هكذا حاربت إسبانيا الجدري بإرسال مجموعة من الأيتام حول العالم كـ"لقاحات بشرية"

FILE - In this June 23, 1974 file photo a small Indian child displays the result of smallpox at Hakegora village in India. Smallpox, one of the world's deadliest diseases, eradicated three decades ago, is kept alive under tight security today in the United States and Russia. Many other countries say the world would be safer if those stockpiles of the virus were destroyed and now for the fifth time, at a World Health Organization meeting on May 16, 2011, they will push again for the virus' destruction but it seems their efforts will be futile as U.S. and Russian government officials say it is essential they keep some smallpox alive in case a future biological threat demands more tests with the virus.
صورة أرشيفية تعود لعام 1974 تظهر طفلة في الهند مصابة بالجدري (أسوشيتد برس)

أعاد صراع إسبانيا مع جائحة فيروس كورونا المستجد إحياء ذكريات حملة تاريخية لمكافحة الجدري ومصير مجموعة من الأيتام الذين استخدموا لنقل اللقاح.

وفي مقالها الذي نشرته صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، قالت الكاتبة لورا مانرينغ إن الرحلة التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر عادت إلى الواجهة مرة أخرى خلال شهر مارس/آذار، عندما استدعيت القوات المسلحة لتعزيز استجابة البلاد لفيروس كورونا وتطهير المطارات ودور الرعاية. وسميت العملية "بعملية بالميس"، على اسم الطبيب فرانسيسكو خافيير دي بالميس، الذي قاد الحملة إلى المستعمرات الإسبانية التي تفشى فيها مرض الجدري.

وأشارت الكاتبة إلى أن الجدري كان يودي بحياة مئات الآلاف بأوروبا، سنويا في نهاية القرن الثامن عشر ودمر مستعمرات إسبانيا وفتك بسكانها الأصليين. لهذا السبب، غالبا ما يقع إلقاء اللوم على المستعمرين الإسبان وغيرهم من المستعمرين الأوروبيين لنشر المرض القاتل في كثير من الأحيان.

في عام 1803، ترأس بالميس البعثة الاستكشافية التي انطلقت من ميناء لاكورونيا شمال إسبانيا لمكافحة الجدري في مستعمراتها بقيادة أطباء عسكريين. واعتمد نجاح المهمة على 22 طفلا يتيما تتراوح أعمارهم بين 3 و9 سنوات، قاموا بنقل اللقاح الحي بأجسادهم في رحلة بحرية استمرت أسابيع.

وذكرت الكاتبة أن البعثة نقلت اللقاح إلى جزر الكناري أولا، وتوجهت بعد ذلك إلى بورتوريكو وفنزويلا ثم انقسمت البعثة، حيث توجه بالميس إلى كوبا والمكسيك والفلبين، بينما أخذ الطبيب الكتالوني جوزيب سالفاني اللقاح إلى كولومبيا والإكوادور وبيرو وبوليفيا وتشيلي.

جدري البقر

على متن السفينة المنطلقة من إسبانيا إلى بورتوريكو، تم نقل اللقاح بين الأولاد، وهي الطريقة الأكثر موثوقية لمنعهم من الهلاك. ويتكون اللقاح من جرعة من جدري البقر، اكتشفها العالم البريطاني إدوارد جينر، تمكنت من توفير مناعة للأشخاص ضد الجدري.

ونقلت الكاتبة ما جاء على لسان خوسيه كارو أوتيرو، رئيس الأكاديمية الملكية للطب والجراحة في منطقة غاليسيا الشمالية الذي أوضح، أن "السائل من البثور الذي ظهر في زوج من الأطفال الذين تم تلقيحهم كان يقدم لزوج جديد كل 10 أيام عن طريق الخدوش على أذرعهم. وعلى الرغم من أن الآثار الجانبية كانت أخف من تلقي جرعة من الجدري، فإن خطر الإصابة بالحمى والغثيان ظل قائما".

ويضيف كارو أوتيرو أنه "دون وجود الأطفال كانت عملية نقل اللقاح مستحيلة. وفي البداية، قام الأطباء باحتساب عدد الأطفال الذين سيكونون كافيين للحفاظ على السلسلة، بناء على الوقت الذي ستستغرقه الرحلة".

وفي الواقع، تعد الرحلة الاستكشافية أول جهد تطعيم جماعي في العالم، والهدف من إحيائها في الذاكرة الجماعية هو الإشادة بالإنجاز الطبي الذي لم يتم إيلاؤه الحظ الأوفر من الاهتمام والترحيب.

وحسب الكاتبة الإسبانية ماريا سولار، فإن "أهمية البعثة لا تكمن في مجرد نقل اللقاح، بل في تعليم الناس كيفية إدارة التطعيمات وإخبارهم بالبنية التحتية اللازمة لذلك". وتصور روايتها، التي كانت بعنوان "أطفال الجدري"، حياة الأطفال في دار أيتام إيزابيل زيندال في لاكورونيا، التي تم اختيار 13 فتى من أبنائها لإجراء هذه الرحلة.

وأكدت الكاتبة أنه من بين جميع المشاركين في هذه البعثة، من المحتمل أنه تم التقليل من أهمية الدور الذي اضطلع به الأطفال كلقاحات بشرية. فقد سجل العديد من الأولاد -من ذلك الوقت- بالأسماء الأولى فقط في الوثائق، ولم يعرف سوى القليل عن مصيرهم النهائي. وفي المقابل، فإن الأمر لم يمنع الأكاديميين والكتاب وصانعي الأفلام من تسليط الضوء على قصتهم.

مرض فيروسي

يعد الجدري من بين أكثر الأمراض فتكا بالبشرية على الإطلاق، فقد غير مسار التاريخ البشري بشكل كبير، وأسهم في تدهور الحضارات وتدميرها.

والجدري (Smallpox) مرض فيروسي يسببه فيروس "فاريولا" (Variola) يعد من أكبر الفيروسات حجما، ويؤدي إلى ظهور بقع تتطور إلى بثور صغيرة ثم إلى ندوب عميقة، وقد تسبب هذا المرض في قتل نحو 30% ممن أصيبوا به عبر التاريخ.

وهناك سلالتان مختلفتان للجدري، هما: الجدري الرئيسي أو الخطير (Variola Major)، والجدري الصغير أو غير الخطير (Variola Minor). وكما تشير الأسماء، فإن الجدري الرئيسي هو الشكل الفتاك والأكثر خطورة، بينما يكون الجدري الصغير أقل خطورة.

وعادة ما تظهر الأعراض العامة للجدري بعد 12-14 يوما من الإصابة، وتكون أعراضا شبيهة بأعراض الإنفلونزا، وتشمل الحمى وعدم الراحة بشكل عام والصداع والتعب الشديد وآلام الظهر الشديدة والتقيؤ.

وبعد بضعة أيام، تظهر البقع الحمراء المسطحة أولا على الوجه واليدين والساعدين، ثم على الجذع، وفي غضون يوم أو يومين يتحول العديد من هذه البقع إلى بثور صغيرة مليئة بسوائل شفافة، تتحول فيما بعد إلى قيح. وتبدأ قشور الجروح (Scabs) في التكون بعد 8 إلى 9 أيام، ثم تسقط في نهاية المطاف تاركة ندوبا عميقة. أما في حال وفاة المريض فعادة ما يكون تسمم الدم هو السبب.

بين البشر

وتحدث عدوى فيروس الجدري فقط بين البشر. ومن أهم الأسباب التي أكسبت الجدري خطورته أنه مرض ينتقل عبر الهواء (Airborne disease)، وعادة ما ينتشر هذا النوع من الأمراض بسرعة كبيرة، فالسعال والعطاس والاتصال المباشر مع أي سوائل جسدية يمكن أن ينشر فيروس الجدري، وبالإضافة إلى ذلك فإن مشاركة الملابس الملوثة أو الفراش يمكن أن يساهم في نقل العدوى.

ولا يوجد علاج للجدري. وفي حال الإصابة، فإن العلاج كان يركز على تخفيف الأعراض ومنع إصابة المريض بالجفاف، وقد توصف بعض المضادات الحيوية للمريض إذا ما تطورت لديه عدوى بكتيرية ثانوية في الرئتين أو على الجلد.

وكانت آخر حالة للجدري في الولايات المتحدة عام 1949. وبعد حملات التطعيم المكثفة في الستينيات والسبعينيات، أعلن عن آخر حالة للجدري في العالم عام 1977، وكانت في الصومال. وفي عام 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية أن العالم أصبح خاليا تماما من الجدري. وبهذا يكون الجدري أول مرض ينتصر عليه البشر.

وتجدر الإشارة إلى أن اللقاح ضد الجدري غير متوفر في الوقت الراهن لعامة الناس، وذلك بسبب النجاح في القضاء التام على المرض وانعدام وجود الفيروس.

المصدر : إندبندنت + الجزيرة + منظمة المجتمع العلمي العربي