لماذا فشل حصار قطر؟

إن أفضل ما يوصف به الحصار هو أنه جرعة تحصين كانت ضرورية لإكساب الاقتصاد القطري المناعة والقوة اللازمتين

د. خالد بن راشد الخاطر

في الخامس من يونيو/حزيران 2017 فرضت السعودية والإمارات والبحرين حظرا على حركة الأفراد ونقل وعبور البضائع بينها وبين قطر، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطيران القطري، كما فرضت مصر مقاطعة اقتصادية على قطر.

سأتناول في هذا المقال -وهو مقدمة لبحث سينشر قريبا بواسطة مركز الجزيرة للدراسات– أهداف هذه الإجراءات والعوامل التي أدت إلى فشلها، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد القطري، مع محاولة التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية لهذه الأزمة.

ولا شك أن هذه الإجراءات أخذت بعدا أكبر من المقاطعة.

فالمقاطعة التجارية تكون عندما يوقف بلد ما التبادل التجاري (الاستيراد والتصدير) مع بلد آخر، ولكن عند منع حركة عبور الأفراد والبضائع من دول أخرى، وإغلاق المنفذ البري الوحيد الذي يربط شبه جزيرة قطر بالعالم، ويتم معه منع حركة الأفراد والبضائع من السعودية وعبرها من دول العالم الأخرى إلى قطر؛ فهذا نوع من أنواع الحصار. وكون هذه الدول لا تستطيع إغلاق المياه أو الأجواء الدولية، لا يعني أنها لا تحاصر قطر من كل الجهات الممكنة وبكل ما أوتيت من قوة.

بل إن هذه الإجراءات تعدت الحصار إلى حرب اقتصادية تستهدف زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتهجير رؤوس الأموال، وما لذلك من تبعات سلبية قد تمس حياة الناس وتكون لها آثار كارثة على مدخراتهم وممتلكاتهم.

وقد أريد بهذا الحصار الضغط على قطر للتسليم لطلبات غير منطقية تمس بالسيادة والكرامة، ولم يكن متوقعا أن تقبل بها الحكومة القطرية ولا أن يتقبلها الشعب القطري.

فهدف الحصار بدا واضحا، وهو الضغط على قطر للتخلي عن السيادية والاستقلالية في قرارها السياسي والخضوع للهيمنة السعودية والإماراتية، وإلا فإن الضغط عليها سيزداد بكل الطرق والوسائل، من حصار اقتصادي إلى حرب اقتصادية ودبلوماسية وإعلامية ونسج مؤامرات وتهم لقطر بالإرهاب واستغلال سذاجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمساندة دول الحصار ضد قطر.

والهدف من كل ذلك زعزعة استقرار النظام في قطر وإضعافه تمهيدا لسقوطه أو إسقاطه. وقد بدا واضحا أيضا استحالة الاستجابة لمطالب دول الحصار التي تبدو تعجيزية وتمس بالسيادة والكرامة القطرية، وكأنها شروط لمنتصر في حرب، وذكرتنا ببعض الشروط التي فرضها الحلفاء على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وكأنها صممت لترفض فتبرر بعد ذلك لدول الحصار إجراءات تصعيدية وأكثر عدوانية ضد قطر تصل إلى حد شن حرب عسكرية عليها.

خلل في حسابات دول الحصار
ولكن في المقابل وعلى أرض الواقع، لم تكن أدوات الضغط الاقتصادي المتوفرة لدول الحصار متناسبة مع حجم وقوة طلباتها. فلم يكن هناك تكافؤ بين قوة الطلبات وفاعلية أدوات الضغط، بل كان هناك خلل في الحسابات.

فالحصار ليس فقط لم ينجح في تحقيق أهدافه حتى الآن، بل أتى بنتائج عكسية. فعوضا عن أن يضعف الاقتصاد القطري، أدى إلى تقويته واعتماده أكثر على الذات، وعلى التنويع بالضرورة وتنويع الشركاء التجاريين والماليين والاستثمارات الخارجية. فأصبح الاقتصاد أكثر استقلالية، وأقل انكشافا على دول الحصار. والاستقلالية الاقتصادية تعزز من الاستقلالية السياسية، وهذا عكس ما تشتهيه دول الحصار.

الحصار لم ينجح في تحقيق أهدافه حتى الآن، بل أتى بنتائج عكسية، وعوضا عن أن يضعف الاقتصاد القطري فقد أدى إلى تقويته واعتماده أكثر على الذات وتنويع الشركاء التجاريين والماليين والاستثمارات الخارجية.

لقد خسرت دول الحصار أخلاقيا قبل أن تخسر اقتصاديا. إن أفضل ما يوصف به الحصار هو أنه جرعة تحصين كانت ضرورية لإكساب الاقتصاد القطري المناعة والقوة اللازمتين، وهكذا علمتنا تجارب الدول والتاريخ.

وهناك معطيان أساسيان أديا إلى فشل حصار قطر في تحقيق أهدافه، يتعلق الأول بعوامل بنيوية في اقتصادات دول مجلس التعاون، حدت من انكشاف الاقتصاد القطري على دول الحصار، في حين يتعلق الثاني بالسياسات الاقتصادية السليمة التي اتبعتها قطر قبل وبعد الحصار لمواجهة هذه الأزمة.

وفيما يتصل بالعامل الأول، فإن من خصائص اقتصادات دول مجلس التعاون أنها صغيرة ومنفتحة على العالم الخارجي، وكثيفة الاعتماد على الموارد الهيدروكربونية.

‪قطر أصبحت أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم‬ قطر أصبحت أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم (رويترز)
‪قطر أصبحت أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم‬ قطر أصبحت أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم (رويترز)

وبالتالي يوجد لديك اقتصاد صغير الحجم وثري، ولديه موانئ ومطارات مفتوحة على المياه والأجواء الدولية، وبإمكانه تصدير موارده الطبيعية إلى العالم الخارجي والحصول على دخله من مصادر خارج الإقليم؛ وفي المقابل استيراد ما يحتاجه من سلع استهلاكية ورأس مالية من الخارج.

وفي المقابل، دول المجلس هي أيضا متخصصة في استخراج مورد واحد (النفط) وتصديره للعالم الخارجي، وفي المقابل استيراد معظم ما تحتاج إليه من سلع استهلاكية ورأس مالية وعمالة من الخارج.

لذلك فإن هذه الاقتصادات ليست بحاجة إلى بعضها البعض، ولا يوجد لديها الكثير مما يمكن أن تتبادله فيما بينها، أو تضغط به على قطر من خلال الحصار التجاري أو المقاطعة.

فهذه الدول غير منتجة صناعيا ولا زراعيا. فهي لا تصدر لقطر الآلات ولا المعدات ولا الأجهزة الطبية ولا الأجهزة الإلكترونية ولا الأجهزة الكهربائية. وهي لا تصدر أيضا سلعا أساسية كالقمح أو الأرز أو الشعير أو الذرة، ولا شيء من ذلك. فلماذا تحاصر أو تقاطع قطر؟ إن هذا الحصار فاشل و غير مجدٍ.

إن قلة تنوع هذه الاقتصادات أدت إلى محدودية التبادل التجاري والتعامل المالي بينها، فظلت التجارة البينية فيما بينها تراوح مكانها عند 10% من مجموع تبادلها التجاري مع العالم لعقود.

هذه التركيبة البنيوية لاقتصادات دول المجلس هيأت البيئة المناسبة لفشل الحصار.

وفي المقابل لا يوجد أيضا لدى هذه الدول الكثير مما يمكن أن تخسره من جراء قطع العلاقات الاقتصادية، فهي لم ترتبط بعلاقات اقتصادية قوية أساسا ولم تدخل في مشاريع تكامل اقتصادي ولا وحدة نقدية كما في الحالة الأوروبية، حتى ترتفع تكلفة المقاطعة وفرض الحصار على قطر، أو تنهار هذه المنظومات وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول أو فوضى عارمة تجتاحها، بل لو كانت مثل هذه المنظومات قائمة قبل الحصار، لربما شكلت موانع ضد فرضه.

السياسات السليمة
تبنت قطر مجموعة من السياسات السليمة، سواء كان ذلك مبكرا خلال العقدين الماضيين من خلال الاستثمار في تطوير بنى إنتاجية وتحتية واستثمارية صلبة، آتت أكلها الآن وشكلت روافد لدعم الاستقرار والاستدامة في الاقتصاد القطري، أو السياسات السليمة المضادة للحصار التي تبنتها قطر منذ اندلاع هذه الأزمة.

وبالنسبة للنوع الأول من السياسات، فقد استثمرت قطر في الإنتاج من احتياطيها في الغاز -وهو الثالث في العالم- واستطاعت في فترة وجيزة نسبيا أن تصبح أكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وصاحبة أعلى دخل للفرد في العالم وأسرع الاقتصادات نموا في الشرق الأوسط وربما في العالم.

كما استثمرت في بنية تحتية وشبكة اتصالات ومواصلات متطورة تربطها بالعالم الخارجي وتساعد على تجاوز دول الحصار، كما عملت على استثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتوزيعها جغرافيا وجيوسياسيا وماديا لتعزيز الاستقرار في أوقات الركود والأزمات ولتنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الأجيال.

ميناء حمد كان له دور في كسر الحصار المفروض على قطر (الجزيرة)
ميناء حمد كان له دور في كسر الحصار المفروض على قطر (الجزيرة)

هذه البنى التحتية تشكل الآن روافد لدعم استقرار واستمرارية الاقتصاد القطري في وجه الحصار.

أما السياسات المضادة للحصار فقط اشتملت على تدخل الحكومة عندما تعطلت آليات الاستيراد في الأسواق في بعض السلع بفعل الحصار، ولعبت دورها كمستورد وموزع ومحافظ على الأسعار.

ونوعت مصادر ووسائط الاستيراد، وفتحت مصادر وخطوط إمداد بديلة (جوية وبحرية)، واستخدمت البنى التحتية ذات الطاقات الاستيعابية العالية من ميناء حمد ومطار حمد لتجاوز دول الحصار والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية والبديلة، لضمان استمرارية تدفق السلع وبأسعار مناسبة للمستهلك.

كما عملت الحكومة على توسعة الطاقات التخزينية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي بالمواد الأساسية والأولية، واستخدمت لذلك الغرض المدن اللوجستية والصناعية والاقتصادية.

وزادت من إنتاج الغاز بنسبة 30%، وإن كان ذلك مخططا له من قبل إلا أنه في هذه الظروف سيعزز من الاستقرار والاستدامة في القطاعين الحقيقي والمالي، وفي عامل الثقة، وسيعمل على جذب الاستثمارات والتعويض عن الانخفاضات المحتملة في الاحتياطات الأجنبية من جراء دعم الاقتصاد بفعل الحصار.

من الصعب التنبؤ بنهاية هذه الأزمة، إن كانت إلى تصعيد أو تصدع في حلف الحصار مع تلاشي أثره وفقدانه فاعليته، ولكن يبدو أن السيناريو الأول -وهو جمود الأوضاع على ما هي عليه- هو الأقرب خلال المستقبل القريب المنظور ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة

كما تبنت الحكومة سياسات محفزة للمنتج المحلي وداعمة للقطاع الخاص في مجال الإنتاج الحيواني والزراعي والصناعات الخفيفة، وتبنت سياسات لجذب السياحة العالمية.

ولا تزال قطر مستمرة في مشاريع البنى التحتية وكأس العالم وتنويع الاقتصاد، وتعمل على تنويع الشركاء التجاريين والماليين والاستثمارات الخارجية، وبناء علاقات على مصالح إستراتيجية مشتركة مع دول مؤثرة اقتصاديا وسياسيا على الساحة العالمية.

تعزيز الاستقرار المالي
وضخت قطر ودائع وسيولة في النظام المالي للتعويض عن خروج رؤوس أموال وتعزيز استقرار العملة والنظام المالي، كما وظفت الآلة الإعلامية الجبارة لقطر مع بروز نخبة من الكفاءات الوطنية لتثقيف الجمهور وتعزيز الثقة والدفاع عن قطر في المحافل الإقليمية والدولية، واستخدمت سياسات اقتصادية ودبلوماسية حكيمة ورصينة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية والدبلوماسية على كافة الأصعدة بكفاءة عالية.

هذه العوامل أدت بشكل عام إلى إفشال الحصار في تحقيق أهدافه، فلم ينهر الاقتصاد ولم يسقط النظام. ومع فشل الحصار وفقدانه التأثيرعلى المدى القصير، هو يتحول إلى حرب اقتصادية دبلوماسية باردة قد تمتد لفترة تطول دون تأثير مهم على الطرفين ودون تنازل أي منهما عن موقفه.

ويصعب التنبؤ بكيفية نهاية هذه الأزمة، إن كانت إلى تصعيد، أو تصدع في حلف الحصار مع تلاشي أثره وفقدانه فاعليته. ولكن يبدو أن السيناريو الأول -وهو جمود الأوضاع على ما هي عليه- هو الأقرب خلال المستقبل القريب المنظور، ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة.

———-

متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي.

عضو زمالة الباحثين بمركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كامبريدج البريطانية.

المصدر : الجزيرة