كيف تنتصر الأخبار الكاذبة

وفقا لمؤسسة غالوب، يثق 32% فقط من الأميركيين "بشكل كبير" أو "بشكل معقول" في وسائل الإعلام التقليدية، وهو مستوى غير مسبوق من الانخفاض.

ألكسندر دارديلي

في الاستجابة لموجة من الأخبار الوهمية الزائفة التي غمرت حملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة كان قدر كبير من الاهتمام مكرسا لأولئك الذين ينتجون أو ينشرون هذه القصص، والافتراض هنا هو أن القراء والمشاهدين سوف يصلون دائما إلى الاستنتاج الصحيح بشأن أي قصة بعينها إذا اكتفت المنافذ الإخبارية بعرض "الحقائق" فقط.

ولكن هذا النهج يعالج نصف المعادلة فقط، صحيح أننا نحتاج إلى وكالات أنباء تقدم معلومات جديرة بالثقة، ولكننا في احتياج أيضا إلى أن يكون المستهلكون الذين يتلقون هذه المعلومات فطنين مجربين.

كانت حكومة الولايات المتحدة حريصة لعشرات من السنين على دعم برامج تهدف إلى تعزيز وسائل الإعلام المستقلة في الدول الاستبدادية، أو المحرومة من الموارد، أو المختلة وظيفيا، ولكن هذه البرامج تفترض ضمنا أن الولايات المتحدة ذاتها محصنة ضد المشاكل التي يواجهها الناس في دول أخرى عندما ينشئون أو يستهلكون المعلومات.

كما نفترض في الولايات المتحدة أن وسائل الإعلام الأميركية -التي يدعمها الإعلان- سوف تستمر في الازدهار، وأن الصحافة المستقلة هي القاعدة، وأن أغلب الناس قادرون على التفكير بشكل انتقادي وإصدار أحكام سليمة بشأن المعلومات التي يتلقونها.

الواقع أن بعض الدروس التي تعلمناها من خلال جهودنا الرامية إلى دعم عمليات جمع وتوزيع المعلومات الحيوية في الخارج تنطبق بنفس القدر على الولايات المتحدة، ففي انتخابات عام 2016 كانت المعتقدات الشخصية وراء القرارات التي اتخذها الملايين من الناخبين قائمة ليس فقط على تجارب كل شخص والمعلومات التي يتمكن من الوصول إليها، بل وأيضا على كيفية معالجته لهذه التجارب والمعلومات، وقد ساهمت علاقة الناخبين بمنتجي المحتوى، ودافعهم إلى تصديق أو تكذيب الحقائق، ومهارات التفكير الانتقادي التي يتمتعون بها في تحديد كيفية تفسيرهم للمعلومات وتفاعلهم معها.

ويبدو أن أغلب خبراء التيار السائد في الانتخابات لم يتمكنوا من "فهم" معتقدات أو وجهات نظر الملايين من الأميركيين، وليس من المستغرب إذاً أن ينفر هؤلاء الملايين من الأميركيين من الثرثرة المتواصلة من قبل أولئك الخبراء، فقد رأى الناخبون في الخبراء مجرد مروجين لمعلومات لا تربطها أي صلة بالقضايا المهمة، والرجال والنساء الذين يتحدثون أمام كاميرات التلفزيون بعيدون كل البعد عن المصانع والمكاتب والحانات والكنائس والمدارس والمستشفيات، حيث يشكل المشاهدون العلاقات التي تحدد الكيفية التي يعالجون بها المعلومات، ولم تنجح الثورة الرقمية المزعومة في جعل أهمية التواصل البشري في تشكيل تفسيرات الناس واستجابتهم للمعلومات التي يتلقونها زائدة على الحاجة.

تنبني العلاقات على الثقة التي تشكل عنصرا أساسيا في ضمان قبول المستهلكين للمعلومات التي تتحدى معتقداتهم التي يتمسكون بها بقوة، ولكن وفقا لمؤسسة غالوب يثق 32% فقط من الأميركيين "بشكل كبير" أو "بشكل معقول" في وسائل الإعلام التقليدية، وهو مستوى غير مسبوق من الانخفاض، والأمر مزعج للغاية، لأن هذا يشير إلى أن العديد من المواطنين يرفضون المعلومات الجيدة مع السيئة.

تفكير نقدي
كما هو الحال مع أي سلعة أخرى تعكس كيفية استهلاك المعلومات فرصا اقتصادية وسياسية وحوافز شخصية ومعايير مؤسسية أو ثقافية، فسوف تستهلك المعلومات بين عمال أوهايو الذين ركدت أجورهم، أو الناخبين في ميشيغان الذين هاجرت وظائفهم إلى الخارج على النحو الذي يعكس أوضاعهم الاقتصادية، ومن غير المستغرب أن يختاروا غالبا المصادر -سواء كانت جديرة بالثقة أو لم تكن- التي تنتقد العولمة والسياسات المالية والاقتصادية الحالية.

الواقع أن توفر مدد وفير من المعلومات الصحيحة لا يكفي لضمان الاختيار السليم، إذ يحتاج مستهلكو الأخبار إلى مهارات التفكير الانتقادي، والمعلومات أشبه بالطعام الذي نتناوله، فنحن في احتياج إلى فهم مكوناتها، وأين وكيف أنتجت، والآثار المترتبة على الإفراط في استهلاكها

الواقع أن توفر مدد وفير من المعلومات الصحيحة لا يكفي لضمان الاختيار السليم، إذ يحتاج مستهلكو الأخبار إلى مهارات التفكير الانتقادي، والمعلومات أشبه بالطعام الذي نتناوله، فنحن في احتياج إلى فهم مكوناتها، وأين وكيف أنتجت، والآثار المترتبة على الإفراط في استهلاكها.

قد يستغرق الأمر عشرات السنين على الأرجح لإعادة بناء علاقات الثقة بين المستهلكين ووسائل الإعلام الغالبة، وسوف يظل مستهلكو الأخبار منحازين دوما ولديهم الحافز لاختيار قطعة واحدة من المعلومات وترك غيرها، وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نعمل على تحسين مهارات التفكير الانتقادي حتى يتسنى للمواطنين أن يعرفوا كيف يختارون المصادر الجديرة بالثقة ويقاومون تحيزاتهم.

لا شك في أن رعاية مهارات التفكير الانتقادي تستغرق الوقت وتتطلب الممارسة، ولهذا السبب بات من المهم أكثر من أي وقت مضى أن نستثمر في التعليم.

والواقع أن بعض النماذج المعمول بها في الخارج ربما تنجح في الولايات المتحدة أيضا، فعلى سبيل المثال في أوكرانيا قامت مبادرة حديثة من تنفيذ (IREX) بتعبئة أمناء المكتبات في محاولة لتحييد التأثيرات الضارة الناجمة عن الدعاية التي يمولها الكرملين، وقد تعلم 15 ألف أوكراني مهارات ملموسة في تجنب التلاعب العاطفي، والتحقق من المصادر والوثائق، واستكشاف المحتوى المدفوع والخطاب المحرض على الكراهية، وفضح مقاطع الفيديو والصور المزورة.

وكانت النتائج مبهرة، فقد تمكن المشاركون من تحسين قدرتهم على التمييز بين الأخبار الجديرة بالثقة والأخبار الزائفة بنحو 24%، والأفضل من هذا أنهم قاموا بعد ذلك بتدريب المئات من الناس على كشف التضليل، وبالتالي مضاعفة التأثير الإجمالي للمبادرة.

بالاستعانة باستثمارات متواضعة نستطيع أن نجعل تعليم هذه المهارات ممارسة معتادة في المناهج الدراسية، وبوسع الجهات الخيرية أيضا أن تعمل على إنشاء أو دعم منظمات شعبية تعمل مع المواطنين لتعزيز قدرتهم على استهلاك المعلومات بطريقة انتقادية.

تشكل المعلومات الدقيقة ومهارات التفكير الانتقادي أصلا لا غنى عنه من أصول الديمقراطية، ولا يمكننا أن نتعامل مع هذا الأصل وكأنه من الأمور المسلم بها حتى في أميركا، فهكذا تنتصر الأخبار الكاذبة.
—————-
* نائب الرئيس التنفيذي لمنظمة (IREX)، وهي منظمة عالمية غير ربحية تعمل عل تعزيز الحكم الرشيد والوصول إلى المعلومات والتعليم العالي الجودة.

المصدر : بروجيكت سينديكيت