بقي بن مخلد صاحب التفسير والمسند

أحمد الجنابي

تتناول الحلقة الـ31 من سلسلة بالهجري حدثا وقع في مثل شهر جمادى الآخرة الجاري حسب التقويم الهجري، وهو وفاة بقي بن مخلد أحد أنجب علماء الإسلام في بلاد الأندلس عام 276 للهجرة (889 للميلاد).

هو أبو عبد الرحمن بقيّ بن مخلد القرطبي الأندلسي، من أعلام بلاد الأندلس. ولد في قرطبة بالأندلس عام 201 للهجرة (817 للميلاد).

كرّس حياته للعلم والعمل الصالح، وسيرة حياته عبارة عن مجموعة لا متناهية من العبر والدروس الخالدة، فكان لا يركب دابة أبدا ويتعمد المشي للخير طلبا للأجر على قدر المشقة، حتى أنه مشى من قرطبة إلى إشبيلية مع ضعيف مسكين ليؤازره في مظلمة له، وهي مسافة تبلغ حوالي 200 كيلومتر.

رحل عن موطنه مشيا على الأقدام إلى المغرب ومنها إلى بغداد متوقفا في كل مدينة وبلدة سائلا شيوخها ومستفسرا منهم وناهلا من علمهم، حتى بلغ عدد الشيوخ الذين استمع إليهم حوالي 284 شيخا وعالما، وهو تطبيق مبكر للبحث العلمي العميق المستند إلى مصادر موثوقة.

ومن مناقبه، أنه عندما وصل إلى بغداد أراد الاستماع إلى الإمام أحمد بن حنبل وجمع ما يمكن من الأحاديث منه، ولكن تصادف وصوله مع تصاعد الخلاف بين ابن حنبل والخليفة الواثق بالله، حتى أنه منع من الدرس والخطبة.

ولكن ذلك لم يثنِ ابن مخلد المسافر المتعطش للبحث والدرس، فذهب إلى دار ابن حنبل واتفق معه على الإفلات من مراقبة حرس الخليفة له بأن يأتيه كل يوم متنكرا بزي السائل المستجدي، فيدق الباب ويتظاهر بالسؤال عن عطيةٍ فيفتح ابن حنبل له الباب ويروي له حديثا أو حديثين بما يسمح به الوقت، واستمر الحال هكذا حتى ارتوى ابن مخلد.

جال بقيّ بن مخلد البلاد حتى سمع من 284 شيخا وعالما(الجزيرة)شاهد فيديو الحلقة على يوتيوب
جال بقيّ بن مخلد البلاد حتى سمع من 284 شيخا وعالما(الجزيرة)شاهد فيديو الحلقة على يوتيوب

وقد لفت حرص بقيّ على تتبع العلم والعلماء في أرجاء بلاد الإسلام الأنظار إليه حتى لقب بـ"المكنسة" في إشارة إلى من لا يترك شاردة أو واردة إلا وأولاها اهتمامه.

وبعد طول سفر، عاد ابن مخلد إلى الأندلس ليفيد بعلمه وما جمعه فألف "التفسير" و"المسند" الذي لا نظير لهما، حتى وصف الإمام أبو محمد بن حزم تفسيره للقرآن الكريم بالقول "أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسير بقيّ".

وفي المسند الذي كرس للحديث الشريف وأسانيده، قال ابن حزم: و"مسند" بقيّ روى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف, ورتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه, فهو مسند ومصنف, وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله, مع ثقته وضبطه, وإتقانه واحتفاله في الحديث.

كان بقيّ بن مخلد متخيرا لا يقلد أحدا, وأظهر بعد عودته إلى الأندلس استقلالا في الرأي في مسائل العقائد، وعدّه البعض شافعيا وقيل إنه هو الذي أدخل مبادئ المذهب الظاهري إلى الأندلس.

أوغرت معارضته للتقليد صدور المالكية عليه، وأوشك أن يحكم عليه بالموت بتهمة الزندقة، وحاول البعض تحريض الخليفة محمد الأول -خامس خلفاء بني أمية في الأندلس- عليه، لكن الأخير -الذي عرف عنه حسن إسلامه وتقواه وحبه للعلم- استدعى بقيّ ومن خالفه إلى مجلسه، وتصفح كتابات ابن مخلد صفحة صفحة ثم قال موجها كلامه له "انشر علمك وارو ما عندك". ونهى عن التعرض له.

كان ابن مخلد كثير الجهاد، وتقول المصادر التاريخية إنه اشترك بأكثر من سبعين غزوة مقاتلا مجاهدا في سبيل الله، حيث كانت الدولة الإسلامية في الأندلس محاطة من كل صوب بممالك الأوروبيين الساعين ليل نهار لإسقاط دولة الخلافة هناك.

قيل في وصفه إنه كان جلدا قويا على المشي طلبا للأجر، وكان إماما مجتهدا صالحا، رأسا في العلم والعمل.

قال عنه أبو الوليد بن الفرضي "ملأ بقيّ بن مخلد الأندلس حديثا".

تفرغ في نهاية حياته للتدريس، ورغم أنه قضى حياته صائما يصلي في اليوم مائة ركعة ويختم القرآن كل يوم وليلة، فإن تقواه في نهاية حياته بلغت مبلغ الولاية، حتى كان يقضي يومه بين الصلاة والدرس في مسجده، وهكذا كان حتى توفاه الله لليلتين بقيّتا من جمادى الآخرة عام 276 للهجرة (889 للميلاد).

المصدر : الجزيرة