مزارع تربوية في الرباط تعلم الأطفال بالتجريب وتعيد للكبار ذكرياتهم

حين استقبال الأطفال بخيمة تقليدية وتقديم إفطار تقليدي
خيمة وإفطار تقليدي (الجزيرة)

مريم التايدي-الرباط

عدّل إسماعيل ذو العشر سنوات نظاراته السوداء بظهر كفه، قبل أن يعيد يديه الصغيرتين لقصعة صغيرة أمامه، ويَغمِسها في العجين، وقال بثقة عالية وبريق فرح بعينه "نعم أصبحت أعرف كيف أعجن، وكيف يُهيأ الخبز".

وبشكل دائري جلس إسماعيل القرفصاء إلى جانب أصدقائه الصغار لكل واحد منهم قصعته وبعض الدقيق وملح وماء، وعجنوا خبزا مع ضحكاتهم ومرحهم، يتنافسون بينهم حول من يعرف طريقة العجن أكثر، ومن سيمتزج خليطه أولا.

‪يقومون بعجن الخبز يدويا في قصعات صغيرة‬ يقومون بعجن الخبز يدويا في قصعات صغيرة (الجزيرة)
‪يقومون بعجن الخبز يدويا في قصعات صغيرة‬ يقومون بعجن الخبز يدويا في قصعات صغيرة (الجزيرة)

التعلم بالتجريب
كانت أيادي إسماعيل ورفاقه في مدرسة قوس قزح الكبير مخضبة بالعجين، وهم يستمعون باهتمام للشرح الذي تقدمه المدربة عن مسار القمح من مرحلة الحبوب إلى أن يصبح خبزا طازجا، سيأخذونه معهم نهاية يومهم التربوي بضيعة بيداغوجية (مزرعة تربوية تدريبية) ضواحي الرباط، وقد وضعت أمامهم رحى حجرية صغيرة وسنابل جافة، وبالقرب منهم فرن تقليدي وحطب.

ورشة صناعة الخبز واحدة من عشرين ورشة للتعلم عبر التجريب والتحسس، والنظر عن قرب بعيدا عن التجريد، تقدمها مزرعة طازوطا، في تجربة نموذجية لتقريب حياة البادية من أطفال المدارس والأطفال عموما.

‪عينات حبوب معروضة ليتعرف عليها الأطفال‬ عينات حبوب معروضة ليتعرف عليها الأطفال (الجزيرة)
‪عينات حبوب معروضة ليتعرف عليها الأطفال‬ عينات حبوب معروضة ليتعرف عليها الأطفال (الجزيرة)

قرية على مشارف العاصمة
الضيعة البيداغوجية خطوة تربوية وترفيهية تجعل الأطفال يعيشون يوما استثنائيا، حيث يستفيدون من برنامج معد مع خبراء تربويين يعرفهم على حياة البادية وأجوائها، وعلى الأنشطة الفلاحية، وحيوانات الضيعة والأعمال القروية كالنسج والحرث والحلب والبستنة.

الجزيرة نت رافقت تلاميذ مدرسة قوس قزح الكبير (le grandarc en ciel) في رحلة ترفيهية نحو ضيعة طازوطا التي تقع على بعد عشرين دقيقة من ضواحي الرباط العاصمة، وتمتد على مساحة هكتار وربع هكتار. كما عايشت استعداد الأطفال للرحلة، ولاحظت كيف كانت أحلامهم وتصوراتهم تسبقهم.

ما إن تلج المزرعة حتى تتغير إحداثيات المدنية ومعالم الحداثة، لتُلقي بك رائحة خبز القمح الطازج، ودخان الحطب والخيام التقليدية في عمق البداوة. كل شيء هنا تقليدي، جلسات معدة على النمط القديم مغطاة بأنسجة من مختلف مناطق المغرب، قليل من تراث الشمال، وبعض من زرابي الأمازيغ، وخيام رحل الصحراء، وحنابل من عمق قبائل دكالة (وسط).

أفران تقليدية بالحطب، وطرق طهي تقليدية، وأكل من زمن الأجداد، وفلاح هناك يحرث الأرض وقد فاحت منها رائحة طراوة بعد سقوط المطر، وبقرة تنظر في عيون الأطفال وقد وهبتهم ضرعها راضية يجربون طريقة الحلب التقليدية.

‪التعرف عن قرب على حيوانات المزرعة‬ التعرف عن قرب على حيوانات المزرعة  (الجزيرة)
‪التعرف عن قرب على حيوانات المزرعة‬ التعرف عن قرب على حيوانات المزرعة  (الجزيرة)

فضاء تعلم للصغار وراحة للكبار
بعيدا عن صخب المدن الكبرى وتلوثها، تقدم فكرة المزارع التدريبية فضاء تربويا للترفيه والاسترخاء والتعلم للصغار، وللراحة والاستجمام للكبار، لقضاء يوم خارج عن المألوف.

تقول سميرة الأحراري صاحبة مزرعة طازوطا للجزيرة نت إن الضيعة البيداغوجية بمثابة امتداد للمدرسة، فيها يختبر الصغار معارفهم ويطورونها، ويلمسون عن قرب ما قيل لهم بالمدارس، ويركزون معلوماتهم عن القرية والفلاحة والحيوانات ويكتشفون نمط العيش.

‪صاحبة المزرعة وسط ضيوفها تشرح لهم‬ صاحبة المزرعة وسط ضيوفها تشرح لهم (الجزيرة)
‪صاحبة المزرعة وسط ضيوفها تشرح لهم‬ صاحبة المزرعة وسط ضيوفها تشرح لهم (الجزيرة)

بدأت سميرة الأحراري (وهي مدرسة سابقة) فكرة الضيعة بأربع ورشات، واليوم تقدم عشرين ورشة منها الموسمية ومنها الدائمة، وقد طورت الورشات بناء على حاجة المدارس. جمعت خبرتها كمدرسة وحبها للقرية في مشروعها.

وتفتح المزرعة للكبار أيضا، حيث يجد فيها زائرها فضاء للاسترخاء والبعد عن الضغط اليومي والإيقاع السريع للمدينة، ومنهم من يأتي بدافع الحنين، أو يأتي لتذوق الطعام التقليدي المغربي مثل الرفيسة والكسكس والطجين والشاي والملوي والعسل.

‪يستأنسون بالخيول‬ يستأنسون بالخيول (الجزيرة)
‪يستأنسون بالخيول‬ يستأنسون بالخيول (الجزيرة)

مفهوم يتطور
وعلى شاكلة طازوطا بدأ المفهوم يتطور، وتوجد بالمغرب مزارع تربوية متعددة، تقدم خدماتها لتلاميذ المدارس، ومنها ترفيهية تتبنى تنظيم طقوس الأعياد الدينية والمناسبات بالطريقة التقليدية تحفظ الموروث وتقدمه لعشاقه. ومنها ما يحفظ نمط البادية، وما يقدم حصص فروسية، وكلها تعتبر متنفسا لروادها من صخب المدن.

تقول صوفي (منسقة تربوية) للجزيرة نت إن زيارة الضيعة شحنة أكسجين للأطفال والأساتذة، تؤثر على العلاقة بينهم وتسمح بانسجام أكبر. وتضيف: زيارة الأماكن المفتوحة تكسر الروتين وتوسع الأفق. وتوضح الخبيرة في عالم الطفل أن دماغ الأطفال يتطور أكثر باللمس، وأن أحسن طريقة للتعلم هي التجريب.

‪جاؤوا من العاصمة ليتعرفوا على الحرث التقليدي‬ جاؤوا من العاصمة ليتعرفوا على الحرث التقليدي (الجزيرة)
‪جاؤوا من العاصمة ليتعرفوا على الحرث التقليدي‬ جاؤوا من العاصمة ليتعرفوا على الحرث التقليدي (الجزيرة)

حرث ونسج وطين
تتبعنا الأطفال وهم يتنقلون عبر الورشات، وقد ملأت ضحكاتهم وضجيجهم المكان، واختلطت ألوان ملابسهم بألوان الصوف وبقايا التراب. يصنعون أواني الطين، وبأناملهم الصغيرة يطمرون حبات القمح في باطن الأرض. يقلدون ثغاء الماعز ويسمعون كيف جُعل للبقرة خوار. 

تقول إحدى المدرسات وهي ترقب فرح تلاميذها "كل ما هو طبيعي جميل" وتضيف أخرى "لا نحتاج إلى الرفاه لنكون سعداء".

لا شك أن الأطفال عادوا بالكثير من المشاعر والمعارف معهم، وجمعوا قصصا يحكونها فيما بينهم وأقرانهم وعائلاتهم.

أما نحن فعدنا ومعنا تساؤل: هل سيحتاج الإنسان دائما لنمط البادية في حياته؟ وهل تعلم أسرة إسماعيل وأسر أصدقائه أن عجن ثلج خبز حرك في الأطفال فرحا ربما لا تحركه كبريات مدن الملاهي، وأحدث تطبيقات الألعاب الإلكترونية؟ 

المصدر : الجزيرة