خبراء الصحة في البلدان النامية

العنوان: خبراء الصحة في البلدان النامية - الكاتب: محمد جبير شيستي - الاقتباس: تقع أغلب الأعباء المترتبة عن الصحة العامة عالميا على عاتق البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.

محمد جبير شيستي*

نعيش اليوم في عصر التناقضات الصحية المأساوية؛ فرغم قضاء حملات التحصين الجماعي على أمراض بأكملها، فلا يزال الأطفال في بلدان مثل هايتي وبنغلاديش يموتون بسبب الأمراض المعدية التي يمكن علاجها بسهولة.

لقد أنقذت العولمة ملايين الناس من براثن الفقر المدقع، لكنها تركتهم عرضة لأمراض في عصر ما بعد الصناعي -مثل مرض السكري والإصابة بأمراض القلب- في البلدان التي تفتقر إلى الموارد اللازمة لمعالجتها.

ومن المفارقات أن الأغلبية العظمى من البحوث الصحية توجد في الاقتصادات الغنية، لكن تقع أغلب الأعباء المترتبة عن الصحة العامة عالميا على عاتق البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. وهناك إشكال كبير وغير أخلاقي يتعلق بتخصيص هذه الموارد؛ الأمر الذي يمنع تطوير الحلول الصحية لأولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها.

بالتأكيد، كانت من الممكن معالجة الجيل الأول من مشاكل التنمية العالمية بالنقل المباشر لرأس المال وللحلول من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة. هناك أمثلة على ذلك تشمل برامج لتعزيز الالتحاق بالمدارس الابتدائية، والصحة العامة، وحملات التحصين الجماعي.

لكن مشاكل التنمية الجديدة، من جودة التعليم إلى وفيات الأطفال بسبب الأمراض التي يمكن علاجها، لن يكون من السهل حلها، ويتطلب حلها بناء القدرات على المدى الطويل ونقل المعرفة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، مع لعب الأخيرة الدور الفعال في تطوير الحلول.

وبعبارة أخرى، ينبغي أن يتحول التركيز من الإستراتيجيات والاستثمارات في مجال الصحة العامة على الصعيد العالمي إلى الحد من الفوارق الهيكلية بين الدول الغنية والفقيرة، من حيث قدرتها على البحوث الطبية وتحسين الرعاية الصحية.

على مدى السنوات 15 الماضية أسهمت الابتكارات العلمية التي تقودها البلدان النامية بشكل كبير في إحراز تقدم بشأن الأهداف الإنمائية للأمم المتحدة للألفية، خاصة تلك المتعلقة بالصحة العالمية

هدف رئيسي
هذه المهمة التي سأتطرق إليها ينبغي أن تكون الهدف الرئيسي للجهود في مجال الصحة العامة على الصعيد العالمي اليوم، ومن شأنها تخصيص دور محوري لمؤسسات مثل المركز الدولي لأبحاث أمراض الإسهال في دكا في بنغلاديش، حيث أعمل كعالم.

كما هي الحال الآن، تشمل معظم أنشطة الصحة العامة العالمية باحثين من الدول المتقدمة الذين يقودون الفرق المحلية في البلدان النامية. ورغم أن هذا أفضل من فرض الحلول الجاهزة على العالم النامي كما حدث خلال الحرب الباردة، لكنه ليس جيدا بما فيه الكفاية.

إذ يجب أن تُسير الأبحاث الطبية وتُنَفذ السياسات في العالم النامي من قبل الباحثين والمختصين المنتمين إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، الأشخاص الذين يمكنهم الجمع بين أحدث الخبرات العلمية والفهم الدقيق للسياقات المحلية.

وظهرت قيمة الابتكار التي تقودها البلدان النامية مرارا وتكرارا، فعلى مدى السنوات 15 الماضية أسهمت الابتكارات العلمية التي تقودها البلدان النامية بشكل كبير في إحراز تقدم بشأن الأهداف الإنمائية للأمم المتحدة للألفية، خاصة تلك المتعلقة بالصحة العالمية.

وتكفي إسهامات المركز الدولي لأبحاث أمراض الإسهال وحدها لإثبات قيمة الابتكار الصحي في البلدان النامية، حيث يقوم باحثو المعهد بعلوم مبتكرة ومعقدة من التجارب السريرية والدراسات الوبائية إلى تجارب تخص تغيير السلوك وتهدف إلى الحد من انتشار الأمراض المعدية مع تحقيق نتائج ملحوظة.

هناك مثال لعمل المركز الدولي لبحوث أمراض الإسهال، الذي يتمثل في محلول الإماهة الفموية (ORS)، وهو محلول متوازن بسيط يتكون من مزيج السكر والملح ويُعطى عن طريق الفم للأشخاص الذين يعانون من أمراض الإسهال مثل الكوليرا.

وحال هذا المحلول، الذي لعب المركز الدولي لبحوث أمراض الإسهال دورا محوريا في تطويره، دون وفاة ما يقدر بنحو أربعين مليون شخص على الصعيد العالمي منذ عام 1960، وتم اعتباره واحدا من الاختراعات الطبية الأكثر أهمية في القرن العشرين.

الابتكارات الصحية المتقدمة في البلدان الفقيرة في العالم اجتازت اختبار قابليتها وإمكانية تطبيقها في الأماكن التي هي في أمس الحاجة إليها

فقاعة
وفي الآونة الأخيرة، وضعت أنا وزملائي في الفريق نظاما جديدا منخفض التكلفة لتقديم "فقاعة CPAP" (الضغط الهوائي الإيجابي المستمر)، التي تحافظ على تدفق الهواء أثناء عملية علاج الالتهاب الرئوي الحاد، وشارك في المشروع أيضا تريفور ديوك، مدير المركز الدولي لصحة الطفل في المستشفى الملكي للأطفال في جامعة ملبورن.

وأثبتت نسخ فقاعة الضغط الهوائي الإيجابي المستمر، التي تستخدم مواد رخيصة ومتوفرة بسهولة مثل أنابيب البلاستيك وقنينات الشامبو، في التجارب أنها أكثر فعالية من العلاج القياسي لانخفاض تدفق الأكسجين التي أوصت به منظمة الصحة العالمية.

وبعد التجربة، نفذ مستشفى دكا التابع للمركز الدولي لأبحاث أمراض الإسهال فقاعة الضغط الهوائي الإيجابي منخفضة التكاليف، بدلا من العلاج الذي أوصت به منظمة الصحة العالمية، وذلك كجزء من العلاج القياسي للأطفال المصابين بالالتهاب الرئوي. ومنذ ذلك الحين، انخفض معدل الوفيات في المرضى الذين عولجوا بفقاعة الضغط الهوائي الإيجابي المستمر من 21٪ إلى 6٪ فقط.

وتنبع هذه النجاحات الملحوظة من كون معظم الباحثين في المركز الدولي لأبحاث أمراض الإسهال -من البنغاليين الذين تدربوا في الخارج- وهم على دراية جيدة بالمشاكل التي يحاولون التصدي لها؛ فهم يفهمون معنى مواجهة قيود المصادر الصعبة، التي -إلى حد ما- لا يمكن التغلب عليها.

إن تجربة الأهداف الإنمائية للألفية لمدة 15 عاما قد أوضحت الإمكانيات الحاسمة المتوفرة لدى البلدان النامية لتعزيز الصحة العامة. ولحسن الحظ، يبدو أن قادة العالم أخذوا هذا الدرس بعين الاعتبار: الأهداف الإنمائية المستدامة -برنامج التنمية الطموح لما بعد عام 2015 الذي اعتُمد في سبتمبر/أيلول الماضي في الأمم المتحدة- قامت على فكرة المِلكية المحلية.

لكن على الرغم من الدعم الشفوي للبحث والتطوير المحليين، لا تزال هناك قيود شديدة على الابتكار في البلدان النامية والتي يجب إزالتها على وجه السرعة. ولا غرابة أن أشد المعوقات تتمثل في عدم وجود الموارد البشرية والمالية. ولإزالة هذه القيود يجب على البلدان المتقدمة والنامية الآن العمل معا لضمان الاستثمار الكافي لدعم الجهود المحلية بشكل موثوق ومستدام.

بفضل الدعم الكافي من مؤسسات التمويل المحلية والدولية، يمكن للمزيد من مراكز الابتكار مثل المركز الدولي لأبحاث أمراض الإسهال أن تنشأ وتزدهر في البلدان الفقيرة. ومن خلال تطوير تقاسم المعرفة ونقل التكنولوجيا، ستقوم هذه المحاور بتعزيز التعاون بين البلدان النامية، وتساعدنا في النهاية على التغلب على الفوارق المستعصية والمأساوية التي تعاني منها الصحة العالمية.

لقد اجتازت الابتكارات الصحية المتقدمة في البلدان الفقيرة في العالم اختبار قابليتها وإمكانية تطبيقها في الأماكن التي هي في أمس الحاجة إليها. وبالنظر إلى الأغلبية العظمى من سكان العالم الذين يعيشون في أوضاع تفتقر إلى الموارد، يجب أن ندرك ونستثمر في جهود أولئك الذين يحاولون تعزيز مجالات العلوم الطبية في العالم النامي.
_______________
* عالم ورئيس قسم الأبحاث السريرية والمستشفيات والقيادة السريرية ووحدة العناية المركزة في مستشفى دكا في المركز الدولي لأبحاث أمراض الإسهال، في بنغلاديش.

المصدر : بروجيكت سينديكيت