أجواء رمضان في باريس.. إقبال كبير وحركية لافتة رغم غلاء الأسعار

منتوجات رمضانية معروضة في حي برباس بالعاصمة الفرنسية باريس (الجزيرة)

باريس – يحرص محمد الأمين على المحافظة بدقة على كل عاداته وتقاليده وطقوسه الدينية الرمضانية التي حملها معه من مدينة تلمسان الجزائرية إلى فرنسا قبل 40 عاما. ويحرص على عيش كل الشعائر والأجواء الرمضانية وتمريرها إلى أبنائه وأحفاده حتى يحافظوا على هويتهم وأصولهم.

يقول الأمين "أتيت إلى فرنسا شابا قادما من مدينة تلمسان بالغرب الجزائري قبل 40 عاما. تزوجت وأنجبت أولادي في باريس، ولكنني ربيتهم تربية إسلامية صالحة وحسنة تحترم عاداتنا وتقاليدنا وتحافظ على أصول ديننا الحنيف. وما زلت أحرص بعد هذه الفترة الطويلة على الاجتماع كل رمضان مع عائلتي الموسعة، لنحتفل معا بطقوسه الروحية وعاداته الجميلة وشعائره الدينية".

محمد الأمين بمحله التجاري في بلفيل (الجزيرة)

ويتابع "لا أستطيع أن أجلس على مائدة رمضان من أول يوم إلى آخر يوم؛ إلا بعد أن يجتمع حولي كل أولادي وأحفادي وعائلتي لنعيش الأجواء الحقيقية لهذا الشهر الفضيل. ولا أخفي عنكم أنني أستحضر من خلال هذه الأجواء العائلية الحميمية وأسترجع صدى طفولتي، وما كنت أعيشه في مدينة تلمسان من أجواء رمضان صحبة أبي وجدي رحمهما الله".

الانتقام من الجائحة

ومحمد الأمين وعائلته، نموذج مصغّر للعائلات المغاربية والجالية العربية المسلمة بباريس، التي لا تفوت فرصة حلول الشهر الكريم كل عام من أجل استرجاع عاداتها وتقاليدها واستحضار الشعائر الروحية والدينية والإنسانية التي تميز الشهر الذي أنزل فيه القرآن.

حلويات رمضانية عربية في حي بلفيل بباريس (الجزيرة)

وبعد عامين من الإغلاق والضغوط النفسية والجسدية والحجر الصحي نتيجة جائحة كورونا، تعود الأجواء الرمضانية بطابعها العربي المميز بقوة إلى عاصمة الأنوار في عملية أشبه بالتنفيس والانتقام من ظروف العزلة القاسية للجائحة، وخاصة في بعض الأحياء الباريسية التي تقطنها غالبية مهاجرة مسلمة من أصول عربية، على غرار بلفيل وبرباس ومونتراي وسان دوني وأوبارفيلييه وكاتر شومان.

وتشهد هذه الأحياء الشعبية حركية تجارية لافتة وإقبالا كبيرا على المنتجات والحلويات والمرطبات العربية التي يكثر استهلاكها في هذا الشهر ويزداد الطلب عليها. وتشبه زحمة الناس في هذه الأحياء أغلب العواصم العربية الإسلامية في شهر رمضان.

وعن هذه الحركية الكبيرة والتحضيرات التي يتطلبها الشهر الفضيل، يوضح محمد الأمين صاحب محل مختص في مواد التموين المغاربية والشرقية في حي بلفيل، أنه يعايش الأجواء الرمضانية طيلة 20 عاما في هذا المحل، وقبل ذلك عايش أجواء رمضان في حي كاتر شومان لمدة 15 عاما. وتختلف النكهة والتحضيرات لهذا الشهر من منطقة لأخرى ومن فترة لأخرى.

حلويات مغاربية في باريس (الجزيرة)

يؤكد الشيخ الستيني (65 عاما) أن التحضيرات للشهر الفضيل تنطلق قبل شهر وحتى أكثر من أجل توفير كل المواد التموينية التي يكثر عليها الطلب في هذا الشهر مثل الهريسة والبرقوق وشريحة التين والحلوى الشامية والتمور بأنواعها الجزائرية والتونسية والسعودية وحتى العراقية، وكذلك التوابل الشرقية والمملحات وزيت الزيتون، ولا ينسى الأواني الفخارية التي لا يحلو الأكل في رمضان إلا فيها.

وعن الفرق بين رمضان قبل 25 عاما ورمضان اليوم، يشير الأمين إلى أن الأمور اختلفت كثيرا وهو يميل ويحن إلى رمضان في تلك الفترة لعدة أسباب. أولها كما يقول هو أن المنافسة التجارية اليوم في مهنته كثرت بشكل مستفز، حيث تكاثرت المحلات العاملة في نفس التخصص في كل مكان.

ويضيف للجزيرة نت "رمضان قبل 25 عاما أكثر حركة وبركة وأكثر تجارة وعبقه أجمل. زبائن تلك الفترة لديهم إمكانيات أكثر ولا يجادلون كثيرا في الأسعار مثل نظرائهم اليوم الذين تعوزهم الإمكانيات وأثقلتهم ضغوط الحياة وغلاء المعيشة. ومع دخول الأزمة الأوكرانية على الخط قبل رمضان تعقدت الأمور التجارية أكثر".

ولا تجذب الأجواء الروحية الإسلامية والعادات الغذائية العربية المهاجرين من العرب والمسلمين فقط، وإنما أيضا الفرنسيين والمواطنين الغربيين الذين يعيشون في هذه الأحياء أو على مقربة منها.

وهو ما يؤكده محمد الأمين، الذي تشهد طيات جبينه على خبرته التجارية والإنسانية الاجتماعية، ويقول "الفرنسيون يحبون أجواء رمضان في بلفيل ويقبلون على شراء التمور وبعض الحلويات التي لا يجدونها إلا في هذا الشهر الفضيل. وبمرور الوقت تعودوا هم أيضا على هذه الأجواء الرمضانية والروحية وصاروا ينتظرونها مثلنا بشغف".

في بلفيل أجواء رمضانية وحلويات عربية (الجزيرة)

قبلة كل الصائمين

أما منذر صاحب مطعم ومحل بيع الحلويات الرمضانية في حي بلفيل؛ فيشير إلى أن الحي قبلة كل الصائمين والمهاجرين والمغتربين العرب الذين يأتون إليه من كل المناطق والمدن الفرنسية الأخرى للتزود بحاجياتهم الرمضانية من حلويات وتمور وألبان وأجبان ومواد غذائية لا يجدونها إلا هنا بأسعار معقولة.

ويتابع قائلا "في بلفيل فقط يشعر الصائم والمغترب المغاربي والعربي بأنه في بلده، حيث يمكن أن يعيش الأجواء الرمضانية وكأنه في المدينة العتيقة بتونس العاصمة أو القيروان أو في فاس والرباط بالمغرب أو في قسنطينة أو وهران بالجزائر، هنا عبق رمضان يشبه إلى حد كبير ما نعيشه في بلداننا الأصلية لأن غالبية القاطنين هنا من البلدان المغاربية. فضلا عن الزائرين من الأحياء المجاورة وهذا ما يخلق حركية تجارية كبيرة وأجواء رمضانية جميلة ينتظرها الكل بشغف طيلة السنة".

ولاحظ أصيل مدينة سوسة التونسية أن الإقبال هذا العام كبير وفاق حتى الفترة التي سبقت الجائحة وكأن الناس تنتقم من فترة الركود والحجر الصحي وحظر التجول التي عاشوها خلال عامين من الإغلاق.

حلويات شرقية في برباس
حلويات عربية متنوعة في برباس (الجزيرة)

تكافل إنساني

نترك منذر لزبائنه في أجواء بلفيل، ونذهب إلى حي برباس الذي تقطنه غالبية مهاجرة من أصول عربية مسلمة. وحالما ندخله تعترضنا أصوات الباعة والتجار التي تخترق زحام الناس. البعض يطلب حاجته بلهفة والبعض الآخر يسرع الخطو مغادرا، فلم يبق على توقيت الإفطار إلا ساعة. وعلى جنبات الطريق تنتصب عربات الباعة وأطباقهم التي تمتلئ بشتى أنواع الحلويات من المقروض والبقلاوة والزلابية والمخارق وقلب اللوز والشباكية وكعب الغزال والمحجوبة والمحنشة، وحتى البريك والحريرة والشربة بمختلف طرق تحضيرها.

نشق الزحام بصعوبة ونتقدم نحو محل لبيع المرطبات والحلويات المغاربية، ووسط زحمة الزبائن وكثرة الطلبات، بالكاد استطعنا الحديث مع البائع منير للحظات لنسأله عن أجواء رمضان في حي برباس.

يقول الشاب الثلاثيني ذو الأصول الجزائرية للجزيرة نت " أجواء رمضان في برباس لا تشبهها أي أجواء أخرى، بل إنها تتفوق حتى على أجواء مدينتي باتنة التي قدمت منها قبل 10 سنوات".

أنواع من الحلويات والمنتجات الرمضانية في بلفيل (الجزيرة)

وعن مدى تأثر الاقبال والأسعار بالأزمة الأوكرانية الأخيرة، لاحظ أصيل مدينة باتنة (شمال شرق الجزائر) أن المحل الذي يعمل فيه -إضافة إلى بقية المحال المجاورة- يشهد إقبالا لافتا رغم أن الأسعار ارتفعت كثيرا هذه السنة مقارنة بالسنوات الماضية قبل الجائحة.

وأضاف قائلا "صحيح أن الأسعار تزايدت في الآونة الأخيرة، نتيجة غلاء المواد الأولية وندرتها، ومع ذلك يبقى الإقبال كبيرا لأن الناس مشتاقون لممارسة حياتهم الطبيعية واسترجاع عاداتهم الرمضانية بعد غياب وإغلاق عامين نتيجة فيروس كورونا. كما أن أسعار حي برباس تعدّ الأقل مقارنة حتى ببقية الأحياء الشعبية الأخرى مثل بلفيل أو سان دوني".

المصدر : الجزيرة