حرب العملات بين أميركا والصين.. سؤال وجواب

U.S. and Chinese flags are seen in front of a U.S. dollar banknote featuring American founding father Benjamin Franklin and a China's yuan banknote featuring late Chinese chairman Mao Zedong in this illustration picture taken May 20, 2019. Picture taken May 20, 2019. REUTERS/Jason Lee/Illustration
الدول النامية ستكون الخاسر الأكبر من حرب العملات لاستمرارها في التبعية (الجزيرة)

عبد الحافظ الصاوي

في عالم تحكمه قواعد الصراع لا التعاون، تصبح السيناريوهات الرديئة واردة وبقوة، فلا تنظر القوى الكبرى للإنسان والمجتمعات الأخرى على أن من حقها الحياة الكريمة وامتلاك الثروة وتقاسم خيرات هذا الكون، وتتناسى هذه القوى أن ثروات العالم وزعت بطريقة تجعل الأصل هو التعاون وليس الصراع بين بني آدم.

لكن النظرات الضيقة والرغبة في الاستحواذ على جهود الآخرين تقودان القوى الكبرى إلى تبني العديد من السياسات الاقتصادية الخاطئة.

وبالنظر إلى الكتابات التاريخية للعلاقة بين الدول الغنية والفقيرة، نجد أن ثمة حالة من عدم التوازن في تلك العلاقة، فليس هناك مانع لدى الدول الغنية من أن يستمر ويزداد غناها على حساب الدول الفقيرة.

هل تنوب الصين عن الدول النامية؟
منذ وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهناك حالة من عدم الرضا عن قواعد تسيير النظام الاقتصادي العالمي، لأن المعالجات التي مورست وطرحت من قبل أميركا والغرب لتلافي الآثار السيئة لتلك الأزمة، تتلخص في أن تدفع فاتورة هذه الأزمة الدول الصاعدة والنامية.

والوضع الطبيعي أن تستثمر الدول الصاعدة على وجه التحديد حالة الضعف التي انتابت اقتصاديات أميركا والغرب، لكي تتم إعادة تشكيل خرائط السلطة والثروة في العالم، وتدار المؤسسات الدولية لصالح الجميع.

ولكن الأمر لم يمر بسهولة، وبدأت تتفاقم حالة الصراع بين أميركا والصين باعتبارهما تتصدران المشهد الاقتصادي العالمي.

ولا بد أن نستوعب أن الصين لا تخوض هذا الصراع نيابة عن الدول النامية والصاعدة، بقدر ما تخوضه من أجل المحافظة على ما حققته من ثروة، وما تطمح إليها من سلطة ونفوذ على الصعيد العالمي.

وحتى ندرك حجم الصرع وتداعياته على الاقتصاد العالمي، نستدعي موقف أميركا والاتحاد الأوروبي من العملة الصينية، لمطالبتهما برفع قيمة العملة الصينية منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، واتهامهما للصين بأنها تقوّم عملتها بأقل من قيمتها الحقيقية لزيادة حصتها من الصادرات.

والقراءة الصحيحة للسياسات المالية والنقدية لكل من أميركا والغرب والصين بعد الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام 2008، تشير إلى أن حرب العملات قائمة بالفعل، ولكن في ضوء ما يسمى "الحرب الباردة".

ما حرب العملات؟
في ظل الاقتصاديات المفتوحة وحرية التجارة، يكون من السهل مخالفة قواعد العرض والطلب لأسعار العملات، فيتم تخفيض قيمة عملة الدول المصدرة من أجل الحصول على حصة أكبر من الصادرات وتقليل الواردات قدر المستطاع، وإغراق الأسواق الخارجية بسلع رخيصة تضرب في العمق الأسواق والسلع المنافسة للدول الأخرى.

وبذلك تُشَلّ حركة الإنتاج في الدول المستوردة، ويحصل تراجع في معدل النمو وفرص العمل، ويزداد الفقر والبطالة.

لكن لا بد هنا من أن نذكر أن دول العالم أعطت أميركا أكبر فرصة لممارسة حرب العملات في أي وقت شاءت، ففي عام 1947 قبِل العالم الدولار كعملة رئيسة لتسوية المعاملات المالية والتجارية الدولية، واستكملت أميركا سيطرتها بشكل أكبر في هذا المجال عندما تخلت عن قاعدة الذهب عام 1971، وأطلق الاقتصاديون منذ ذلك التاريخ على العملة الأميركية "الدولار اللص".

فأميركا يرتبط بعملتها 70% من اقتصادات دول العالم، بما فيها أكبر منافس لها وهي الصين، وبالتالي إذا حدث أي تدهور في اقتصاد أميركا، انتقلت آثاره السيئة إلى باقي اقتصادات الدول المرتبطة بالدولار.

لا بد أن نستوعب أن الصين لا تخوض هذا الصراع نيابة عن الدول النامية والصاعدة، بقدر ما تخوضه من أجل المحافظة على ما حققته من ثروة

طبع النقود
هناك أدوات متعددة غير القرارات الإدارية تُستخدم في حرب العملات، مثل ما يسمى "التسيير الكمي"، بمعنى أن تقوم الدولة بشراء ديونها المحلية نظير طبع نقود، فيكثر عرض النقود في السوق فيقل سعر العملة المحلية، وهذا ما فعلته أميركا عام 2010، حيث طبعت 600 مليار دولار لشراء سنداتها المحلية، من أجل زيادة معدلات الاستهلاك وتنشيط الطلب المحلي.

لكن المدّخرين الأميركيين حولوا دفة هذه الأموال إلى أسواق المال في الدول الصاعدة، واشتروا بها أسهما وسندات في تلك الأسواق.

وانتبهت الدول الصاعدة إلى هذه الممارسات فقامت بما يسمى "تعقيم الأسواق"، بأن فرضت ضرائب على الأموال الأجنبية القصيرة الأجل، حتى تسيطر على موجة التضخم الناجمة عن دخول أموال الأميركيين إليها.

الشيء نفسه مارسه الاتحاد الأوروبي عام 2012 للخروج من تبعات أزمته المالية، ولكن الاتحاد الأوروبي طبع نحو تريليوني يورو.

* سعر الفائدة
من الأدوات الأخرى التي تستخدمها الدول في حرب العملات سعر الفائدة، بتخفيضه بمعدلات كبيرة تصل إلى الصفر في العديد من الدول الأوروبية الآن، وكثيرا ما مارسته أميركا بما ساعدها على لجم تأثير استثمارات الأجانب في سندات الخزانة الأميركية، لكي لا تكون هذه الأموال ورقة ضغط على أميركا.

ومعلوم أن الصين واليابان هما أكبر مستثمرين في سندات الخزانة الأميركية بنحو 1.2 تريليون دولار و1.1 تريليون دولار على التوالي.

هل بدأت حرب العملات؟
ليس هناك نقطة صفر تنطلق منها حرب العملات بين الدول المتصارعة، ويمكننا أن نقرأ أداء حرب العملات في واقع الصراع الأميركي الصيني.

فاتهام أميركا للصين بتخفيض قيمة عملتها قائم منذ أكثر من عقدين من الزمن، ولطالما طالبت أميركا ومعها الاتحاد الأوروبي الصين برفع قيمة عملتها، بينما كانت الصين ترى أن ذلك يدخل في إطار أعمالها السيادية، ويجب على أميركا ألا تعلق فشل سياساتها الاقتصادية على شماعة قيمة العملة الصينية.

ومع مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مطلع 2017، وتبنيه برنامجا للحد من الواردات الصينية، وخوضه معركة فرض رسوم جمركية على واردات مجموعة من الدول على رأسها الصين؛ لاحت في الأفق حرب تجارية أثارت مخاوف الدول والمؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليان).

ومع ذلك فشلت إجراءات ترامب في الحد من الواردات الصينية، حيث قفز الفائض التجاري لصالح الصين لتجارتها مع أميركا، إلى 419 مليار دولار نهاية 2018، بعد أن كان 375 مليار دولار في 2017.

الجدير بالذكر -بحسب الإحصاءات الأميركية- أن الفائض التجاري للصين مع أميركا كان بحدود 68 مليار دولار قبل 20 عاما، أي في 1999.

لكن بحسب المتعارف عليه اقتصاديا، فإن الدخول بخطى أسرع في حرب العملات يأتي بعد التصعيد الكبير في الحرب التجارية، برفع سقف الرسوم الجمركية للحد من الواردات وتشجيع الصادرات.

ولعل ترامب قد عجّل بهذه الخطوة، سواء من خلال قرارات فرض المزيد من الرسوم الجمركية على الواردات من الصين، أو عبر تصريحه مطلع أغسطس/آب 2019 بأن الصين تتلاعب بعملتها، بعد أن خفضت الصين عملتها لتصل إلى أدنى قيمة لها أمام الدولار منذ 11 عاما.

فالممارسات العملية بين الصين وأميركا تدل على تفعيل أدوات حرب العملات، من خفض قيمة العملات، أو آلية سعر الفائدة.

ويتوقع مع بقاء ترامب في السلطة لفترة ثانية أن تشتد وطأة حرب العملات، وأن تقفز لمستويات أعلى، وهذا بفرض أن توافقه المؤسسات الأميركية وتقرّه على قراراته الاقتصادية التي ينتقدها العديد من الاقتصاديين الأميركيين، وكذلك باقي خبراء الاقتصاد العالمي والمؤسسات الدولية. 

undefined

 ما نصيب العرب؟
كعادة العرب في ساحة الصراع العالمي، فإنهم يدفعون ثمن حرب لم يخوضوها.

فبتفرق العرب وعدم نجاحهم في تشكيل كيان عربي مستقل لهم يدافع عن مصالحهم، وفشل مشروع التعاون والتكامل الاقتصادي العربي؛ سوف يتأثر العرب سلبيا بحرب العملات، سواء في صورتها الباردة حاليا أو عندما تشتد جذوتها، وذلك من خلال المحاور الآتية: 

1- كما هو مشاهد من الصراع في أميركا والغرب، من خلال التسابق إلى خفض سعر الفائدة، فإن الاستثمارات العربية الموجودة بكثافة في أميركا وأوروبا، أو في دول تخضع لسيطرة الدولار، سوف تنخفض قيمة العوائد عليها بشكل كبير.

2- في حال انخفاض قيمة العملات -سواء الدولار الأميركي أو اليوان الصيني- فسوف تتأثر الاقتصادات العربية سلبيا من عدة وجوه، الأول أن الصناديق السيادية العربية للدول النفطية -والتي يبلغ بعض تقديراتها بنحو 2.6 تريليون دولار- سوف تنخفض قيمتها، وهو ما يعد إهدارا للثروات العربية في تلك الصناديق.

والوجه الثاني لتأثر الاقتصادات العربية سلبيا من انخفاض قيمة عملات الدول المتصارعة في حرب العملات، هو أن الدول العربية ستظل تعتمد على الواردات من تلك الدول بسبب انخفاض سعر الواردات بشكل كبير، كما حدث في أزمة دول جنوب شرق آسيا، حيث انخفضت قيمة عملاتها بنحو 40%، وترتب على ذلك أن تم إغراق الأسواق العربية بسلع تلك الدول.. وهو أمر شديد السلبية عن المشروعات التي تأمل في تنمية ونهضة تكنولوجية، أو الاهتمام بالنواحي الإنتاجية والبعد عن الأنشطة الريعية.

ماذا عن الحماية التجارية؟
تعتبر مدرسة التجاريين من أقدم المدارس في الفكر الاقتصادي التي أججت صراع الحماية التجارية، حيث قام فكر هذه المدرسة على تقديم كافة التسهيلات للصادرات لاستجلاب الذهب من الخارج، ووضع كافة العراقيل على الواردات لعدم خروج ما لدى الدولة من ذهب.

ومارست هذه السياسة أميركا وإنجلترا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية عقب الحرب العالمية الثانية، لاستكمال قواعدها الإنتاجية وبناء قطاعها الخاص، ثم قبلت فيما بعد بقواعد حرية التجارة، بعد أن اطمأنت على أدائها في السوق العالمي، وأن المنافسة في صالحها.

ففي عام 1971، تسببت فرنسا عبر ممارساتها تجاه الدولار الأميركي في تراجع أميركا عن قاعدة الذهب، والتي كانت تقضي بأن من يتوفر لديه من الأفراد أو الدول أي كميات من الدولار الأميركي، يمكنهم الرجوع به على الخزانة الأميركية، والحصول على يعادلها من الذهب.

كعادة العرب في ساحة الصراع العالمي، فإنهم يدفعون ثمن حرب لم يخوضوها

ماذا فعلت الصين؟
ثمة قراءة للباحث الأميركي من أصل صيني "سنوغ هونغبين"، في كتابه "حرب العملات" الذي صدر عام 2007، تنبأ فيه بقيام أميركا باستهداف الثروة الصينية -صاحبة أكبر رصيد من الاحتياطيات الأجنبية بالدولار- عبر افتعال أزمة عالمية، تؤدي إلى تبديد هذه الثروة، وهو ما حدث بالفعل في 2008.

لذلك حرصت الصين فيما بعد على توزيع مخاطر رصيدها من الاحتياطي، عبر الدخول في استثمارات مباشرة في آسيا وأفريقيا وأميركا نفسها، وكذلك إنشاء بنك البنية الأساسية الآسيوي بنحو 100 مليار دولار كرأس مال، والدخول في مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقت عام 2013، وتضخ فيها الصين مليارات الدولار.

كما سعت الصين لتكون جزءا من المكون النقدي العالمي، حيث اعتمد اليوان كعملة حرة للتداول، وكذلك كأحد العملات المكونة لوحدات السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي في سبتمبر/أيلول 2016.

ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقرأ السياسات المالية والنقدية لأميركا على وجه الخصوص، بعيدا عن الممارسات المتعلقة بحرب العملات.

الدولار والمعركة الفاصلة؟
الحديث عن عملة بديلة للدولار للتسويات المالية الدولية ظل خافتا لفترة طويلة، ثم خرج للعلن في اجتماع مجموعة العشرين، عقب الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام 2008، وبحضور الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وكانت الصين صاحبة هذا المطلب.

ومنذ ذلك التاريخ وُضِعت الصين في مرمى نيران الساسة والاقتصاديين الأميركيين.

وعلى الرغم من أن الصين هي التي أخذت زمام المبادرة، فإن هناك دولا أخرى تشاركها الرأي، وترى أن أميركا تصدّر مشكلاتها الاقتصادية لدول العالم عبر عملتها الدولار.

وإذا ما نجحت الصين في تحقيق خطوات لتنفيذ مطلبها تجاه الدولار على أرض الواقع، فسيكون ذلك أكبر مؤشر على تراجع حقيقي لقوة أميركا سياسيا واقتصاديا وعسكريا.

ماذا بعد؟
إن احتدام الصراع الاقتصادي -الذي تعد حرب العملات من أدواته- سيلقي بظلاله السلبية على الساحة العالمية لفترة قد تمتد للأجلين القصير والمتوسط، وسوف يدفع الجميع فاتورتها، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة.

بيد أن الدول النامية ستكون الخاسر الأكبر، لاستمرارها في حلبة التبعية وعدم الاستفادة من زيادة القيمة المضافة لثرواتها من البشر أو الموارد الطبيعية.

وحتى في حال التوصل لاتفاق بشأن الخروج من هذه الأزمة، فستصاغ الاتفاقيات لصالح القوى الكبرى.

المصدر : الجزيرة