إعلان "مدينتي" يزعج المصريين.. هل تمنح أسوار المدن الأمان للأثرياء الجدد؟

إعلان مدينتي يزعج المصريون.. هل تمنح أسوار المدن الأمان للأثرياء الجدد؟ (بيكسلز)
تحولت المجتمعات العقارية الجديدة إلى فقاعة داخل المدينة (بيكسلز)

سارة عابدين

في الإعلان قبل الأخير لـ "مدينتي" الأغلى والأكثر رأسمالية في مجتمعات القاهرة الجديدة، كانت المطربة أصالة تغني "مدينتي.. مدينتي" بصوت أوبرالي وأداء حماسي، حتى أن رواد مواقع التواصل تناولوا الإعلان بسخرية متندرين، بقولهم إن "مدينتي" سوف تعلن الاستقلال عن مصر، خاصة مع تأكيد الإعلان على مميزات مجتمعها الذي يبدو مثاليا. تلك المميزات التي يتطلع إليها أغلب البشر في أي مكان بالعالم.

لكن مع إثارة أحدث إعلانات "مدينتي" للجدل مجددا، يبدو أن مبدأ ترسيخ الطبقية صار هدفا للقائمين على الترويج لذلك المجتمع الرأسمالي، إذ يؤكد الإعلان فردانية سكان المدينة، خاصة مع جملة "الناس كلهم شبه بعض، والكميونتي هنا حلوة".

ورغم موجة السخرية من الإعلان على مواقع التواصل، وغضب رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى (مالك هذا المشروع السكني الضخم) فإن إعلان "مدينتي" ليس الوحيد الذي يرسخ للعزلة والانفصال، لكن أغلب إعلانات المجمعات السكنية الرأسمالية تؤكد تلك الميزة (الانعزال) لأن ملاكها يعرفون جيدا ما ترغب فيه الطبقة التي تقبل على الشراء، وكيف تخشى الأخيرة الاختلاط مع أي مختلف عنهم اقتصاديا وثقافيا.

أحلام مشروعة
يحلم الجميع بمختلف المستويات الاجتماعية بالسكن في مكان نظيف وراق يضمن كل الخدمات ووسائل الترفيه، مكان به أماكن خضراء وبيوت سكنية يدخلها ضوء الشمس.

كل منا يرغب في الحياة بالقرب من بشر يشبهونه في الأفكار والأحلام وطريقة الحياة، لكن ذلك لا يمنع أن فكرة الاختلاط بين البشر بالرغم من اختلافهم هي المعنى الأهم للوجود في الحياة، والسبب الرئيسي لتطور البشر اجتماعيا، وإنسانيا وحتى فيزيائيا وجسمانيا.

لكن أسوأ ما في تلك الفضاءات والمجتمعات ترسيخ صعوبة الحياة مع البشر المختلفين بأي شكل من الأشكال، خاصة الأقل اقتصاديا، وكأن سكان المجتمع المثالي يرغبون في النأي بأنفسهم بعيدا عن سموم الآخر المختلف "الفقير" ليعيشوا حياتهم بالكامل في جزيرتهم البعيدة المنعزلة.

يُطرح هنا تساؤل: هل يمكن أن تتحول تلك المجتمعات إلى ملجأ لكل جماعة مختلفة، ترغب في الانعزال، واجتناب النظر العميق في الاختلافات بين البشر وطرق حلها، وهل تصبح تلك المجتمعات المنعزلة نواة المجتمع المستقبلي بعيدا عن التواصل الذي كانت تقوم عليه المجتمعات لأزمنة طويلة؟

يتصرف الإنسان تبعا للدوافع والحاجات التي تحرك سلوكه، وفقا لعالم النفس الأميركي إبراهام ماسلو، وتأتي الحاجة للشعور بالأمان، تتلوها مباشرة الحاجات الفسيولوجية الإنسانية، ويضم الشعور بالأمان الرغبة في سلامة الجسد والبعد عن الألم ووجود مسكن مناسب، وكل ما يتضمنه معنى الشعور بالأمان، خاصة العالم الجديد، حيث تظهر بوضوح النزعة الإقصائية الانعزالية في أسوأ صورها.

ويظهر تأثيرها في العواصم الكبرى، حيث تكونت مجتمعات جديدة تحاول توفير الأمان والرفاهية لأصحابها بعزلهم عن المجتمع المحيط بهم، عن طريق الأنظمة الأمنية المبالغ فيها، والمراقبة المستمرة داخل المجتمع المغلق.

المجتمعات المغلقة أصبحت هدفا للأثرياء لرغبتهم في عدم الاحتكاك بالفقراء بأيٍ من صور التواصل الإنساني (بيكسلز)
المجتمعات المغلقة أصبحت هدفا للأثرياء لرغبتهم في عدم الاحتكاك بالفقراء بأيٍ من صور التواصل الإنساني (بيكسلز)

الثروة والعزلة
يذهب علماء الاجتماع بالفعل إلى أنه كلما زادت ثروة الشخص كانت حياته أكثر عزلة، وأصبح تفاعله المجتمعي أقل، طلبا للأمان وخوفا على حياته وعائلته وثروته.

ويحلل الفيلسوف الألماني زيغمونت باومان تلك الظاهرة العالمية في كتابه "الحب السائل" معتبرا أن الأثرياء يحولون حياتهم بالكامل اجتماعيا وإنسانيا داخل المجتمعات العقارية الجديدة باعتبارها "فقاعة" توجد داخل المدينة، لكنها بالفعل خارج المدينة.

ويحاول بها الأثرياء القادرون على تكوين حياة خاصة لهم، تختلف عن الحياة السائدة في المدينة بالكامل، عن طريق الانفصال اقتصاديا واجتماعيا عن من هم أقل منهم ماديا أو اجتماعيا أو ثقافيا، أو عن طريق اقترابهم من أناس يشبهونهم في الأفكار وطريقة الحياة.

لا توجد تلك المجتمعات المنغلقة في مصر فقط، ولكنها اتجاه عالمي ظهر في العالم بالكامل مع تنامي الرأسمالية ورغبة أصحاب رأس المال في فصل أنفسهم عن المجتمعات الأكثر فقرا، وشعورهم المستمر بالقلق ورغبتهم في شراء الأمان ماليا.

تسببت تلك المجتمعات المغلقة الجديدة في زيادة الهوة الطبقية والاقتصادية بين سكان البلد الواحد، وأصبحت واحدة من علامات التفكك الاجتماعي لأن الغرض منها التقسيم والعزل والإقصاء وليس التواصل وتسهيل العلاقات الاجتماعية، خاصة مع انتشار فيروس كورونا والتأكيد المستمر على فكرة التباعد الاجتماعي وعدم الازدحام، فأصبح سكان المناطق المنعزلة الراقية ينظرون إلى الفقراء أو سكان الأماكن المزدحمة على أنهم المتسبب الأساسي في نشر الفيروس.

يوتوبيا القاهرة الجديدة
في روايته "يوتوبيا" المنشورة عام 2008، تنبأ الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق بانقسام المجتمع إلى طبقتين إحداهما شديدة الثراء والأخرى شديدة الفقر، حيث يعيش الأثرياء في مجتمع يوتوبيا بالساحل الشمالي، والمحاط بأسوار مرتفعة، ويحرس سكانه قوات المارينز، حيث جل مشكلات ذلك المجتمع هي المعاناة من الملل بسبب تخمة الخدمات ووسائل الترفيه المتاحة لديهم، حتى أنهم لم يعد لديهم وسيلة للترفيه سوى صيد الفقراء من الأحياء الشعبية وقتلهم والاحتفاظ بأجزاء من أجسامهم للذكرى والتفاخر بين الأصدقاء في المجتمع الذي يشبههم.

في حين يعاني الفقراء في باقي أنحاء مصر من الفقر والمرض والإدمان الذي يصبح الوسيلة الوحيدة للهروب من الواقع والاستمرار في العيش، حسب الرواية التي تتنبأ بأحوال البلاد عام 2023. ورغم القسوة الشديدة في وصف الكاتب للفجوة بين المجتمعين، فإن الواقع الحالي يرسخ لدى المصريين فكرة ضرورة العزلة، والاحتماء بالأسوار بين أناس يشبهونهم في الثراء، خشية المجتمع الخارجي المليء بالفقراء والمحتاجين.

أسوار غير كافية
ولكن رغم الإجراءات الأمنية المشددة، لم تخل مدينتا "الرحاب، مدينتي" المملوكتان لرجل الأعمال هشام طلعت مصطفى من عدة حوادث جنائية أثارت ذعر القاطنين بهما، إلى جانب عدد كبير من حوادث السرقة.

ففي أغسطس/آب 2018، استدرج أحدهم شابا أراد خطبة ابنته إلى إحدى وحدات "الرحاب" وقتله بمساعدة آخرين، وقام بدفن جثته داخل الشقة، والتي تم العثور عليها بعد أيام، كما شهدت المدينة جريمة قتل أسرة مكونة من خمسة أفراد، ولم ينتبه الجيران للجريمة إلا بعد عدة أيام، لكنها قيدت ضد مجهول.

وكذلك شهدت "مدينتي" جريمة مروعة عام 2017، قتل فيها طفل عمره أربع سنوات، وألقيت جثته بجوار أحد المساجد.

لكن الأمان الذي ينشده الأثرياء والفقراء معا لا يتحقق بالعزلة خلف الأسوار، وإنما بالتكافل والتواصل المستمر، فالأسوار تمنح الشعور بالخصوصية والتفرد والهدوء أحيانا، لكنها غير قادرة على منح القانطين خلفها الشعور بالأمن.

 
المصدر : الجزيرة