يطال سكانها بصمت.. ما قصة السرطان بجسر ديالى ببغداد؟

) طفل لم يتجاوز الثلاثة اشهر من عمره مصاب بسرطان اللثة
طفل لم يتجاوز الثلاثة أشهر مصاب بسرطان اللثة (الجزيرة)

مروان الجبوري-بغداد

بوجه شاحب وعينين غائرتين يقضي محمد طالب أيامه الأخيرة كما أخبره الأطباء، بعد رحلة معاناة مع مرض السرطان استمرت ستة أعوام، عجزت خلالها أسرته عن تأمين مصاريف رحلة علاجية إلى الهند كان يمكن أن تنقذ حياته وهو لم يتجاوز الـ 32 من عمره بعد.

طالب المصاب بسرطان القولون أحد سكان ناحية "جسر ديالى" الواقعة جنوبي شرقي بغداد، والتي باتت مرتعا مخيفا لانتشار هذا المرض الخبيث، بحسب تقارير طبية، يعجز معظم المصابين به عن توفير متطلبات العلاج، مما يؤدي باستمرار إلى وفاة العديد منهم.

ورغم تلقيه للعلاج الكيميائي وتساقط شعره واصفرار لونه، فإن جسده النحيل لم يعد يستجيب له، كما فشلت جميع مراجعاته للمستشفيات الحكومية في وضع حد لاستشراء هذا المرض الذي يوشك أن يقضي على حياته.

لم يكن أحد من أبناء هذه البلدة الصغيرة يعرف قبل سنوات أنها ستصبح مسرحا لموت صامت يطال المئات من أبنائها الذين تشربت أجسادهم بالإشعاعات المتسربة من المخلفات الحربية التي قصفت بها البلدة أيام احتلال العراق عام 2003.

كما أن موقع البلدة القريب من منطقة "التويثة" التي كانت تضم بناية المفاعل النووي سابقا الذي قصفته طائرات إسرائيلية عام 1981، مما جعلها ساحة لانتشار المرض بعدما تعرض المفاعل وحاوياته الملوثة باليورانيوم المنضب للنهب، ساهم في انتشار أسرع للسرطان.

يقول الأهالي إن هذه الحالات بدأت بالتفاقم في السنوات الأخيرة، ودخلت إلى كل بيت في المنطقة، فلا تكاد عائلة تخلو من مصاب فارق الحياة أو ما زال ينتظر، في ظل غياب للعلاج وفقر مدقع يفتك بالسكان.

‪أحد السكان الذين توفوا بسرطان القولون‬  (الجزيرة)
‪أحد السكان الذين توفوا بسرطان القولون‬ (الجزيرة)

نفي وتأكيد
المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر وصف الموضوع بأنه مبالغ فيه إعلاميا، مضيفا للجزيرة نت أنه أثير مرات عدة دون دلائل حقيقية، على حد قوله.

وبحسب البدر فإن هذه "المزاعم" لا تستند إلى أساس علمي، وإن فرقا من الوزارة خرجت مرات عدة لإجراء كشف على الموقع ولم تجد أي مؤشرات تدل على أن نسبة الإصابة بالسرطان في هذه المنطقة خارج المعدلات الطبيعية.

لكنه يشير أيضا إلى أن الحالات التي تم اكتشافها بالمنطقة يعود جزء كبير منها إلى الحاويات التي سرقت أو أخذت من موقع التويثة بعد عام 2003 مما أدى إلى ظهور حالات إصابة "فردية".

وترفض التقارير الصادرة عن أطباء وناشطين عملوا بالمنطقة سنوات ادعاءات وزارة الصحة، وتشير إلى معدلات مرتفعة للمرض تزيد على معظم مناطق العراق الأخرى.

ووفقا للطبيبة الباحثة في أثر المخلفات النووية إقبال لطيف، فإن هذه الحالات بدأت بالظهور في التسعينيات ثم زادت بعد 2003 لكنها باتت تتفاقم بسرعة بعد 2010، حتى وصل عدد المصابين بالسرطان اليوم بالناحية إلى أكثر من ألفي شخص، منهم 1600 مسجلون لدى الحكومة، والأعداد في تزايد مستمر.

أما أنواع المرض الخبيث المشخصة هناك فقد تجاوزت 51 نوعا، يأتي في مقدمتها سرطان الثدي وسرطان القولون، كما انعكست بشكل مباشر على الولادات التي زادت فيها نسبة التشوهات، إذ يولد أطفال بلا أطراف أو بنقص في الكلى والأعضاء الداخلية، وهي مؤشرات تدل على ارتفاع نسبة اليورانيوم المنضب بالهواء والتربة في البلدة، كما تؤكد الباحثة.

دعاوى قضائية
ويسعى ناشطون عراقيون -من بينهم الطبيبة إقبال- إلى رفع دعوى قضائية في المحاكم العراقية والدولية ضد الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي التي كانت السبب المباشر في انتشار هذا المرض، كما يقولون.

وتقول إقبال إن الفرقة الأولى من مشاة المارينز الأميركيين دخلت بغداد عن طريق هذه المنطقة، وحين واجهتها مقاومة عنيفة من قبل الجيش العراقي ومتطوعين استمرت لثلاثة أيام، استخدمت الفرقة مختلف أنواع الأسلحة كان من بينها أسلحة ملوثة، بدأت تظهر آثارها بعد ذلك بمدة.

أنواع السرطان المشخصة في جسر ديالي تجاوزت 51 نوعا، في مقدمتها سرطانا الثدي والقولون

وتضيف أن الولايات المتحدة ودول التحالف مطالبة اليوم بمعالجة التربة والمياه، وإجراء عملية مسح بالطائرات للإشعاع الموجود من شمال العراق حتى جنوبه وتحديد خارطة الأماكن التي قصفت.

ولا يبدي الأهالي المنكوبون اهتماما كبيرا بما يدور حولهم وما تتناقله عنهم وسائل الإعلام، فهم مشغولون بمصيبتهم حائرين بإنقاذ من تبقى من أبنائهم قبل أن تضاف أسماؤهم إلى قائمة المرشحين للموت بالسرطان.

ندى كاظم واحدة من الأمهات اللواتي فجعن بإصابة أحد أبنائها بالسرطان، تقول إن حياتها انقلبت رأسا على عقب بعدما علمت بإصابة صغيرتها ذات الست سنوات بسرطان اللثة، ولم تترك بابا لم تطرقه من أجل جمع مصاريف العلاج لها لكن دون جدوى.

لم تظهر علامات المرض على الصغيرة إلا منذ شهور، كانت تحكي قبل ذلك لأهلها عن آلام في فمها، إلا أنهم اعتقدوا أنها مجرد أعراض لالتهاب عادي، ثم اضطروا لنقلها إلى مستشفى مدينة الطب في بغداد، وكان الخبر الصاعقة.

قصص كثيرة يرويها السكان هنا وآلام لا تنتهي، إلا أن أشد ما يؤذيهم -كما يؤكدون- هو أن الحكومة لم تكلف نفسها عناء التحقق من حالاتهم ثم تقديم المساعدة لهم، لأنهم في نظرها مجرد "أصوات انتخابية" انتهى مفعولها بنهاية الانتخابات، كما تقول ندى بحرقة.

المصدر : الجزيرة