السلطة الفلسطينية بين السلام الاقتصادي والمقاطعة

بدأت تعلو الأصوات مؤخرا في أروقة السلطة الفلسطينية بضرورة تفعيل سياسات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية كشكل من أشكال الاحتجاج والمقاومة الشعبية مما يطرح تساؤلات عدة حول مدى جدية وفاعلية مثل هذه المقاطعة

بكر ياسن اشتية

تمر المناطق الفلسطينية بحالة من الضبابية في مساراتها على كافة الصعد السياسية والتفاوضية مع الجانب الإسرائيلي. فمن حصار اقتصادي وعزلة سياسية لقطاع غزة، إلى تهويد واستيطان واحتجاز لمستحقات المقاصة في الضفة الغربية، وصولا لانسداد أي أفق تفاوضي ينعش الآمال بإحياء ما تبقى من اتفاقية أوسلو.

وبين كل تلك المعطيات، ونتيجة لتنامي الاحتجاجات والمطالبات من قبل الكثير من مؤسسات المجتمع المدني، بدأت تعلو الأصوات مؤخرا في أروقة السلطة الفلسطينية بضرورة تفعيل سياسات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية كشكل من أشكال الاحتجاج والمقاومة الشعبية، ما يجعلنا نطرح تساؤلات عدة حول مدى جدية وفاعلية تلك المقاطعة في ظل سعي السلطة الفلسطينية الدؤوب لتعزيز الشراكات التجارية والاقتصادية مع الجانب الإسرائيلي من جهة، ومدى جهوزية الأسواق الفلسطينية لتوفير البديل الجيد للمنتج الإسرائيلي من جهة أخرى. 

التبادلات الإسرائيلية الفلسطينية
بين منتجات المستعمرات والمنتج الإسرائيلي
أوروبا تقاطع المستعمرات الإسرائيلية
تبييض المنتجات الإسرائيلية
بين المقاطعة والسلام الاقتصادي

 التبادلات الإسرائيلية الفلسطينية
تشير البيانات الصادرة مؤخرا عن العام 2014 إلى أن الأسواق الفلسطينية شكلت 6.8% من إجمالي حجم الصادرات الإسرائيلية، و1.2% من إجمالي وارداتها. في حين شكلت الأسواق الإسرائيلية 86.7% من إجمالي حجم الصادرات الفلسطينية، و65.8% من إجمالي وارداتها. وبذلك يعتبر الاحتلال الإسرائيلي الشريك التجاري الأول للمناطق الفلسطينية، في حين تعتبر المناطق الفلسطينية الشريك التجاري الثالث للاحتلال الإسرائيلي بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.

ومن اللافت هنا ضعف العلاقات التجارية الفلسطينية مع محيطها العربي، خصوصا مع كل من الأردن ومصر كدول جوار، فلم تشكل واردات المناطق الفلسطينية من الأردن ومصر للعام 2014  سوى 1.8% و0.8% من مجموع الواردات على التوالي، وشكلت الصادرات الفلسطينية لها 0.8% و0.02% من مجموع الصادرات على التوالي. 

بين منتجات المستعمرات والمنتج الإسرائيلي
بداية لا بد من الإشارة لمدى قانونية أي إجراء رسمي فلسطيني تجاه مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. فقد خلا بروتوكول باريس الاقتصادي (المنظم للعلاقة التجارية الفلسطينية الإسرائيلية) من أي بند يتيح للجانب الرسمي الفلسطيني حق الرد بالمقاطعة أو بغيرها من الأدوات العقابية تجاه أي إجراء تعسفي أو انتهاك إسرائيلي لبنود الاتفاق، الأمر الذي حد من قدرة الحكومات الفلسطينية المتعاقبة على تبني فكر مقاطعة المنتجات الإسرائيلية بشكل مباشر.

تشير البيانات الصادرة مؤخرا عن العام 2014 إلى أن الأسواق الفلسطينية شكلت 6.8% من إجمالي حجم الصادرات الإسرائيلية، و1.2% من إجمالي وارداتها, في حين شكلت الأسواق الإسرائيلية 86.7% من إجمالي حجم الصادرات الفلسطينية، و65.8% من إجمالي وارداتها.

من هنا تبرز أهمية تبني السلطة الفلسطينية لإجراءات وأدوات غير مباشرة تدعم الجهد الشعبي الداعي للمقاطعة من خلال دعم المنتج الوطني الفلسطيني، سواء كان ذلك الدعم ماليا من خلال الإعفاءات الضريبية والجمركية لكل من المنتج النهائي ومدخلات الإنتاج، أو من خلال رفع جودة المنتج الوطني ليشكل بديلا جيدا عن المنتجات الإسرائيلية.

وفي العام (2010)، صدر قرار رئاسي فلسطيني يدعو لمقاطعة منتجات المستعمرات الإسرائيلية القائمة على أراضي الضفة الغربية باعتبارها كيانات غير شرعية بالأعراف الدولية من جهة، وباعتبارها غير مشمولة ببنود بروتوكول باريس الاقتصادي من جهة أخرى، الأمر الذي بدأ الجانب الإسرائيلي بالتحايل عليه من خلال دمغ الكثير من منتجات المستعمرات بأختام الصناعة الإسرائيلية، أو من خلال تغليف تلك المنتجات بأسماء شركات عربية وهمية لإخفاء المنشأ الحقيقي لتلك المنتجات.

وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة لحجم منتجات المستعمرات الإسرائيلية الداخلة للمناطق الفلسطينية، فإن التقديرات الأولية تشير إلى أنها تشكل 25% من إجمالي المنتجات الإسرائيلية المستهلكة في الأراضي الفلسطينية. وبدراسة التركيبة الهيكلية لتلك المنتجات، يتبين أن الأسواق الفلسطينية تستطيع إحلال المنتج الفلسطيني بدلا مما لا يقل عن 500 مليون دولار من منتجات المستوطنات إذا ما توفرت الإرادة الرسمية والشعبية لذلك. ووفقا لتقرير سابق على موقع الجزيرة نت، تبين أن كل 29,250  دولار إنتاج نهائي فلسطيني قادرة على خلق فرصة عمل واحدة، أي إن مقاطعة ما يمكن توفير البديل عنه من منتجات المستعمرات كفيل بخلق 17 ألف فرصة عمل في الأراضي الفلسطينية.

أوروبا تقاطع المستعمرات الإسرائيلية
يعتبر الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول للجانب الإسرائيلي، حيث شكلت الصادرات الإسرائيلية لدول الاتحاد 31.7% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية.

وحسب دراسة ألمانية، فإن ثلث تلك الصادرات تنتج كليا أو جزئيا في مستعمرات الضفة الغربية. وفي العام 2014، بدأ سريان قانون مقاطعة دول الاتحاد الأوروبي لمنتجات المستعمرات الإسرائيلية، وبدأت تلك الحملة ضد المنتجات الزراعية والمنتجات الغذائية المصنعة. ولا شك أن ذلك القرار قدّم دعما قانونيا للجانب الفلسطيني باتجاه المضي قدما في طريق المقاطعة.

ويتوجب هنا على المؤسسات الفلسطينية والدولية الداعمة لفكر المقاطعة تقديم المعلومات والحقائق القانونية لوزارة الاقتصاد الفلسطينية فيما يتعلق بالتحايل والتزوير الذي تمارسه إسرائيل تجاه منتجات المستعمرات، حيث إنها بدأت بتصدير منتجات المستعمرات الإسرائيلية لدول الاتحاد من خلال وسطاء فلسطينيين، لتبدو تلك المنتجات فلسطينية المنشأ. الأمر ذاته يسري أيضا على منتجات المستعمرات الداخلة لمناطق السلطة الفلسطينية، فيما بدأ يُعرف مؤخرا بظاهرة تبييض منتجات المستعمرات.

تبييض المنتجات الإسرائيلية
ففي ظل تنامي الحملات الفلسطينية والدولية الداعية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية عامة، ومنتجات المستعمرات خاصة، ظهرت مؤخرا عمليات تبييض المنتجات الإسرائيلية من خلال وسطاء فلسطينيين. فنجد على سبيل المثال أن منتجات التمور الإسرائيلية في الأغوار الفلسطينية يتم تعبئة أجزاء منها في شركات تعبئة وتغليف فلسطينية، وتحصل من خلالها على شهادات المنشأ الفلسطينية. الأمر ذاته ينطبق على الكثير من منتجات التمور والأعشاب الموجهة لدول الاتحاد الأوروبي، ولكن التبييض عبر الوسيط هذه المرة يكون من خلال دولة أخرى، وعادة ما تكون تركيا بحكم العلاقات واتفاقيات التبادل المشترك بين البلدين.

ولا شك أن عملية ضبط هذا الشكل من أشكال التزوير والتحايل تصعب على مؤسسات السلطة الفلسطينية، حيث إن عمليات تبييض المنتجات الغذائية تتم في أراضي (سي) في منطقة الأغوار الفلسطينية، وهي أراض محرمة أمنيا على أجهزة السلطة الفلسطينية، علما أن الأراضي (سي) تشكل (60%) من أراضي الضفة الغربية، بينما يتم تبييض المنتجات الصناعية في المستعمرات الإسرائيلية نفسها التي تتيح للمستثمر الفلسطيني إقامة استثمارات أو شراكات صناعية مع نظيره الإسرائيلي. 

في ظل تنامي الحملات الفلسطينية والدولية الداعية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية عامة، ومنتجات المستعمرات خاصة، ظهرت مؤخرا عمليات تبييض المنتجات الإسرائيلية من خلال وسطاء فلسطينيين

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن تمادي بعض المستثمرين الفلسطينيين في تلك الشراكات المشبوهة مع الجانب الإسرائيلي قد تأتي ببالغ الضرر على العلاقات التجارية الفلسطينية الأوروبية، ناهيك عن الضرر الذي يلحق بالمنتجات الفلسطينية نتيجة سياسات الإغراق الإسرائيلية غير المباشرة تلك، الأمر الذي يعني ضرورة أن تأخذ مؤسسات السلطة الفلسطينية دورها برفع أي غطاء تنظيمي أو سياسي أو مالي عن كل من يسعى بتلك الشراكات لإفشال أي جهد شعبي ورسمي للمقاطعة.

دور رسمي خجول
من الواضح للمتتبع جهود مقاطعة المنتجات الإسرائيلية أن تلك الجهود بدأت شعبية من قبل مؤسسات المجتمع المدني بالمقام الأول، بينما الجهد الرسمي استمر خجولا، إلا من مقاطعة منتجات المستعمرات. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن جهود المقاطعة الرسمية ليست سوى ورقة ضغط تفاوضي مع الجانب الإسرائيلي، ففي الوقت الذي سيفرج فيه الجانب الإسرائيلي عن مستحقات المقاصة للجانب الفلسطيني، ستنتهي الدعوات الرسمية المنادية بمقاطعة بعض الشركات والمنتجات الإسرائيلية.

من هنا تبرز أهمية تبني إستراتيجية وطنية موحدة تجاه المنتجات الإسرائيلية، يكون الدور الرسمي فيها مكملا بشكل غير مباشر للمجهودات الشعبية من خلال جملة من الإجراءات التي لا تشكل أي حرج للمستوى السياسي الفلسطيني، نذكر منها:

1- رفع قدرة المنتج الوطني على استيفاء الحد الأدنى المطلوب للمواصفات والمقاييس ليكون بديلا منافسا للمنتج الإسرائيلي، فالأصل البدء بنشر ثقافة المنتج الوطني رسميا، ومن ثم نشر ثقافة المقاطعة شعبيا.

2- تعزيز العلاقات التجارية الفلسطينية العربية لتكون رادفا لما يتعذر إنتاجه فلسطينيا، وذلك من خلال تفعيل الاتفاقات التجارية الثنائية المبرمة أصلا بين كل من السلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية الهاشمية من جهة، والأردن وجمهورية مصر العربية من جهة أخرى.

3- خلق المناخ الاستثماري الجاذب لرأس المال المحلي والمغترب، وذلك من خلال إقرار قانون الشركات الفلسطيني، وتعديل بعض بنود قانون تشجيع الاستثمار بما يضمن إعفاءات تفضيلية للمنتجات الإحلالية، إضافة لإنشاء مناطق صناعية داخلية وحاضنات أعمال على مستوى البلديات، تقدم كافة أشكال الدعم التمويلي الفني والتسويقي للمنتج الفلسطيني.

4- تسهيل إجراءات الترخيص والتأسيس للمشاريع الإنتاجية، وتوفير قواعد بيانات شاملة على مستوى المحافظات من خلال غرف التجارة والصناعة، تسهل على المستثمر دراسة احتياجات السوق المحلي والنفاذ له.

بين المقاطعة والسلام الاقتصادي
يعتبر العام 2014 عام المقاطعة بامتياز، فلأول مرة منذ بدايات أوسلو تنخفض الواردات الفلسطينية من المنتجات الإسرائيلية من 3.7 مليارات دولار للعام 2013، إلى 3.33 مليارات دولار للعام 2014. ويبدو أن انسداد الأفق التفاوضي قد عزز من قدرة الفلسطينيين رسميا وشعبيا على تبني نهج المقاطعة. ولكن ماذا بعد الجمود؟

إن موقف السلطة الفلسطينية كان وما زال ضعيفا إزاء مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ووقود المقاطعة هو الزخم الشعبي ممثلا بمبادرات وجهود مؤسسات المجتمع المدني

يبدو أن نهج المقاطعة لا يستقيم مع نهج السلام الاقتصادي القائم على تعزيز الشراكة الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية، ويبدو أن تلك الشراكة ستبلغ ذروتها مع المساعي الحثيثة من قبل السلطة الفلسطينية لإنشاء أول مدينتين صناعيتين حدوديتين مع الجانب الإسرائيلي، الأولى في سهل مرج ابن عامر الزراعي في مدينة جنين الفلسطينية، والثانية منطقة الصناعات الغذائية الفلسطينية الأردنية الإسرائيلية المشتركة في الأغوار الفلسطينية، وفي الحالتين أراضي الضفة الغربية ستكون حاضنة للصناعات الفلسطينية والإسرائيلية، وبالتأكيد ستوفر تلك المناطق الغطاء الأمثل للمنتجات الإسرائيلية باعتبارها ستخرج منها فلسطينية المنشأ.

فبدلا من استخدام الجانب الإسرائيلي لبعض المتنفذين في الأسواق الفلسطينية كغطاء يضفي الشرعية على منتجاتهم بالتزوير والتحايل، وبدلا من دفع العمولات للوسيط الفلسطيني، سيكون بإمكان المستثمر الإسرائيلي (خصوصا في مجال المنتجات الزراعية والغذائية) استخدام المناطق الصناعية الحدودية بشكل مباشر، وهو ما نصت عليه الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية ضمن مسار السلام الاقتصادي.

خلاصة القول إن موقف السلطة الفلسطينية كان وما زال ضعيفا إزاء مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وإن وقود المقاطعة هو الزخم الشعبي ممثلا بمبادرات وجهود مؤسسات المجتمع المدني. فمخطئ من يعتقد أن المؤسسات الرسمية الفلسطينية ستقود جهدا طويل الأجل في طريق المقاطعة دون ضغط وحراك شعبي في ذات الاتجاه، وعليه يتوجب على كافة الأطر والقوى الشعبية والحزبية الفلسطينية تبني نهج وطني موحد يعزز من قدرة السلطة الفلسطينية على لعب دور مكمل وداعم لما يمكن اعتباره ذروة المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
رئيس قسم الاقتصاد سابقا، محاضر بقسم الاقتصاد جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين

المصدر : الجزيرة