كيف كشف الانهيار الأزمة البنيوية للقطاع التعليمي في لبنان؟

"خلال عام ونصف من التعلم عن بُعد، نسبة كبيرة من الأطفال إما لم يتعلموا كليا أو تعلموا بشكل أقل من البدائي"

بعض أهالي طلاب المدارس الرسمية، يحتاجون لعمالة أبنائهم لدعمهم ماديا ومعيشيا - الجزيرة
وزارة التربية والتعليم تواجه انتقادات كبيرة لأدائها (الجزيرة)

بيروت- يعيش عشرات آلاف الطلاب والطالبات، بالصفوف المتوسطة والثانوية، قلقًا شديدًا على مستقبلهم، بسبب الأزمات التي تهدد القطاع التعليمي في لبنان. وهذا الأمر، تجلى أخيرًا بالدعوات الطلابية لإلغاء الشهادات الرسمية، فاستجابت وزارة التربية والتعليم العالي لإلغاء الشهادة المتوسطة، في حين أبقت على المواعيد المحددة لشهادات البكالوريا الفنية والثانوية العامة، خلال يوليو/تموز الجاري.

وبعد نحو عام ونصف من التعليم المدمج، بين الحضوري وعن بُعد، بسبب انتشار جائحة كورونا، بدأت تتكشف مشاكل القطاع التعليمي -الذي يضم أيضًا عشرات الآلاف من الطلاب السوريين النازحين- نتيجة تأثره بالانهيار التاريخي في البلاد، فصار يواجه مخاطر تهدد نوعية التعليم وجودته، وحتى استمراريته، وفق كثيرين.

ووجد خبراء أكاديميون أن لبّ المشكلة يعود للاستثمار بدعم التعليم الخاص بدل الرسمي، نظرًا لسيطرة قوى سياسية وطائفية عليه، وأن لبنان يدفع ثمن تسليع التعليم، من دون وضع خطة طوارئ بديلة، لمواجهة التحديات كتلك الراهنة.

تشابك الأزمات

يتشارك القطاع التعليمي مع مختلف القطاعات تداعيات الانهيار، وأولها الخسارة المدوية لليرة اللبنانية، إذ تجاوزت تداولاتها بالسوق السوداء عتبة الـ22 ألف ليرة مقابل الدولار، إضافة لشح المحروقات وانحلال البنى التحتية وتآكل قيمة الرواتب وتدهور القدرة الشرائية بما يتجاوز 95%.

وهنا، يلفت خير القارح، ناشط تربوي وأمين السر السابق لاتحاد لجان الأهالي وأولياء الأمور في المدارس الخاصة، أن هذه التحديات التي ترافقت مع فوضى بالشارع تجعل مصير العام الدراسي المقبل قاتما.

ويقول القارح -للجزيرة نت- إن الأهالي الذين كانوا يتمتعون باستقرار اقتصادي واجتماعي، أصبحوا عاجزين عن شراء قرطاسية أبنائهم، نتيجة ارتفاع أسعارها لأكثر من 10 أضعاف مرشحة للتصاعد، "كما ترفع بعض المدارس أقساطها، بحجة انهيار قيمة الليرة، ومن دون السماح للجان الأهالي بممارسة حقهم القانوني، بمراقبة وضع الموازنات".

المدارس الخاصة تعاني من هجرة الأساتذة أصحاب الكفاءات - الجزيرة
عدد المدارس الخاصة في لبنان يبلغ  ألفا و209 مدرسة، وتضم نحو 558 ألفا و68 طالبا (الجزيرة)

الرسمي والخاص

ويبلغ عدد المدارس الرسمية بلبنان ألفا و235 مدرسة، تضم نحو 342 ألفا و304 طلاب، ويعمل فيها نحو 40 ألفا و796 أستاذا، من بينهم نحو 17 ألفا 771 متعاقدا (يتقاضون أجورهم بنظام ساعات العمل)، وفق الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين.

بالمقابل، يشير شمس الدين -للجزيرة نت- إلى أن عدد المدارس الخاصة يبلغ ألفا و209 مدرسة، وتضم نحو 558 ألفا و68 طالبا، ويعمل فيها نحو 51 ألفا و215 أستاذا، من بينهم نحو 19 ألفا و209 متقاعدين.

أما المدارس الخاصة شبه المجانية، أي التي تحظى بدعم مالي من الدولة، فيبلغ عددها نحو 352 مدرسة، تضم 133 ألفًا و441 طالبا، وفيها 7 آلاف و468 أستاذ، من ضمنهم ألف و642 متقاعدا.

ودفعت المعاناة الاقتصادية، لهجرة نحو ألفي أستاذ وأستاذة بعد الأزمة، من أصحاب الكفاءات العالية، كما هاجر نحو 15% من أساتذة بعض المدراس، وفق ما يشير نقيب الأساتذة بالمدارس الخاصة، ردولوف عبود، لافتًا إلى أن الهجرة تأتي بعد تلقي عروض مغرية للعمل بالدول الأجنبية والعربية، أو بهدف ترك القطاع التعليمي كليًا.

وكان انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، ألحق الضرر بنحو 241 منشأة تعليميّة في بيروت وجبل لبنان، وقُدرت خسائرها بأكثر من 100 مليون دولار.

ويُذكّر عبود -عبر الجزيرة نت- أن انفجار المرفأ ضاعف أزمات المدارس، مرجحًا أن تتوجه معظمها لخيار التعليم عن بُعد، في العام 2021-2022، "لأن الصعوبات الاقتصادية تجعل من كلفة التعليم أكبر من قيمة الرواتب، ومنها كلفة التنقل للوصول إلى المدرسة، بسبب شح المحروقات وارتفاع أسعارها، إلى جانب الكلفة الباهظة لمختلف اللوازم اللوجستية للتعليم".

أين الوازرة؟

وتواجه وزارة التربية والتعليم انتقادات كبيرة لأدائها، واعتبر كثيرون أن قراراتها لم تحاك واقع الأزمة وضغوطها، كالإصرار على إجراء الامتحانات الرسمية.

وهنا، تشير مديرة الإرشاد والتوجيه في وزارة التربية، هيلدا الخوري، أن أزمات لبنان، تعدّ الأصعب على القطاع التربوي الذي يحتاج لدعم الدولة بكامل وزاراتها ومؤسساتها، "لأن مسؤولية التربية تتخطى وزارة التربية".

وتدعو -في حديث للجزيرة نت- إلى التعاطي بصورة عملية مع الأزمة، مذكرةً بمشروع الـ500 مليار ليرة (نحو 334 مليون دولار وفق سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات)، الذي سبق أن اقترحه وزير التربية طارق المجذوب بموافقة الحكومة وينتظر إقراره بالبرلمان، ومن شأنه أن "يساعد المدارس الرسمية والخاصة. بالإضافة إلى طلب الوزير تأمين منحة طلابية للأهل لتأمين القرطاسية والكتب للعام الدراسي الجديد".

وتشير الخوري إلى أن الوزارة بصدد تحضير خطة كاملة للعام الدراسي القادم بالتعاون مع شركائها والدول المانحة، لاجتياز المرحلة بأقل الخسائر "لكن تنفيذها يتطلب تضافر جميع الجهود بالدولة".

ومن المهم -وفقها لهيلدا- أن يصار إلى تصحيح الرواتب والأجور للمعلمين والعاملين بالقطاع التربوي، لأن قيمتها تدنت إلى مستوى غير مقبول.

وتربط مديرة التوجيه ثغرات القطاع التعليمي بعدم تحديث المناهج اللبنانية منذ عام 1997، وأن استعمال التكنولوجيا الذي فرضته كورونا بالتعليم عن بعد "كان يتطلب مناهج أكثر مرونة، ولم تكن الهيئة التعليمية والبنى التحتية جاهزة لها".

وتشير إلى أن وزير التربية أصر أن يعامل جميع المتعلمين على نفس الأسس، بغض النظر عن جنسياتهم، "لكن الوضع الاقتصادي أثّر سلبًا على الجميع".

جرى دعم التعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي - الجزيرة
ترفع بعض المدارس أقساطها، بحجة انهيار قيمة الليرة من دون السماح للجان الأهالي بمراقبة وضع الموازنات (الجزيرة)

الانهيار البنيوي

ونبّه البنك الدولي في يونيو/حزيران 2021، من انخفاض مستويات التعلّم وعدم المواءمة بين المهارات واحتياجات السوق، "مما يعرّض مستقبل الأجيال الصاعدة بلبنان للخطر".

وهنا، تعتبر سوزان أبو رجيلي، أستاذة وباحثة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية ورئيسة الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، أن الأزمة الراهنة كشفت عن أن القطاع التربوي مأزوم بنيويًا وهيكليًا، ويعيش شبه انهيار، لاعتبارات عدّة، تذكر -للجزيرة نت- بعضها:

  • أولًا، تبدو قرارات وزارة التربية على مستوى الإدارة الرسمية للنظام التربوي، منفصلة عن الواقع، فلجأت إلى خيارات من دون إعداد الطلاب والمدراء والأساتذة؛ فوجد الطلاب وذووهم أنهم متروكون، ناهيك عن تهميش شريحة واسعة من طلاب المدارس الرسمية، مما كرّس مفهوم "الطبقية بالتعلم"، وفقها.
  • ثانيًا، يواجه الأساتذة -نتيجة الظروف الاقتصادية والمهنية- الأزمة وحيدين، فقضمت بعض المدارس الخاصة رواتبهم، في حين خسرت رواتب أساتذة القطاع الرسمي كامل قيمتها، وصار معدلها يوازي أقل من 80 دولار شهريا.
  • ثالثًا، حوكمة النظام التعليمي أعطى السلطة المطلقة للقطاع الخاص، وتتجه معظم مدارسه لزيادة أقساطها من دون أن تلحظ معاناة الناس، ومن دون رقابة، لأن هدف عدد كبير منها التجارة الربحية فقط.
  • رابعًا، يواجه التعليم بلبنان خطر نقص الفعالية والجدوى، الذي يفاقم ظاهرة التسرب المدرسي، كما أن بعض أهالي طلاب المدارس الرسمية، يحتاجون لعمالة أبنائهم لدعمهم ماديا ومعيشيا.
  • خامسًا، خلال عامٍ ونصف من التعلم عن بُعد -ولأن نسبة كبيرة من الأطفال إما لم يتعلموا كليا، وإما تعلموا بشكل أقل من بدائي- ستظهر قريبا أزمة قرائية وكتابية لدى الأعمار الصغيرة.

وتتوقع أبو رجيلي أن تتفاقم معدلات النزوح من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي بسبب الأزمة الاقتصادية، خاصة أن الفترة السابقة شهدت على نزوح نحو 60 ألف طالب.

لكن القطاع الرسمي -وفق أبو رجيلي- غير قادر على احتواء الطلاب الجدد، بسبب محدودية المقاعد المدرسية، ولقلة عدد الأساتذة، وغياب الإستراتيجية التعليمية.

وتعتبر الأستاذة الجامعية، أن لبنان خسر موقعه الريادي بالتعليم، قبل أزمة 2019، وهو ما تدل عليه نتائج الاختبارات الدولية، لعدم مواكبتها احتياجات العصر.

وتعمل سوزان أبو رجيلي حاليًا ضمن لجنة بالمركز التربوي للبحوث والإنماء، لوضع تصور جديد للمناهج، ضمن الإمكانيات المتاحة، وأن يرتكز على التشاور مع كل أفراد العائلة التربوية "بهدف إنتاج مناهج تراعي تطورات الواقع".

وتدعو الأكاديمية السلطات المعنية، لضرورة اعتماد مقاربة جديدة للملف التربوي، ومعالجة جذور الأزمة، لرسم عقد اجتماعي تربوي جديد، "لأنها مشكلة مجتمع لبناني، بينما دور التعليم أن يساهم بإعادة التربية على القيم، وأن نسأل ما هي أولوياتنا، وأي أنسان نريده للقرن الـ21".

المصدر : الجزيرة