عائلات مفقودي الهجرة السرية بتونس.. دموع وأمل

محمد غلام-تونس

نحيب يشق الأكباد على مصير أبنائهن المفقودين، ويقين لا تعتريه الشكوك بأنهم على قيد الحياة، وهواجس بأن فلذات أكبادهن فقدوا ذاكراتهم في كارثة لامبادوزا الشهيرة في سبتمبر/أيلول 2012.

ذلك ما يجمع هؤلاء النسوة في هذا البيت المتواضع بحي الزياتين في تونس العاصمة، في قصص ليست إلا نماذج لمعاناة مئات الأسر التونسية ممن فقدت أبناءها وهم يبحرون سرا إلى إيطاليا.

سميرة أم رشدي تقول إن اتصالا جاءها من إيطاليا قبل عيد الأضحى الأخير بأربعة أيام من امرأة تونسية قالت إنها تبحث عن ولدها أكدت لها فيه أن "ولدك حي يرزق ولا بأس عليه، لكنه يعالج بالمستشفى من ضربة بالرأس وهو فاقد الذاكرة". وتقول إن المرأة -التي لم تعرف بنفسها- أعطتها مواصفات ابنها بدقة.

‪سميرة وهندة وسامية يحملن أبناءهن الثلاثة وفتى رابعا توفي ذووه‬ (الجزيرة)
‪سميرة وهندة وسامية يحملن أبناءهن الثلاثة وفتى رابعا توفي ذووه‬ (الجزيرة)

شراء كلية
تذكر سميرة ابنها -رشدي بوطارة- بكثير من الاعتزاز والفخر، وتقول إنه كان يعدها بأنه حين يكبر سيشتري لها كلية.. وإذ ذاك تدخل في بكاء مرير سرت عدواه إلى باقي النسوة.

هندة بكوش انقطعت عنها -هي الأخرى- أخبار ابنها حلمي مع كارثة لامبادوزا حين غرق مركب لمهربين كان على متنه 136 تونسيا، أنقذ الإيطاليون نحو نصفهم ليس بينهم ابنها، لكنها لا تزال متشبثة بالأمل.

تنسب هندة لمحامية من جمعية إيطالية لرعاية الأحداث -لقيتها حين زارت إيطاليا بحثا عن ابنها- القول إنها رأت ابنها حلمي ذا الـ17 ربيعا بمستشفى في باليرمو، وتقول إن تونسيا من قابس عاد حديثا أكد أن ابنها -مع آخرين- يقبع بسجن سيراغوزا لضربهم شرطيا وأنهم يقضون حكما قضائيا بالسجن سبع سنين.

راودت فكرة الهجرة للديار الإيطالية أحلام الفتى حلمي وهو لا يزال في الـ14 من العمر كما تقول أمه، لكنها كانت تثنيه كل مرة انتظارا لاشتداد عوده، وفي مطلع سبتمبر/أيلول 2012 زودته بخمسمائة يورو وودعته على أمل لم يعمر طويلا بأن ينتشل العائلة من براثن الفقر.  

أما سامية زواوي -التي فقدت ابنها محرز كيلاني (22 عاما)- فبدت أكثر جلدا وتماسكا حين حملت الحكومات التونسية مسؤولية فقد أبنائهم الـ79، وتقول "هاجر أبناؤنا سرا نتيجة الفقر الناجم عن سياساتها الخاطئة، وحين فقدوا لم تحرك ساكنا". وتضيف "الثورة قام بها الشباب الفقراء وليس أبناء السفراء والوزراء".

‪حافظ العموري: التحقيق بدأ لكن الأمر معقد‬  (الجزيرة)
‪حافظ العموري: التحقيق بدأ لكن الأمر معقد‬  (الجزيرة)

"جهاد" وهجرة سرية
تشعر سامية بكثير من المرارة تجاه مصير الشباب التونسيين الذين توزعتهم المنافي، بين من ذهبوا "للجهاد" بسوريا والعراق وبين من ذهبوا لإيطاليا "بينما بقي الشيوخ يتحاربون على الكراسي".  

لغز أم مجرد أمان؟
وتطالب سامية بفتح تحقيق في الكارثة لكشف الغموض الذي يكتنفها. وتقول إن ابنها محرز اتصل بها بعد ستة أشهر من الحادث ولم يزد على أن قال "آلو آلو آلو"، وحين ردت عليه "محرز.. محرز.. محرز!" انقطع الاتصال.. أهو لغز لم تفك طلاسمه بعد؟ أم مجرد أماني أمهات لا يردن التسليم بأن أبناءهن فقدوا للأبد؟  

لا تتردد الحكومة التونسية في التأكيد على أنها تقوم بواجبها رغم ما يواجهها من مصاعب، ويقول وزير التكوين المهني والتشغيل في تونس حافظ العموري ردا على سؤال للجزيرة إن "التحقيق بدأ لكن الأمر معقد". 

‪عبد الرحمن الهذلي يطالب بالكشف عن الحقيقة وبرعاية نفسية للأمهات‬ (الجزيرة)
‪عبد الرحمن الهذلي يطالب بالكشف عن الحقيقة وبرعاية نفسية للأمهات‬ (الجزيرة)

تقديم الأجوبة
وبحسب رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبد الرحمن الهذلي، فإن عدد المفقودين بموجات الهجرة السرية لأوروبا منذ اندلاع الثورة بلغوا 1850، أما الموتى غرقا -ممن عثر على جثثهم- فبلغوا مئات.

ووفق مصدر أمني تونسي غير مصرح له بالحديث لنا، فإن كثيرا من المفقودين ذهبوا ضحية إلقائهم في البحر من بحارة اكتشفوهم فجأة على متن سفنهم بعرض البحر.

ويطالب الهذلي بضرورة الكشف عن الحقيقة وإعطاء أجوبة للعائلات عن مصير أبنائها -وأغلبيتهم الساحقة ما بين 18 و25- وبرعاية نفسية لأمهاتهم، مشيرا إلى أن العديد منهن حاولن الانتحار.

ويلفت إلى أن الهجرة السرية بدأت عام 2004 كانعكاس للسياسات الاقتصادية والاجتماعية "الخاطئة"، ونتيجة الإقصاء والتهميش، ولكنها أخذت منحى تصاعديا لافتا مع اندلاع الثورة نتيجة غياب الأمن، حيث بلغت أربعين ألفا.

المصدر : الجزيرة