أبرياء في قبضة العدالة.. واقع القضاء بالعراق بين الإنصاف والجور

المحكمة الجنائية المركزية في الرصافة. © 2018 Maya Alleruzzo/AP Photo
المحكمة الجنائية المركزية في الرصافة (أسوشيتد برس)

بغداد– ظهر على شاشات التلفاز في مشهد كلاسيكي ترافق كلماته نغمات موسيقية، يسرد فيها المتهم حيثيات قتل زوجته.

بطل القصة علي الجبوري المحكوم عليه بالإعدام لجريمة قتل ثبتت عليه بعد اختفاء زوجته أثناء زيارتهما أحد المراقد الدينية في ناحية السدة بمحافظة بابل، مما اضطره للإبلاغ عن اختفائها.

اتهمه أهل الزوجة بقتل ابنتهم، فتم اعتقاله على ذمة التحقيق، وبعد ساعات طويلة داخل غرفة التعذيب اعترف بارتكاب جريمة القتل وحكم عليه بالإعدام شنقا.

وبعد شهرين من الاعتقال ورد بلاغ إلى جهاز الأمن الوطني يدل على مشاهدة الزوجة "القتيلة" في بيت أبيها، مما دفع الأجهزة الأمنية إلى اعتقال المتورطين والإفراج عن بريء كاد يفقد حياته لجريمة قتل تنعم فيها "القتيلة" بحياتها.

هذا ما ضجت به وسائل التواصل والأخبار خلال الأيام الماضية، ووضع الواقع القضائي في البلد تحت مجهر التحقيق الشعبي.

الباحث السياسي هاشم الجبوري
هاشم الجبوري: المؤسسة القضائية مخترقة حزبيا (الجزيرة)

وأثيرت في يوليو/تموز الماضي قضية الشاب ماهر راضي الرماحي المتهم بالسرقة، والذي قضى نحبه تحت وطأة التعذيب داخل أحد مراكز مكافحة الإجرام في النجف الأشرف، ثم ثبتت براءته بعد فوات الأوان.

وقد وجهت مثل القضايا -خاصة قضية الجبوري- الأنظار نحو العدالة القضائية في البلد، ويرى مصدر مسؤول في وزارة العدل أن القضاء العراقي تجاوز عراقيل كثيرة حتى وصل إلى المستوى الحالي.

ويقول إن القضاء منصف بنسبة 95%، وإن نسبة الظلم المتبقية ترجع للتأثير السياسي والأخطاء القضائية التي لا يخلو أي بلد منها.

واعتبر أن هذه الأخطاء واردة الحدوث حتى في دول أوروبا وأميركا التي قد يغبن فيها بعض المتهمين بناء على ما يرد في التحقيق أو حيثيات الجريمة.

ويؤكد المصدر قلة الحالات المشابهة لقضية علي الجبوري، لكون القضاة يدرسون الأدلة ويتأكدون من الأقوال قبيل إصدار حكمهم.

وأشار المصدر -الذي فضل عدم ذكر اسمه- إلى أن القضاء أنصف الجبوري وأعاد حريته، كما أنقذ العديد من المواطنين من براثن التدخلات السياسية التي كانت تعتبر من أبرز المعوقات التي يعاني منها القضاة.

المحامي علاء البياتي
علاء البياتي: عدم دراسة المحكمة للقضية من جميع جوانبها يؤثر على ارتفاع نسبة الأبرياء القابعين في السجون (الجزيرة)

بدوره، يرى الناشط والباحث السياسي هاشم حمزة الجبوري أن المؤسسة القضائية تتعرض لاختراق حزبي، حيث استعيض عن القضاة المستقلين بآخرين يعملون وفق الأجندات الحزبية، وبذلك تحول القضاء إلى مهنة سياسية يستغلها البعض للوصول إلى أهداف سياسية أو شخصية.

وأشار الجبوري إلى وجود سياسيين كبار متهمين بالإرهاب واختلاس الأموال يبرؤون من تهمهم ويتبؤون مناصب سيادية عليا، في حين يحاكم الأبرياء بعقوبات مشددة لكونهم غير مدعومين سياسيا.

من جهته، يشير المحامي علاء البياتي إلى أن عدم دراسة المحكمة القضية من جميع جوانبها يؤثر على ارتفاع نسبة الأبرياء القابعين في السجون.

ويضيف أن الدعاوى الكيدية في العراق تؤدي إلى ارتفاع عدد الأبرياء في السجون بسبب عدم وجود قانون يحاسب المدعي بهذه القضايا، مما دفع البعض لاستغلال هذا الأمر بغية إيقاع الضرر بالخصوم وتحقيق أهداف شخصية أو اقتصادية.

ونتيجة لذلك يقبع المتهم البريء في السجن لسنوات أو يتم إعدامه بسبب شكوى باطلة كقضية علي الجبوري التي لا يستغربها المجتمع، بل إن الغريب هو خروج المتهم سليما من السجن كما يقول البياتي، إذ تتكرر حالات موت المعتقلين أثناء التحقيق.

المحامي علاء البياتي
جعفر الطائي: ثمة سلوكيات مهينة تستخدم في التحقيق (الجزيرة)

واقع التعذيب والابتزاز

ويرجح البياتي ارتفاع عدد المعتقلين الأبرياء إلى عامل الابتزاز أيضا، حيث يهدد بعض المحققين المتهم بتعذيبه واعتقال أفراد أسرته إذا لم يوقع على اعترافات معدة مسبقا.

ويتفق القاضي المتقاعد جعفر الطائي على وجود بعض السلوكيات المهينة المستخدمة في التحقيق، إلا أنه يبررها من منطلق "ادعاء جميع المجرمين ببراءتهم"، معتبرا أن المحاكم لا تغض النظر عن هذا الأمر ولكن تعده من مسلّمات العمل العدلي التي أتاحتها التقاليد التحقيقية في بعض الظروف.

لكن الطائي لا يتفق مع البياتي في وجود علاقة بين هذا الأمر وارتفاع عدد الأبرياء في السجون، مؤكدا أن هذه النسبة لا تشكل سوى 2% من مجموع المعتقلين البالغ عددهم أكثر من 40 ألف معتقل.

وحول تأثير هذا الواقع على حياة الأبرياء، يقول الطائي للجزيرة نت "للأسف الشديد لا يوجد قانون في الوقت الحالي ينصف هذه الفئة القليلة".

وقد أدان تقرير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 2019 تجاهل القوات الأمنية القوانين، واعتقال المشتبه بهم بدون أوامر قضائية، واحتجاز المتهمين تعسفيا لفترات طويلة قبل تقديمهم للمحاكمة.

حقوق الإنسان من المنظور القضائي

وفتحت قضية علي الجبوري أبواب التساؤلات عن مآل حقوق الإنسان في العراق وتقاعس الجهات الأمنية عن أداء واجباتها بصورة صحيحة.

بدورها، صرحت الباحثة الاجتماعية سجى خالد للجزيرة نت بأن هذه الحكومة لا تتحرك لحل هذه القضايا إلا بعد وصولها إلى الرأي العام، وتصف الحكومة بأنها حكومة ردود أفعال وليست حكومة أفعال.

وتشير إلى أن استمرار هذه الحالات سيزيد وتيرة الجرائم، حيث يشعر المجرم بالأمان ما دامت قضيته بعيدة عن وسائل التواصل والأخبار، كما أن التأثير على القضاء سيؤدي إلى أن يرتدي المجرم ثوب الضحية فيما يعيش الضحايا أدوار المجرمين.

ودعا علاء البياتي الجهات القانونية إلى إطلاق قانون يحاكم وفقه المواطن بعيدا عن أساليب عفا عنها الزمن، واحترام مبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".

وتبقى جملة علي الجبوري "ألف واحد بريء مثلي بالسجن" تلقي بظلالها على المواطنين وتخيفهم من انتشار التهم الباطلة في ظل غياب قانون ينصفهم.

المصدر : الجزيرة