هل تستطيع البلدان النامية صنع لقاحات كورونا الرنا المرسال بنفسها؟

خبراء الصحة العامة يجادلون بأن توسيع الإنتاج في المناطق الأكثر احتياجا ليس ممكنا فقط، بل هو ضروري لحماية العالم من المتغيرات الخطيرة لفيروس كورونا وإنهاء الوباء.

لا يستطيع مئات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم النامي تلقي التطعيم لحماية أنفسهم من المخاطر المتعلقة بكوفيد-19، وقد أصيب الملايين منهم بالفعل بالفيروس ومات منهم كثيرون. ويقول خبراء الصحة العامة إن الاعتماد على الدول الغنية للتبرع بمليارات الجرعات لا يجدي نفعًا. في المقابل، يعتقد الكثيرون الآن أن الحل هو تصنيع هذه اللقاحات بأنفسهم، وهو أمر يقول صانعو لقاح الرنا المرسال "إم آر إن إيه" (mRNA) الأميركيون إنه غير ممكن، لكن خبراء الصحة يرون عكس ذلك.

في تقريرها الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) الأميركية، قالت الكاتبة ستيفاني نولن إنه على الرغم من الضغوط المتزايدة، فإن الرؤساء التنفيذيين لشركتيْ "موديرنا" (Moderna) و"فايزر" (Pfizer) رفضوا منح ترخيص تصنيع اللقاح بتقنية الرنا المرسال الخاصة بهم في البلدان النامية، بحجة أنه ليس من المنطقي القيام بذلك. ويقولون إن العملية معقدة للغاية، وإن إنشاء مرافق يمكنها القيام بذلك يتطلب وقتا وعمالة كثيرة للغاية، وإنهم لا يستطيعون توفير الموظفين بسبب الحاجة الملحة إلى تكثيف الإنتاج في شبكة المرافق الخاصة بهم.

لكن خبراء الصحة العامة في كل من البلدان الغنية والفقيرة يجادلون بأن توسيع الإنتاج في المناطق الأكثر احتياجا ليس ممكنا فحسب، بل هو ضروري لحماية العالم من المتغيرات الخطيرة للفيروس وإنهاء الوباء.

جدول يقارن بين لقاحات كورونا الموجودة حاليا من حيث السعر والفعالية والجرعات ودرجة حرارة التخزين

تبرعات بطيئة

كان من المفترض تلبية احتياجات البلدان الفقيرة من اللقاحات من خلال منظومة "كوفاكس" (Covax)، وهي هيئة متعددة الجنسيات تهدف إلى تسهيل توزيع اللقاح العالمي، لكن التبرعات كانت بطيئة ومحدودة ولم يتم تطعيم سوى 4% فقط من السكان في البلدان منخفضة الدخل بشكل كامل.

حسب معظم التقديرات، تبلغ تكلفة إنشاء الإنتاج من مئة إلى مئتي مليون دولار. ويمتلك عدد قليل من منتجي الأدوية الكبار في البلدان النامية هذه الأموال، بينما سيحتاج الآخرون إلى قروض أو مستثمرين. لدى كل من شركة تمويل التنمية الدولية الأميركية ومؤسسة التمويل الدولية مليارات الدولارات كتمويل متاح لهذا النوع من المشاريع، في شكل قروض منخفضة الفائدة أو حصة من حقوق الملكية.

أجرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلات مع العشرات من المديرين التنفيذيين والعلماء في شركات اللقاحات والأدوية والتكنولوجيا الحيوية في جميع أنحاء العالم النامي، ومن تلك المحادثات وجدت 10 مرشحين أقوياء لإنتاج لقاحات الرنا المرسال ضد فيروس كوفيد-19 في 6 دول في 3 قارات. وتشمل المعايير الرئيسية: المرافق القائمة، ورأس المال البشري، والنظام التنظيمي للأدوية والمناخ السياسي والاقتصادي.

بين المرشحين شركاتٌ تصنع بالفعل لقاحات أخرى ضد كوفيد، مثل معهد "سيروم" (Serum Institute of India) الهندي أكبر صانع للقاحات في العالم، والمؤسسات العامة التي تختبر بالفعل لقاحات الرنا المرسال الخاصة بها ضد فيروس كورونا، والشركات التي اختارتها منظمة الصحة العالمية لتكون مراكز إقليمية لتطوير الرنا المرسال.

تخزين

تصنع شركتان في آسيا بالفعل لقاحات الرنا المرسال الخاصة بهما ضد فيروس كوفيد-19. إحداهما هي شركة "جينوفا" (Gennova) للأدوية الحيوية في بيون بالهند، ولديها تجربة في المرحلة الثانية والثالثة من التجارب السريرية. وتقول الشركة إنه على عكس لقاحات الرنا المرسال المستخدمة حاليا، يمكن تخزين لقاحها في درجة حرارة الثلاجة الطبية القياسية.

أما الشركة الأخرى فهي "بيونت-آسيا" (BioNet-Asia)، وهي شركة تصنيع أدوية تايلندية، تنتج مجموعات اختبار من لقاح الرنا المرسال ضد كوفيد-19 تم تطويره في مركز أبحاث اللقاحات بجامعة شولا في بانكوك والذي هو في المرحلة الثانية من التجارب. وقال كيات روكسرونغثام، رئيس فريق البحث الذي يصنع لقاح "شولا كوف19" (ChulaCov19 vaccine)، إنه إذا استمرت النتائج إيجابية، فقد يذهب اللقاح إلى هيئة تنظيم الأدوية في تايلند بحلول شهر مارس/آذار المقبل، وستكون شركة بيونت-آسيا جاهزة للإنتاج التجاري بعد الموافقة.

وأوضحت الكاتبة أن شركات الأدوية الأخرى ترغب في ترخيص أحد لقاحات الرنا المرسال الموجودة، والبدء في صنعه في أسرع وقت ممكن. وقال ستيفن سعد، الرئيس التنفيذي لشركة "إسبن فارماكير" (Aspen Pharmacare) في ديربان بجنوب أفريقيا، إنه من خلال استثمار يقدر بنحو مئة مليون دولار، يمكن أن تنتج شركته مليار جرعة من لقاح الرنا المرسال في غضون عام، وهي كمية أكثر من كافية لتزويد أفريقيا بأكملها.

لقاحات، مقارنة بين لقاحات كورونا من حيث الأعراض الجانبية، انفوغراف

 

الحمض النووي الريبي

قريبا ستبدأ "بيوـ مانغينهوس" (Bio-Manguinhos)، ذراع علم الأحياء المناعي لمنظمة أبحاث الصحة العامة البرازيلية، التجارب السريرية للقاح كوفيد القائم على الحمض النووي الريبي، وفقا لسوتيريس ميساليديس نائب مدير تطوير التكنولوجيا لمركز البحوث. هذا العام، ضاعفت شركة بيوـ مانغينهوس قدرتها الإنتاجية تقريبا من اللقاحات الأخرى، بما في ذلك لقاح "أسترازينيكا" (AstraZeneca)، الذي تنتجه بموجب عقد. يوجد في البرازيل هيئة تنظيمية طبية تحافظ على نفس معايير إدارة الغذاء والدواء الأميركية ووكالة الأدوية الأوروبية.

وأشارت الكاتبة إلى أن مجموعة من العوامل أدت إلى تقييد الوصول إلى اللقاحات في البلدان النامية، بما في ذلك سلسلة التوريد واختناقات الشحن والسياسة. وقد كان من المفترض أن يقوم معهد سيروم بتزويد منظومة كوفاكس باللقاحات، لكن حكومة الهند حظرت الصادرات في ذروة الموجة الثانية من الفيروس في البلاد. وفازت شركة أسبن في جنوب أفريقيا بعقد لتعبئة لقاح "جونسون آند جونسون" (Johnson & Johnson)، لكن كان عليها تصدير العديد من الجرعات إلى أوروبا وكندا، مما أثار غضبا عاما من النشطاء.

أرباح

لقد حققت لقاحات الرنا المرسال ضد فيروس كوفيد أرباحا في عام واحد أكثر من أي منتج سابق في التاريخ الصيدلاني، وهي في طريقها لتحقيق إيرادات تزيد عن 53 مليار دولار هذا العام وحده.

وفسرت الكاتبة أن الجدل حول تصنيع لقاحات الرنا المرسال ضد فيروس كوفيد يشبه حدثا قبل عقدين حول علاجات فيروس نقص المناعة البشرية. مات مئات الآلاف من الأشخاص بسبب الإيدز في أفريقيا بعد فترة طويلة من توفر الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية على نطاق واسع في الدول الغنية، لأن الأدوية الحاصلة على براءة اختراع كانت تُباع بسعر مرتفع للغاية لدرجة يصعب على الحكومات في البلدان الأكثر تضررا شراءها.

وقد نظم دعاة الوصول إلى العلاج حملة عالمية تطالب صانعي الأدوية بإعطاء ترخيص للمنتجين ذوي التكلفة المنخفضة، أو التخلي عن حقوق ملكيتهم الفكرية للسماح لجهة أخرى بسد الفجوة.

ورغم إصرار شركات الأدوية الغربية الكبرى على أنه لا توجد طريقة لجعل الأدوية أرخص، فإن شركات الأدوية الهندية والبرازيلية والتايلندية والجنوب أفريقية قالت إنها تستطيع فعل ذلك. وقد أجرت الشركات الهندية هندسة عكسية للعديد من الصيغ، ويتم اليوم تصنيع الجزء الأكبر من أدوية الإيدز في العالم في هذه البلدان.

خلط لقاحات فيروس كورونا المستجد

 فشل الجهود

الآن، تواجه منظمة الصحة العالمية تحديا مماثلا. قال مارتن فريد، الذي يدير مبادرة أبحاث اللقاحات في منظمة الصحة العالمية، إنه بسبب تواصل فشل الجهود المبذولة للفوز بصفقات الترخيص أو أي تعاون آخر من شركتي فايزر وموديرنا، تدعم المنظمة جهدا لعكس هندسة لقاح موديرنا في مركز نقل التكنولوجيا في جنوب أفريقيا. وستقوم شركة التكنولوجيا الحيوية "أفريجن بيولوجيكس" بتصنيع الرنا المرسال وسيقوم معهد "بيوفاك" (The Biovac Institute) بتصنيع اللقاحات.

بدلا من منح تصريح التصنيع، أعلنت شركة موديرنا في وقت سابق من هذا الشهر أنها ستنفق ما يبلغ 500 مليون دولار لبناء مصنع لقاحات خاص بها في أفريقيا. وأعلنت شركة "بيونتيك" (BioNTech)، مخترعة تقنية الرنا المرسال لشركة فايزر، عن خطط لبناء مصانع في أفريقيا في الأعوام الأربعة المقبلة. في المقابل، تقول صناعة الأدوية الغربية، وبعض خبراء سلسلة التوريد والصحة، إن أسرع طريق لسد فجوة لقاح كوفيد هو التركيز على توزيع أكثر إنصافا للقاحات التي تصنعها الشركات الحالية.

لنشر الطاقة الإنتاجية في جميع أنحاء العالم النامي، تعمل منظمة الصحة العالمية أيضا على مسار ثان يسعى إلى إقامة شراكات مع مؤسسات مثل مركز أبحاث الدكتور روكسرونغثام في بانكوك. قد يكون إنتاج هذه اللقاحات أرخص، والأهم من ذلك أنه لا يتطلب تخزينا شديد البرودة، وبالتالي يكون أكثر ملاءمة للاستخدام في الأماكن منخفضة الموارد، كما قال الدكتور فريد.

تنتج بعض الشركات ومراكز البحوث ابتكارات يمكن أن تفيد مناطقهم بما يتجاوز الوباء الحالي. لقد عملت شركة جينوفا في الهند مع شركة ناشئة في سياتل تدعى "إتش دي تي بيو" (HDT Bio) لتطوير طريقة جديدة لتوصيل الرنا المرسال بجزيئات نانوية دهنية، وهي طريقة لا تتطلب التخزين البارد الشديد.

مضاعفات لقاحات كورونا إنفوغراف

 بنية تحتية

وقال الرئيس التنفيذي لشركة جينوفا الدكتور سينغ إن الشركة تلقت تمويلا أوليا من حكومة الهند، وتخطط لاستخدام الموارد الداخلية والشراكة المحتملة التي تتفاوض بشأنها مع وكالة كبيرة متعددة الأطراف للمضي قدما في صنع لقاحها.

وفي حين أن جينوفا لديها التكنولوجيا، فإن المنتجين الآخرين مثل صانعي اللقاحات البرازيليين والأرجنتينيين سيحتاجون إلى بنية تحتية. أما بالنسبة للمنتجين الذين لم يعملوا بعد على تقنية الرنا المرسال، فإن أسرع طريقة لبدء صنع لقاحات كوفيد ستكون شراكة مع فايزر أو موديرنا، لكن نقل التكنولوجيا سيشمل مئات الخطوات، حسب قول خبير سلسلة التوريد في مركز التنمية العالمية براشانت ياداف.

وقدر ياداف أن الحصول على لقاح الرنا المرسال جاهز للاستعمال سيستغرق من أحد المنتجين في جنوب أفريقيا أو البرازيل ما يبلغ 18 شهرا. كما يجب أن تكون هناك عملية موازية لتعزيز قدرة الهيئات التنظيمية الوطنية والتي ستكون حاسمة للحفاظ على جودة اللقاحات.

المصدر : نيويورك تايمز