اغتيال الخليفة المسترشد بالله

أحمد الجنابي

تتناول الحلقة الـ53 من سلسلة بالهجري حدثا وقع في مثل شهر ذي القعدة الجاري حسب التقويم الهجري، وهو اغتيال الخليفة العباسي الـ29 المسترشد بالله عام 529 للهجرة.

نشأ الخليفة المسترشد بالله نشأة دينية، وتتلمذ منذ صغره على نخبة من أرفع علماء بغداد، مثل أبي الحسن بن العلاف وأبي القاسم بن بيان، بالإضافة إلى مؤدبه أبي البركات بن السيبي، فأضحى أديبا متمكنا وخطيبا مفوها وعابدا زاهدا، وصفته كتب التاريخ بأنه "خليق للإمامة" وقلّ نظيره بين الأمراء. كما تمتع بنثر جميل وشعر متين.

بويع بالخلافة بعد وفاة والده وهو صغير السن، وعندما كبر وتولى مقاليد منصبه ملأ ربوع ملكه عدلا وإنصافا، وأمن الناس في عهده على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. يصفه المؤرخون بأنه كان شهما نبيلا ذا همة عالية، لا يكل من السهر على أمور الرعية ليل نهار.

ومن الأمثلة على فصاحته جمل في إحدى خطب العيد قال فيها: الله أكبر ما سبحت الأنواء وأشرق الضياء وطلعت ذكاء وعلت على الأرض السماء. الله أكبر ما هجع سحاب ولمع سراب وأنجح طلاب وسر قادما إياب.

وصف المؤرخ والعالم الجليل جلال الدين السيوطي حكم المسترشد بالله بالقول "شيد أركان الشريعة وطرز أكمامها". أما المؤرخ ابن السبكي فيقول إن الخليفة المسترشد قد دخل في وقت من الأوقات عالم الزهد والتنسك وانفرد في مكان ما للعبادة.

حكم المسترشد بالله في وقت كثرت فيه الفتن والحروب والخروج على سلطة الخلافة المركزية ببغدادغيتي)شاهد فيديو الحلقة
حكم المسترشد بالله في وقت كثرت فيه الفتن والحروب والخروج على سلطة الخلافة المركزية ببغدادغيتي)شاهد فيديو الحلقة

وإلى جانب صفاته الإنسانية، كان سياسيا بارعا ومحاربا صلدا اعتاد قيادة الجيوش بنفسه، حيث ورث دولة تعاني من كثرة المحاولات الانفصالية في الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة في بغداد.

وفي آخر حملة قادها خرج في 15 ألف فارس إلى همذان للإصلاح بين طلاب السلطة ومنهم مسعود بن محمد ملكشاه السلجوقي -والسلاجقة هم من الأقوام التركية-، وتروي كتب التاريخ حادثة مثيرة في هذه الحملة تبيّن مدى ورع وشجاعة المسترشد، إذ جاءه أن أحد المشاركين في الحملة ويعرف باسم "فارس الإسلام" قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأنه سأله عن مصير الجيش في حملته تلك فقال "مكسور مقهور". وبعد تردد وحيرة، عرض وزراء الخليفة الأمر عليه، وأشاروا بأن يعود بالجيش أدراجه إلى بغداد، إلا أن جوابه كان "ويكذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا والله ما بقي لنا رجعة, ويقضي الله ما يشاء".

وبعد أيام التقى جيش الخليفة جيش ملكشاه الذي كان قد نجح باستمالة الترك في جيش الخليفة، الأمر الذي أضعف الموقف العسكري لجيش المسترشد، فلم يقو على مواجهة جيش ملكشاه، رغم الاستبسال الذي قاتل به الخليفة ورفاقه.

أسر المسترشد، وهاجت بغداد وماجت، ولبست مدن فارس السواد، ويقول ابن الجوزي إن الناس في بغداد خرجوا "حفاة عراة، وزلزلت بغداد وكأنه غضب من الله، فتحركت وجوه بغداد للصلح، وحصل على أن يعود الخليفة لمقر عزه، إلا أن مسعودا غدر بمولانا وسلط عليه العسكر فقتلوه".

كان الخليفة قد نقل مع المقربين منه ومساعديه إلى معسكر للأسر في مدينة يقال لها مراغة شمال غرب بلاد فارس، وعندها أرسل السلطان سنجر بن ملكشاه إلى ابن أخيه مسعود بن محمد ملكشاه يوبخه على انتهاك حرمة الخليفة وأسره، ويأمره بأن يطلقه وأن يضع نفسه رهن إشارته، إلا أن الخليفة اغتيل في خيمته بينما كان يقرأ القرآن بعد صلاة الظهر، إذ دخل عليه مجموعة من الرجال وقتلوه غيلة بالسكاكين.

وتختلف المصادر في حادثة الاغتيال، فهناك من يقول إن مسعودا تظاهر بإطاعة عمه وسلط عليه رهطا من أتباع طائفة الباطنية، وهناك من يقول إن سنجر نفسه كان راغبا في اغتيال الخليفة حيث كان السلاطين السلاجقة يتنافسون بشدة على الفوز بالسلطان.

المصدر : الجزيرة