اختفى ابنها بليبيا.. قصة أم ثكلى لم تمل الانتظار

عند عودتي من ليبيا تجاهلتني السلطات التونسية_
سنية رجب: عند عودتي من ليبيا تجاهلتني السلطات التونسية (الجزيرة نت)

منيرة حجلاوي-تونس

تُخبرك نظراتها المليئة بالأسئلة والحزن عن لوعة أم فارقت فلذة كبدها منذ خمسة أعوام، تتطلع بفارغ الصبر إلى لحظة اللقاء التي طال انتظارها، فتخجل أمام رباطة جأشها.

ففي سبتمبر/أيلول 2014، كلّفت قناة تلفزيونية تونسية خاصة الصحفي الشاب نذير القطاري بمهمة صحفية في الجارة ليبيا. أعد حقيبة سفره في بهو منزله وابتسامة عريضة لم تفارق محياه، فيما أغلقت والدته سنية رجب على نفسها باب غرفتها والتزمت الصمت أمام هذا الخبر.

ودّعها ابنها ضاحكا على أمل العودة بعد ثلاثة أيام، هاتفها حال وصوله رفقة زميله سفيان الشورابي إلى الحدود الليبية التونسية، ووعدها بمكالمتها مرة ثانية ولكنه أخلف وعده، لتعلم عائلته أنهما سيتوجهان إلى أجدابيا إثر إطلاق سراحهما لأنهما كانا محتجزين.

بداية القصة
كانت هذه بداية القصة التي لم تنته بعد، تلت عملية الاحتجاز الأولى عملية ثانية، اتصل خلالها نذير بوالدته بصوت مليء بالخوف، قائلا لها "أمي إن خرجت من هنا أموت"، وكان ذلك آخر اتصال بينهما.

نظمت سنية رجب مسيرة على الأقدام من محافظة قفصة (وسط غرب) إلى مدينة بن قردان (جنوب شرق)، ونفذت اعتصامات وإضرابات جوع ووقفات احتجاجية، تطالب فيها السلطات التونسية بإنقاذ نذير وسفيان.

لم تترك الوالدة المكلومة طريقا لم تسلكه للوصول إلى حقيقة اختفاء ابنها وصديقه في ليبيا. سافرت إلى فرنسا ثلاث مرات تتعقب اللواء المتقاعد خليفة حفتر علّها تظفر بلقائه ولكنها فشلت، كما ذهبت إلى لبنان وإلى الجزائر ثماني مرات تقتفي أثر صحفي كان محتجزا معهما ولكنه تهرّب من لقائها.

‪سنية رجب: نتائج التحليل الجيني أثبتت صحة موقفي‬ (الجزيرة)
‪سنية رجب: نتائج التحليل الجيني أثبتت صحة موقفي‬ (الجزيرة)

إجابة واضحة
عام 2016، قررت سنية السفر إلى ليبيا حتى تجد إجابة واضحة تشفي غليلها. وبعد تعطيلات وصعوبات كبيرة تمكنت أخيرا من الوصول إلى الشرق الليبي، حيث تؤكد أن ابنها وصديقه موجودان هناك.

بمساعدة بعض الليبيين، تمكن الوالدان من الوصول إلى المنطقة التي احتجز فيها نذير وسفيان، والتقيا بعنصر ذي نفوذ كبير نظم لهما لقاء مع عشرين فردا رافقوا والتقوا بنذير وسفيان.

أجرت سنية مواجهة أمام القضاء مع السائق الذي أقل الصحفيّيْن التونسيّيّن من المنزل الذي احتجزا فيه أول مرة، وهي شبه متأكدة أنه هو خاطف ابنها وصديقه بحسب معطياتها وتحرياتها، على عكس ما يدعيه من أن تنظيم الدولة الإسلامية هو من قام باختطافهما.

أقوال كاذبة
ترفض المرأة تصديق اعترافات بثتها قناة ليبية لأشخاص يقولون فيها إنهم ينتمون إلى تنظيم الدولة وإنهم خطفوا سفيان ونذير وقتلوهما، مؤكدة أن أقوالهم كاذبة وغير متطابقة، كما أن الصورة التي تم بثها تظهر نذير وسفيان بحالة عادية.

بدخولها إلى المنزل الذي احتجزا فيه انهارت المرأة تماما، تقول لا يمكن أن يكون بيتا، إنه سجن أبوابه حديدية تفتح من الخارج فقط دون نوافذ، وفيه ثلاث حشايا (فرُش) بالية ملقاة على الأرض. سقطت على ركبتيها تصيح وتبكي وخيال ابنها لا يفارق ذاكرتها.

لم تثنها آلاف الكيلومترات التي تمشيها يوميا أو البوابات الأمنية والمدافع والدبابات التي تعترضها في الطرقات، عن البحث عن حقيقة اختفاء نذير وسفيان، إلى أن تمكنت من لقاء وزير العدل في الحكومة الليبية المؤقتة محمود الفيتوري، الذي اقتنع بوجهة نظرها بعدم وجود دليل مادي على وفاة ابنها وصديقه؛ وبقرار منه تم من جديد إعادة فتح تحقيق في القضية.

كما كان لوالدي نذير لقاء بوزراء في الحكومة الليبية المؤقتة التي أكدت لهما أن الدولة التونسية لا تتعامل معها لحل هذا الملف ولم تتصل بها، وعبرت عن استعدادها للتعاون مع تونس.

‪والدة الصحفي المختفي: نذير وسفيان موجودان في الشرق الليبي لدى حفتر‬ (الجزيرة)
‪والدة الصحفي المختفي: نذير وسفيان موجودان في الشرق الليبي لدى حفتر‬ (الجزيرة)

مماطلة في الرد
عاد والدا نذير أدراجهما إلى تونس، ففوجئا بتجاهل تام من السلطات التونسية رغم ما حملاه من معلومات ووثائق وصور حصلا عليها من ليبيا.

يوضح عضو جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج منصف عبيدي -للجزيرة نت- أن الجمعية راسلت العديد من الوزارات المعنية بقضية سفيان ونذير، غير أنها تماطل في الرد.

وأضاف أن وزارة الخارجية تخلصت من الملف بالنظر إلى التصريح الأخير للوزير خميس الجهيناوي، الذي قال فيه إن ملف الصحفيّيْن أصبح من اختصاص وزارتي العدل والداخلية.

وكان الجهيناوي صرح يوم 25 مارس/آذار الماضي بأن ملف الصحفيّيْن المختفييْن في ليبيا في صميم صدارة اهتمامات الدبلوماسية التونسية، وأنه ملف قضائي بامتياز، قائلا إنه واعتبارا للطبيعة الأمنية والقضائية لهذه القضية، تتولى كل من وزارتي الداخلية والعدل متابعتها بالتنسيق مع وزارته بالنظر إلى خصوصيات المشهد الليبي.

وفي يوم 5 أبريل/نيسان الجاري، أعلنت سنية رجب أن قاضي التحقيق المكلف بالقضية أكد لها أن العينات التي جلبها من ليبيا للجثتين المزعومتين لا تتطابق مع عينات نذير وسفيان، وهو ما نزل بردا وسلاما على قلبها وهي التي كانت متأكدة من ذلك.

تعيب والدة نذير على الدولة التونسية تسليمها بمقتل ابنها وزميله على يد تنظيم الدولة، مشددة على أنهما على قيد الحياة ومحتجزان لدى مليشيات حفتر، معتبرة أن قضية اختفائهما يستعملها حفتر ورقة ضغط على تونس للاستيلاء على الحكم في ليبيا.

تتواصل اليوم سنية مع بعض الليبيين، تقتفي آثار ابنها وصديقه ممنية النفس بيوم اللقاء.

المصدر : الجزيرة