مصر.. إخلاء السبيل لا يعني استنشاق نسيم الحرية

آلاف المعتقلين يعاد إدراجهم في قضايا جديدة بعد قرار إخلاء سبيلهم في القضايا الذين كانوا معتقلين لأجلها صورة أرشيفية لمدخل أحد السجون المصرية وهي خاصة للجزيرة نت
آلاف المعتقلين يعاد إدراجهم في قضايا جديدة بعد قرار إخلاء سبيلهم في القضايا التي كانوا معتقلين لأجلها (الجزيرة نت)

عبد الرحمن محمد-القاهرة

جلجلت زغردة عذبة من بين شفتي والدته وانسابت إلى مسامعه مبشرة بقرب انتهاء الغمة، وأخيرا ابتسمت شفتاه لصوتها بعد شهرين من العذاب قضاهما بين الإهانة والتعذيب في أقسام الشرطة، أو محتجزا بين المجرمين.

لكن الطبيب البيطري لم يكن يعلم أن إخلاء السبيل بمصر لا يعني بالضرورة استنشاق نسيم الحرية.

"إجراءات وبعض الوقت وستخرج.. مبروك يا دكتور"، هكذا هنأه محاميه بلهجة واثقة بعد أن قضت محكمة الجنح ببراءته من تهمة التظاهر والتجمهر في الطريق العام، لكن حظه العاثر جعل كل ذلك يتزامن مع قضية أخرى كبيرة في حلوان (جنوب القاهرة).

ولأن معظم المتهمين في القضية الجديدة من الأحداث وصغار السن، أدى ذلك إلى وضع الطبيب الثلاثيني "مصطفى محسن" على رأس القضية، رغم أن أحداثها جرت أثناء اعتقاله، وتهمته الجديدة لم تكن مجرد التظاهر، وإنما "تولي قيادة في جماعة إرهابية".

هكذا تبخرت أحلام "مصطفى" وذويه بالحرية بعد شهور من الاعتقال والتعذيب، ووجد نفسه متهما بتولي قيادة خلية عرفت باسم "العقاب الثوري"، تُحاكم في قتل رجل أمن، بقضية أشد خطرا من سابقتها، وباتت محاولات إثبات حبسه على ذمة قضية أخرى وقت الحادثة بالفشل، لتكتفي النيابة بتسجل نفيه في أوراق القضية.

ورغم وجود أوراق رسمية تثبت اعتقال مصطفى محسن وقت أحداث القضية الثانية، فإن كل ذلك اختزل في عبارة باهتة هي: "نفي المتهم"، وأحيلت القضية للنظر عسكريا، وعوقب بحكم بـ"المؤبد" (25 عاما سجنا).

أنس البلتاجي أدرج في أربع قضايا مختلفة أثناء فترة اعتقاله على ذمة قضية أخرى (مواقع التواصل)
أنس البلتاجي أدرج في أربع قضايا مختلفة أثناء فترة اعتقاله على ذمة قضية أخرى (مواقع التواصل)

ليس استثناء
و"مصطفى" ليس حالة استثنائية، فهو أحد آلاف المعتقلين الذين ترفض أجهزة الأمن المصرية إخلاء سبيلهم رغم صدور أحكام ببراءتهم، وتعيد إحالتهم للقضاء على ذمة قضايا أخرى، قد يكون بعضها حدثت وقائعه أثناء فترة اعتقاله، وأحيانا تعاد محاكمتهم أمام المحاكم بنفس الاتهامات مجددا، وهو ما تراه منظمات حقوقية مجرد تقنين للاعتقال المستمر المفتوح.

وبعينين حزينتين، لا يخفي "مصطفى" تمنيه لو أنه كان حكم عليه في القضية الأولى: "ليتني كنت أدنت في قضية التظاهر ورحلت إلى أي سجن وما كنت بقيت أمام أمن الدولة في حلوان.. فذلك ظلم أخف من ظلم".

لكن مصطفى أسعد حالا من الشقيقين محمد ومصطفى عبد الحي الفرماوي، اللذين اعتقلا أثناء اعتصام رابعة وأحيلا للمحاكمة في قضية عرفت إعلاميا باسم قضية "الإصبع"، وحصلا على حكم أولي بالسجن ثلاث سنوات بعد عامين من جلسات المحاكمة، ولما تأخر النقض.. كانا قد قضيا المدة بالفعل، وحانت لحظة الخروج.

أفراح خروجهما تبخرت أيضا بالإضافة إلى شابين معهما على ذمة القضية نفسها، إذ فوجئ الأربعة أنهم قد أضيفوا إلى قضية "فض اعتصام رابعة" التي جرت أحداثها خلال فترة محاكمتهم أصلا، ورغم ثبوت ذلك قانونا فقد قضت المحكمة على الأربعة بالإعدام.

وتسجل شهادات حقوقيين ومحامين وذوي معتقلين تعرض الآلاف من الصادر بحقهم قرارات إفراج على ذمم قضايا سياسية للأسلوب ذاته، ومن أبرزهم الناشط السياسي شادي الغزالي حرب وأنس ابن القيادي في جماعة الإخوان المسلمين محمد البلتاجي والصحفي عادل صبري رئيس تحرير موقع "مصر العربية".

‪مصطفى عزب: لا وجود لمنظومة قضائية حقيقية في مصر‬ (الجزيرة)
‪مصطفى عزب: لا وجود لمنظومة قضائية حقيقية في مصر‬ (الجزيرة)

شهادات حقوقية
وفي إطار إشارته لتوثيق العديد من الحالات التي تعرضت لهذا الأسلوب، يُرجع مدير منظمة السلام الدولية لحماية حقوق الإنسان علاء عبد المنصف ذلك إلى "غياب دولة القانون" و"انعدام مبدأ المحاسبة" للأجهزة الأمنية، مما يتيح لها ارتكاب مخالفات قانونية انتقامية.

ويلفت في حديثه للجزيرة نت إلى أن أحد أبرز هذه النماذج الصارخة ما تعرض له أنس البلتاجي، حيث أدرج في أربع قضايا مختلفة أثناء فترة اعتقاله على ذمة قضية أخرى، ورغم حصوله على البراءة فيها جميعا فإنه لا يزال قيد الحجز والاعتقال على ذمة قضية جديدة.

كذلك يؤكد مسؤول الملف المصري في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا مصطفى عزب رصد منظمته العديد من الحالات التي تعرضت لهذا الأسلوب، معتبرا ذلك دليلا على عدم وجود منظومة قضائية حقيقية في مصر، واستخدام القضاء ذراعا قمعية بيد النظام.

ويشبّه عزب حجم الألم والأسى وخيبة الأمل مما يتعرض له المعتقل وذووه عند مفاجأتهم بإحالته لقضية جديدة، بسكب ماء بارد على الرمال أمام شخص بلغ به العطش مداه وهو تائه في صحراء قاحلة. 

المصدر : الجزيرة