حانوت "أبو آشور" شاهد على قرن من صناعة الخناجر بشمال سوريا

حانوت ابو آشور للنجارة قرن على صناعة الخناجر
أبو آشور: ورثت مهنة صنع الخناجر من جدي ووالدي (الجزيرة)

لامار أركندي-القامشلي

أمام محل قديم من جهة اليسار لسوق "عذرا" الشعبي وسط مدينة القامشلي، شمالي شرقي سوريا، تستوقفك شرارات الحديد المتطايرة الذي يعكس في بريقه عظمة الماضي الذي يستحضر رونقه الجذاب الحرفي "أبو  آشور" في أشكال الخناجر التي ينهمك لساعات طويلة في صناعتها داخل حانوته الطيني الذي ورثه عن والده وجده قبل قرن.

توارثها من جده ووالده
يمتهن أبو آشور (60 عاما) مهنة النجارة وصنع الخناجر وبيع الغرابيل والحبال والأدوات الزراعية والتي توارثها من جده ووالده، ويحاول دوما إنعاشها ونفض الغبار عنها غير آبه بالتعب وهو يشكل من الحديد والمعادن خناجر بمقابض ملساء ناعمة، يفوح منها عبق التاريخ وشجاعة الأجداد، في صناعة شارفت على الاندثار سريعا خلال السنوات الماضية، كما يقول للجزيرة نت.

‪أبو آشور: استذكر عبق التاريخ وشجاعة الأجداد لصناعة شارفت على الاندثار سريعا خلال السنوات الماضية‬ (الجزيرة)
‪أبو آشور: استذكر عبق التاريخ وشجاعة الأجداد لصناعة شارفت على الاندثار سريعا خلال السنوات الماضية‬ (الجزيرة)

مراحل تصنيع الخنجر
ويقول أبو آشور للجزيرة نت "يمر الخنجر بمراحل عديدة حتى يظهر بصورته النهائية المعروفة، ومرحلة حف الحديد وتنعيمه هي أطولها".

تبدأ مراحل تصنيع الخنجر بطرْق الحديد وحفه ومعالجته ليصبح من الفولاذ قبل تشكيل نصل الخنجر، ويرسم شكل الخنجر أو "الشبرية"، كما تعرف باللهجة العامية، على قطعة من الجلد وقطعتين من الخشب، وتصميمه المعروف في منطقة القامشلي وما حولها يكون معكوفاً أو أكثر انحناء في نهايته، ويتم جمعهما على شكل خنجر.

ثم يثقب ثقبان على الشكل الخشبي بمثقاب يدوي، ويُدخل في الفتحتين مسامير خشبية، وتأتي بعدها مرحلة تمليس سطح القطعتين الخشبيتين بإتقان بالمبرد، وفصلهما وتجويف كل منهما تجويفا يأخذ شكل شفرة الخنجر باستخدام المطرقة.

ويتم إدخال طرف الشفرة في فتحة المقبض المعدة لها وتثبيتها بالمسامير ولحمها وتمليسها لإخفاء آثار اللحام ليصبح الغمد جاهزا وانسيابيا لا نتوء فيه، بحسب أبو آشور.

‪طول الشبرية (شكل الخنجر) يتراوح عادة بين 25 و50 سنتيمترا‬ (الجزيرة)
‪طول الشبرية (شكل الخنجر) يتراوح عادة بين 25 و50 سنتيمترا‬ (الجزيرة)

صناعة الخناجر تواجه الاندثار
ويبين أبو آشور أن صناعة الخناجر باتت على مشارف الزوال، مضيفا أن أجداده حرصوا على توريث هذه الصناعة إلى أبنائهم، وهو يسعى بدوره إلى توريثها لأبنائه وأحفاده، فهي الصناعة التي اشتهرت بها العائلة منذ 100 عام تقريبا، مشيرا إلى أن أبناء هذا الجيل قلما يميلون للحرف القديمة وممارستها لمجرد الهواية.

ويستذكر أبو آشور عشرات الخناجر التي كان يعلقها جده ووالده على أبواب الحانوت الخشبي من الداخل، لا سيما حين كانت تفتح بوابتا المحل الخشبيتان على مصراعيهما للباعة والمشترين قبل نصف قرن أو أكثر.

ويضيف "كان والدي وجدي يستخدمان في صناعة مقابض الخناجر الفولاذ وخيوط الذهب والفضة والعاج والقصدير وخشب الحور ثم يلبسونها بصفائح الحديد".

ويتراوح طول الشبرية عادة بين 25 و50 سنتيمترا، لكن الآن وبسبب غلاء الأسعار وعدم توفر المواد الأولية كما في السابق، باتت تصنع الخناجر من الحديد والخشب فقط.

‪أبو آشور يرفض هدم حانوته وبناء آخر على الطراز الحديث رغم عروض متعهدي البناء والمهندسين المعماريين المغرية‬ (الجزيرة)
‪أبو آشور يرفض هدم حانوته وبناء آخر على الطراز الحديث رغم عروض متعهدي البناء والمهندسين المعماريين المغرية‬ (الجزيرة)

من سلاح إلى قطع زينة
وتطورت صناعة الحناجر بمرور الزمن، ورافقت حاجة الإنسان إليها للدفاع بها عن نفسه في زمن لم تكن فيه الأسلحة المعروفة اليوم قد ظهرت، كما يقول الحرفي الستيني للجزيرة نت.

ونشطت صناعة الخناجر في الماضي وكانت بدورها سلعة رائجة في المدينة ونواحيها لكونها قطعة أساسية يحملها الرجل للتفاخر والزينة، وفي الوقت نفسه سلاحا خفيفا وفتاكا للاحتراز من اللصوص وقطاع الطرق وخاصة للمسافرين، ولكن اليوم صار يحتفظ بها بوصفها قطعا تقليدية جميلة وتراثا قديما تزيّنُ به جدران البيوت وأماكن عرض التحف.

واشتهرت الخناجر في مدينة القامشلي منذ بناء المدينة بداية القرن الماضي، إذ تعتبر من المدن الحديثة مقارنة بالمدن القديمة الأخرى كحلب ودمشق، وهي مدن تاريخية وعمرها تجاوز آلاف السنوات.

ذكريات الزمن الجميل
ويرفض أبو آشور هدم حانوته وبناء آخر جديد على الطراز الحديث، رغم العروض المغرية المقدمة له من قبل متعهدي البناء والمهندسين المعماريين.

وعن احتفاظه بدكانه الطيني وتركه على حاله كما ورثه عن والده وهو الآخر ورثه عن أبيه، قال "لا تزال ذكريات الماضي عالقة بكل ركن وزاوية، ولا أزال استخدم مقشرة جدي القديمة وسلمه الخشبي الذي صنعه بيديه والذي لا يزال محافظا على متانته وصالحا للاستخدام لليوم".

فجدران المحل تحفظ بين طوبها ذكريات الزمن الجميل الذي عاشه في طفولته، مؤكدا "محال أن ننسلخ عن كل ما يذكرنا بالأيام الجميلة التي عشناها، وأذكر حين كنت أتدرج بصحبة جدي ووالدي صباح كل يوم لنفتح أبواب حانوتنا الخشبي ببطء لنخرج عشرات الخناجر الجميلة المزخرفة بالفضة والمعلقة بالباب من الداخل، ولا تزال تلك المشاهد الجميلة محفورة بذاكرتي".

وعبر أبو آشور عن أسفه لاندثار عشرات الحرف والمهن الشعبية التي امتهنها الأجداد ونالوا من بيعها قوت أيامهم، وقال "التراث الشعبي هو هوية الشعوب بما يحمله من موروث حضاري يرسم ملامح الزمن القديم، ونتيجة للإهمال كثير منها صار إلى الزوال".

المصدر : الجزيرة