ما خفي من عوالم المسحراتية في مصر

لا يرى المصريون إلا جانبا من حياة كائنات الليل الرمضاني المسماة بـ"المسحراتية"، الجانب المثير للانزعاج أو البهجة، بينما تتوارى وراء مسيرة انطلاق المسحراتية الليلية تفاصيل مثيرة للأسى والاستياء.

المسحراتي في مصر
مسحراتية في مصر والأطفال مبتهجون حول إيقاعات طبلتها (الأوروبية)

هناك، في جوف ليالي شهر رمضان، من يظل متيقظا حتى تدق الساعة منتصف الليل، ليهبّ من أعماق الظلام فيشق صمت الليل، قارعا الطبول، مناديا النائمين للصحو، وهو يدق دقات عنيفة على الطبول المشدودة بإحكام.

هم كائنات الليل الرمضاني، أو المسحراتية، تلك الكلمة التي كانت تثير في النفوس حنينا للماضي القريب، قبل انتشار الفضائيات التي لا تنام. واليوم انقسم الناس إزاء المسحراتية، بعضهم منزعج منهم وآخرون -وخاصة الأطفال- مبتهجون لمرآهم.

وفي جلسات غير معلنة، وقبيل انطلاق أولى ليالي نشاط المسحراتية، تجري بين أبناء المهنة الموسمية العابرة، الترتيبات السرية لعالم الليل السحري للمسحراتية.

المسحراتية سماح

سماح، مسحراتية شابة في منتصف العقد الثالث من العمر، وقفت مطلع رمضان الحالي قرب مدخل أحد التجمعات السكنية المغلقة بمحافظة الجيزة، تطلب من مسؤول الأمن الإذن بالدخول، فرفض بحسم منعا لإزعاج السكان.

المسحراتية ذات جسد ضئيل، لدرجة أنها لا تستطيع حمل الطبلة طوال الطريق فتعلقها على مقود دراجة تسير بها في الشوارع، فوجئت بأن أكثر من منطقة ذات أسوار وبوابات ويمنع التجول فيها.

تشكو سماح بأسى: "اتفقت على دفع 500 جنيه (الدولار نحو 15.60 جنيها) لشحاتة، وهو مسحراتي عجوز كان يحتكر هذه المنطقة، دفعتها على دفعتين من عوائد جولاتي الأولى، بحسب اتفاقي معه".

ولاحقا اكتشفت سماح أن المسحراتي العجوز وضع منذ زمن يده على مناطق شاسعة كان يمر بها، ثم تنازل عنها لمسحراتي أو أكثر، مكتفيا بمال يتقاضاه منهم مقابل هذا التنازل، بعد أن يجلس معهم مرة أو مرتين يلقنهم فيها بعض أصول المهنة، ومنها مقاطع المديح بأسماء السكان وعناوين مساكنهم.

كريمة المسحراتية تعمل بدلا من زوجها الكفيف. (تصوير خاص لكريمة المسحراتية أثناء تجوالها بالقرية ـ يونيو 2017 ـ أسيوط ـ مصر)
كريمة المسحراتية يتجمع الأطفال حولها كل ليلة (الجزيرة)

مناطق شحاتة

لا يستطيع أحد أن يعمل في هذه المناطق إلا بإذن شحاتة، فهو -بحكم أنه كان يعمل فيها منذ شبابه قبل نصف قرن- يعرف كثيرا من سكانها بالاسم، ويعرفونه، ولو تواصل معهم فإنه يمكنه تحذيرهم من التعامل مع أي مسحراتي جديد، باتهامه بأنه لص مثلا أو متسول، بحسب سماح في حديثها للجزيرة نت.

قبل رمضان بشهرين، قعد زوج سماح عن العمل بسبب مرضه، فعملت في أعمال لا تمنعها عن مراعاة صغارها وهم بجوارها، كبيع الخضروات والفواكه على قارعة الطريق، "لكن العوائد لم تكن تكفي احتياجات الأسرة ومتطلبات علاج الزوج".

سعت سماح لمصدر دخل إضافي، فتوسط لها أحد الجيران لدى المسحراتي العجوز الذي تنازل لها عن جزء من منطقة عمله، مقابل بعض من دخلها المتوقع من جولاتها الليلية.

هذا الدخل متفاوت، فيحدث في ليلة أن تنزل السلال من إحدى الشرفات للمسحراتية الشابة حاملة بضع جنيهات، ومرة توضع إلى جانب الجنيهات أطعمة للسحور مثل الزبادي والبيض المسلوق وبعض أرغفة الخبز، وأحيانا يكتفي السكان بوضع الأطعمة فقط.

مدائح وأسماء

تستخدم سماح نبرة صوت عالية جدا، من المدهش أن تخرج من حنجرتها الصغيرة، للنداء على السكان بأسماء وجهاء المنطقة وكرمائها، وهي أسماء لقنها إياها المسحراتي العجوز. تقرع الطبلة ثم تنادي باسم واحد من السكان حينما تقترب من المنزل الذي يسكنه، "فهي الوسيلة الأنجح لدفع الناس للدفع، لكنها لا تنجح كل ليلة".

ومن تلك المدائح التي حفظتها عن شحاته: "الحاجة سارة دي ست الخير.. خيرها على الصغير والكبير"، و"يا باش مهندس محمد يا أبو الكرم والجود.. اصحى وصحي رنا وأحمد ومحمود".

ورغم هذه الأهازيج التي تنجح أحيانا في دفع السكان للدفع، فإنها سببت لها حرجا أكثر من مرة، حينما نادت على اسم رجل، فخرجت لها زوجته بالشرفة تنهرها بعدم النداء عليه مجددا، ومرة نادت على اسم سيدة، فأطلت لها ابنتها لتقول لها إنها توفيت بفيروس كورونا منذ شهور.

هذان خصمان

في فيلا مهجورة بمنطقة الهرم، يملكها أحد رجال الأعمال الذين كانوا نجوما خلال عقد الثمانينيات بالقرن الماضي، ثم حُبِس، تولى بواب الفيلا عقد اجتماع في حديقة الفيلا بين اثنين متنازعين من أصدقائه المسحراتية.

الاثنان، حمدان وصبحي، تشاجرا في رمضان الماضي أكثر من مرة، بسبب صدامهما المستمر كلما التقيا أثناء الجولات الليلية في شارع من الشوارع التي يعملان بها.

ورغم أنهما اتفقا العام الماضي على تقاسم الشوارع بينهما، فإن الخلاف كان يقع حينما يتعمد صبحي -بحسب رواية حمدان للجزيرة نت- خرق الاتفاق، وذلك ببدء جولته مبكرا قليلا عن موعده، ليسبق منافسه في منطقة عمله لأن عوائدها أوفر.

كان حمدان يحمل طبلته الكبيرة فوق كتفه، وما إن يبدأ جولته قارعا الطبلة، حتى تطل الرؤوس من النوافذ والشرفات لتنهره بدلا من أن تشكره، ساخرين من قيامه بالجولة بعد صديقه.

قبيل رمضان الحالي، طلب حمدان تدخل صديقهما المشترك لإيجاد حل يمنع تجدد النزاع، فجمعهما البواب وفرد أمامهما ورقة رسم عليها بقلمه خريطة بالمناطق المتنازع عليها، وقسمها عليهما بعد مفاوضات شاقة، تمسك خلالها كلاهما بشوارع يعرفان أصحابها ويعرفونهما، وهم كرماء بطبعهم رغم أنهم سكان مناطق شعبية بسيطة، وفيها دفء وترحاب أكبر بقدوم المسحراتي خلاف المناطق الراقية.

اتفق المتنافسان في النهاية بعد جهد، فألزمهما صديقهما البواب بالقسم على تنفيذ الاتفاق، وأردف ذلك بقراءة الفاتحة جماعيا على التنفيذ.

المتنافسان يعودان لعملهما

وبانتهاء رمضان، يعود المتنافسان للتفرغ تماما لعملهما الأصلي، فحمدان سائس سيارات، بينما يعمل صبحي بالمحارة، في أعمال مقاولات باتت قليلة، أما العمل الموسمي مسحراتيا، فرغم أنه مؤقت، فإنه يساعد بعوائده في نفقات رمضان والعيد، و"هو عموما عمل أفضل من التسول المذموم، إذ ينظر البعض للمسحراتي كمتسول مُقّنع"، بحسب تعبير صبحي للجزيرة نت.

المسحراتية كريمة

أما كريمة، وهي مسحراتية تعمل للعام الخامس على التوالي في إحدى قرى محافظة أسيوط جنوبا، فقد حلّت في العمل الموسمي مسحراتية بديلا عن زوجها الكفيف، الذي لم يعد بمقدوره القيام بجولات ليلية، كانت تصحبه فيها دليلة ومرشدة.

لم ترث كريمة طبلة زوجها ولا مفردات مهنته الموسمية وحسب، بل ورثت كذلك مشاكل المهنة، ومنها تعرضها للمضايقات من المسحراتية الرجال الذين يظنون فيها الضعف كونها امرأة، محاولين الجور عليها بالشوارع التي تعمل بها، ومزاحمتها فيه، لدرجة أنهم يتعمدون الدخول في شوارع تمر بها فيسرعون الخطى بها استباقا لها.

تحكي كريمة للجزيرة نت عبر الهاتف: يستغلون أن حناجرهم -باعتبارهم رجالا- أقوى، فيرفعون أصواتهم بالنداء وهم يطرقون بعنف على الطبلة مقارنة بطرقاتي الهينة (البسيطة)"، ولكن "يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

كريمة المسحراتية تعمل بدلا من زوجها الكفيف. (تصوير خاص لكريمة المسحراتية أثناء تجوالها بالقرية ـ يونيو 2017 ـ أسيوط ـ مصر)
كريمة المسحراتية أثناء تجوالها في القرية (الجزيرة)

وقد جاءت سلوكياتهم تلك بنتيجة عكسية، إذ أبدى الأهالي غضبا من هذه الطريقة "المزعجة"، فيما أعربوا عن تعاطفهم معها، وعبروا عن ذلك بمنحها هي -وليس المسحراتي الرجل- المال والطعام.

أما الأطفال، فقد تعلقوا بها وأحبوا طريقتها ذات الطرقات الهينة على الطبلة، ليصطحبوها أمتارا، يسلمها أطفال شارع لآخرين، وهو ما يمثل "أنسا" لها من الليل وكلاب القرية، فضلا عما يدفعونه لها من جنيهات قليلة لكنها تجعلها سعيدة وراضية، لأنها أصبحت صديقتهم بصبرها عليهم.

ويبقى الغاطس من أسرار عوالم الليل السرية للمسحراتية، أكثر مما يراه المتسحرون من الشرفات ومن وراء النوافذ، ومما يكشفه المسحراتية عن أنفسهم بأنفسهم.

المصدر : الجزيرة