لسمعة إسرائيل والقوات الجوية الإسرائيلية".

ويشير ميلمان أيضا إلى أن مبعث القلق الثاني "هو أن ضربة ناجحة للغاية (إن حدثت) قد تسبب تداعيات إشعاعية وانبعاثات مواد كيميائية خطرة من شأنها أن تضر بعشرات الآلاف من الناس".

كما تطرح هذه التحديات نفسها -وفق ميلمان- في حالة قصف مصافي البترول وغيرها من البنى الأساسية للغاز والنفط، التي قد تمثل ضربة قاسية للاقتصاد الإيراني. ولكن ذلك -وفق تقديره- قد يتسبب أيضًا في اندلاع حرائق هائلة من شأنها أن تسبب عددا كبيرا من الضحايا إضافة إلى كارثة بيئية، كما ستتحمل إسرائيل اللوم في ارتفاع أسعار النفط العالمية، دون أن تؤثر عمليا في قدرات إيران العسكرية وردها المضاد.

إسرائيل تحسب في ردها حسابا للضربة الإيرانية المضادة (غيتي)

السيناريوهات "المعقولة"

تشير تقديرات المحللين العسكريين إلى أن ضربة إسرائيلية على إيران، بقطع النظر عن أهدافها وسيناريوهات نتنياهو وسموتريتش "المجنونة" وغير الواقعية، ستكون معقدة وغير مضمونة العواقب، وقد يكون ذلك السبب الرئيسي في عدم استعجالها من قبل إسرائيل.

ويعتقد كثير من المحللين -وبينهم يوسي ميلمان- أن رد فعل إسرائيل لا بد من أن يكون مدروسا، ويتعين على حكومة نتنياهو أن تبذل كل جهد ممكن لتجنب التورط في حرب طويلة مع إيران، في إشارة إلى ضربة "معقولة" لا تجعل الرد الإيراني المضاد حتميا.

وتتداول الأوساط الإسرائيلية في هذا السياق ردا "مخففا" يتضمن الهجوم على أهداف الحرس الثوري، مثل مقره الرئيسي في طهران، وقواعد القوات الجوية، وأنظمة الدفاع الجوي ومراكز القيادة والسيطرة والاتصالات.

كما يطرح آخرون فرضية شن هجوم إلكتروني "من شأنه أن يشلّ مؤقتا البنية التحتية المدنية مثل محطات الوقود، وحركة السكك الحديد، والموانئ، ومحطات الطاقة والمطارات".

ويشير ميلمان إلى أن إسرائيل فعلت ذلك في السنوات القليلة الماضية عندما أغلقت لفترة وجيزة محطات الوقود ومحطات القطارات وحركة السفن إلى ميناء بندر عباس.

ولجأت إسرائيل في الماضي إلى عمليات استخباراتية وسيبرانية لتأخير البرنامج النووي الإيراني عندما استخدمت فيروس "ستاكسنت" عبر عميل هولندي في عام 2008، إضافة إلى العملية التي قُطعت فيها الكهرباء عام 2021 في منشأة نطنز النووية وأدّت إلى إتلاف نظام الطاقة الداخلي فيها واغتيال علماء نوويين من بينهم محسن فخري زاده.

أعلن الجيش الإسرائيلي، الجمعة، تشغيل صافرات الإنذار، في عدة مناطق جنوبي إسرائيل، فيما قالت وسائل إعلام عبرية إنّ صافرات الإنذار سُمعت في عدة مدن قرب تل أبيب وسط إسرائيل، جراء إطلاق صواريخ من قطاع غزة. وقال الجيش في بيان، اطلعت الأناضول عليه إنّ صافرات الإنذار أُطلقت في عدة مناطق جنوبي البلاد، من بينها كيبوتس (قرية تعاونية)
إيران قصفت إسرائيل بأكثر من 180صاروخا في أول أكتوبر/تشرين الأول 2024 (الأناضول)

دروس أكتوبر وتداعياته

وفق آخر الاستطلاعات المرتبطة بذكرى عام على "طوفان الأقصى"، يقر 73% من الإسرائيليين بأن الجيش الإسرائيلي فشل أمام حركة حماس في غزة، كما أنه يخسر يوميا جنودا في جنوب لبنان بمواجهة حزب الله رغم  تفجيرات البيجر وتصفية قادته السياسيين والعسكريين، ولم يحقق تقدما بريا وتتعرض مستوطناته ومدنه لقصف يومي بالصواريخ والمسيرات. ويستبعد محللون أن تؤدي ضربة لإيران، مهما كان حجمها، إلى تغيير كبير في الوقائع الميدانية أو السياسية على المدى القصير.

وتعد إيران -على عكس إسرائيل- بلدا بعمق جغرافي وسكاني كبير، بما يمكنها من استيعاب أي ضربة أو ضربات عسكرية، كما يستحيل على إسرائيل -وفق محللين- أن تشل كل القدرات العسكرية لطهران، وهو ما قد يحتم الرد الإيراني "الحاسم والمدمر"، وفق تصريحات معظم المسؤولين الإيرانيين.

وفي المقابل، تمتلك إسرائيل قدرات عسكرية كبيرة، لكنها تفتقر إلى العمق الجغرافي والسكاني، كما أنها تعاني اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا جراء الحرب المستمرة منذ عام، وفشلت عمليا في تحقيق مكاسب إستراتيجية رغم الإنجازات التكتيكية، ومن شأن حرب مفتوحة مع إيران وضربات موجعة لمراكزها ومنشآتها الاقتصادية أن تفاقم خسائرها وتضغط أكثر على بنيتها الاجتماعية والاقتصادية.

ورغم حالة الإنكار التي يعيشها نتنياهو مدفوعا بما يراها مكاسب عسكرية حققها في لبنان وغزة وتصريحاته عن "تغيير وجه الشرق الأوسط"، لا  تبدو أي حرب أخرى غير محسوبة على إيران مضمونة النتائج، وقد يشمل هذا "التغيير" أيضا إسرائيل، إذا اندلعت حرب إقليمية واسعة.

المصدر : الجزيرة