تأتي العمليات المكثفة والنوعية التي نفذها حزب الله ضد إسرائيل، وبينها الهجوم على معسكر للواء غولاني في حيفا داحضة للتصريحات الإسرائيلية عن تدمير معظم قدرات الحزب، ومحرجة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يصر على إقناع الإسرائيليين بتحمل أعباء حرب "رابحة"، لكنها مكلفة بشريا واقتصاديا.
تشير عملية "بنيامينا" إلى أن تحقيق الأهداف الإسرائيلية المُعلنة باستعادة الأمن على جبهتها الشمالية وإعادة عشرات آلاف النازحين الإسرائيليين إلى المستوطنات وإزالة تهديد حزب الله، كانت أصعب من التقديرات الإسرائيلية، فيما يبدو تحقيق الأهداف المضمرة تجاه الحزب ولبنان أكثر صعوبة.
وفي هذا السياق، تؤكد صحيفة "معاريف" الإسرائيلية (عدد 14 أكتوبر/تشرين الأول) أن الهجوم الذي نفذه حزب الله على حيفا يعدّ "حدثا صعبا وكارثيا ومزعجا وإشكاليا بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي"، مشيرة إلى فشل الجيش طوال عام من الاشتباك وأسابيع من الحرب المفتوحة في تقويض قدرة حزب الله على شن ضربات "مؤلمة".
من جهتها، أشارت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" (عدد 14 أكتوبر/تشرين الأول) إلى أن أهمية الضربة، بالإضافة إلى استخدام صنف جديد من الطائرات الانقضاضية المزودة بصاروخ واختراقها الدفاعات الجوية الإسرائيلية، تكمن أيضا في كونها استهدفت بدقة قاعة الطعام بقاعدة عسكرية سرية ولم يكن يعلم بوجودها من هم مستقرون بجوارها.
بالحسابات العسكرية -المبالغ فيها- قدرت إسرائيل أنها "أجهزت" على حزب الله بعد فوضى تفجيرات "البيجر" واغتيال قيادته السياسية والأمنية والعسكرية، بينهم أمينه العام حسن نصر الله، في ضربات متتالية موجعة، لكن الصورة تبدو أكثر تعقيدا لتل أبيب ونتنياهو، بعدما استوعب الحزب الضربة القاسية، وتدرج في الرد حتى هجوم جنوب حيفا الأخير.
فالعملية الاستخبارية الكبيرة التي نفذت في بيروت (التفجيرات والاغتيالات الواسعة) والقصف غير المسبوق بأسلوب "الصدمة والترويع" ومحاولة إفراغ الجنوب من البيئة الحاضنة للحزب وسياسة التهجير (التي اعتمدت أيضا في غزة) كان هدفها إحداث شلل كامل في الحزب، بما يتيح لإسرائيل تحقيق أهدافها العسكرية بسهولة أكبر، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
الحرب الطويلة واستعادة الردع
يشير محللون إلى أن تلك الضربات -التي كانت كبيرة بالموازين الأمنية والعسكرية- أربكت الحزب مرحليا، لكنه استطاع احتواء الموقف وإعادة تفعيل خططه وقدراته في مواجهة إسرائيل، مرورا إلى الثبات القتالي فالرد المتدرج ثم استعادة قوة الردع عبر العملية النوعية الأخيرة في حيفا.
ورغم "صدمة" التفجيرات والاغتيالات، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق اختراق بري واسع، كان من المفترض أن يكون أسرع وأسهل وأقل تكلفة عسكريا، كما أن هذه "الحادثة الصعبة في بنيامينا تشكل دليلا إضافيا على المعركة المستمرة والمعقدة بين إسرائيل وحزب الله"، وفق تحليل لصحيفة معاريف (عدد 14 أكتوبر/تشرين الأول).
وفي تعليقه على هجوم قاعدة حيفا، يقول الكاتب نير كيبنيس في موقع "والا" إن "حزب الله أثبت أنه قادر على أن يكون فتاكا، رغم أنهم قالوا في إسرائيل إنه مهزوم ومنكسر، والشيء الرئيسي الذي تغيّر على الأرض، منذ بدء الحرب، هو أن دائرة النار التي كانت تشمل المستوطنات الشمالية، توسّعت إلى منطقة حيفا الكبرى وحتى جنوبها، وبات روتين الطوارئ يسري على الملايين عوض عشرات الآلاف".
ويشير تواتر "الحوادث الصعبة" وعدم قدرة إسرائيل على تحقيق تحول عسكري حاسم عقب التفجيرات وموجة الاغتيالات -حسب محللين- إلى متغيرات مهمة في المواجهة لم تحسبها إسرائيل بدقة من بينها:
- حزب الله ما زال قادرا على المواجهة وتوجيه ضربات نوعية لإسرائيل.
- وما زال أيضا يحتفظ بأسلحة متطورة ومفاجآت عسكرية.
- احتفظ الحزب بقدرته على المواجهات البرية وأحبط محاولات التسلل الإسرائيلية.
- استعاد الحزب معادلة حيفا وما بعدها مقابل بيروت، أو تل أبيب مقابل بيروت، رغم أنه مازال يركز على أهداف عسكرية.
- القضاء على قدرات الحزب قد يكلف الجيش الإسرائيلي خسائر باهظة وغير محتملة.
- الحزب مستعد لحرب طويلة ومعقدة.
- التطور النوعي والمتدرج في ضربات حزب الله يعيد الضغوط المجتمعية والسياسية على بنيامين نتنياهو.
- أثبتت الضربات وجود خلل وقصور في منظومة إسرائيل الأمنية وخصوصا الدفاعات الجوية يستغلها حزب الله، كما استغلتها إيران في ضربة 1 أكتوبر/تشرين الأول.
- استمرار التماسك العسكري للحزب وتطويره للهجمات داخل إسرائيل يجرّان الجيش الإسرائيلي إلى أخطاء مثل الهجمات على الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل"، بما تحمله من انتقادات دولية واسعة.
كما من شأن استعادة حزب الله للتوازن العسكري رغم محاولة "تجريف" بيئته الحاضنة في الجنوب والقصف العنيف على الضاحية وبيروت تربك مساعي إسرائيلية -وأميركية أيضا- لتمرير اتفاق سياسي في لبنان يستبعد الحزب، أو يستثمر ما بدا أنه ضعف في قوته وتآكل لدوره، وفق محللين.
وتعقّد مثل هذه الضربات المتدرجة نحو العمق الإسرائيلي أيضا مسألة الرد الإسرائيلي المتوقع على إيران وطبيعته، فتأجيل هذا الرد مرده محاولة الجيش الإسرائيلي إضعاف أو تقويض قدرات حزب الله، بما يمنعه من أي رد فعل واسع على إسرائيل إذا استهدفت إيران.
نتنياهو والاستثمار في الحرب
ورغم تزايد الضربات على المدن الإسرائيلية وزيادة تكاليف الحرب وتعقد الأهداف الإسرائيلية، يرفض نتنياهو أي مبادرات لوقف إطلاق النار في غزة أو لبنان.
ويسود الاعتقاد في إسرائيل أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سيذهب بعيدا في مواصلة الحرب ومراكمة تلك التكاليف الباهظة على إسرائيل حتى تحقيق ما يراه نصرا، مستحضرا نموذج غزة والجرائم التي ارتكبها هناك والذي هدد بنقله إلى لبنان.
ويؤكد الكاتب عاموس هاريل (صحيفة هآرتس 14أكتوبر/تشرين الأول) أن "توسيع الائتلاف الحاكم وزيادة الاستقرار السياسي لنتنياهو وقلة الضغوط من الولايات المتحدة، عوامل تعمّق استثمار رئيس الوزراء الإسرائيلي في الحرب".
من جهته، ينتقد الكاتب والمحلل السياسي في صحيفة هآرتس نحميا شتراسل (عدد 15 أكتوبر/تشرين الأول) سياسات نتنياهو ونزوعه إلى ما يسميها الحرب الدائمة، معتبرا أنه "رئيس الوزراء الأكثر تهورا في تاريخ إسرائيل. وهو يعرّض وجودنا للخطر حقا، وقد جرنا إلى حرب استنزاف طويلة، وهو ما يعني المزيد من القتلى، والمزيد من الدمار، وضربة شديدة للاقتصاد".
وخلال زيارة للقاعدة المستهدَفة في بنيامينا، أكد نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي "سيواصل ضرب حزب الله بلا رحمة في جميع أنحاء لبنان وفي بيروت أيضا"، ضمن ما يسميه ضمان "أبدية إسرائيل".
فمع استقرار وضعه السياسي، استطاع نتنياهو تغيير قواعد الردع المتعارف عليها، وجر إسرائيل -مجتمعًا وجيشًا ومؤسساتٍ- إلى التسليم بأن الحربَ التي يخوضها في غزة ولبنان هي حرب لا بد من تحمل أثمانها وتكاليفها، وأنها "ستحقق الأمان النهائي لإسرائيل وتنهي جميع الحروب في العقود المقبلة".
كما أنه دفع إسرائيل في النهاية إلى قبول ما لم يكن يُقبل، والتطبيع مع مقتلِ العشرات والمئات من الجنود أو أسرهم، وتحمّل خوض حرب طويلة، تستنزف الموارد البشرية والاقتصادية، وهو متغير طرح تحديات حتى بالنسبة للمقاومة في فلسطين ولبنان، وجعل نتنياهو بلا رادع داخلي أو خارجي.
ففي غياب الضغوط الدولية على إسرائيل ونتنياهو -الذي يضع استثماره الرئيسي في الحرب حسب عاموس هاريل- يستبعد محللون أن يرتدع رئيس الوزراء الإسرائيلي مبدئيا بحجم الخسائر، وأن يذهب إلى حرب طويلة وأكثر كلفة عسكرية وبشرية لإسرائيل وأكثر تدميرا في لبنان، محاولا جر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية واسعة.
وعلى الساحة اللبنانية، تشير التقديرات إلى أنه سيتجه إلى مزيد من خلط الأوراق وتوتير الأوضاع، وارتكاب مجازر تؤلب الرأي العام ضد حزب الله، وقد بدأ ذلك عمليا بمجزرة بلدة "أيطو" بقضاء زغرتا، معقل تيار المردة المسيحي الذي يعد حليفا لحزب الله.
كما يضع نتنياهو ضمن رهاناته وخططه اللعب على التناقضات الداخلية اللبنانية وتفجير المجتمع اللبناني من الداخل، وصولا إلى إشعال حرب أهلية تخدم الأهداف الإسرائيلية بإضعاف حزب الله وإشغال ما بقي من قوته داخليا وإبقاء لبنان هشا ومستنزفا.
تبدو في خلفية الأهداف الكبرى لنتنياهو ونظريته للحرب الطويلة خريطة "الشرق الأوسط الجديد"، التي تمر عبر غزة والضفة ولبنان، ثم إيران، ولم يصل نتنياهو إلى الأهداف الأولية في غزة، ولم يحقق أي تقدم مهم على الجبهة اللبنانية- وفق المحللين- كما تتزايد الخسائر الإسرائيلية بوتيرة يومية. ولا تبدو هناك أي مؤشرات على إمكانية تحقيق مكاسب في حال اندلاع مواجهة مفتوحة مع إيران.