تمويل سلامة المناخ

تمويل سلامة المناخ - جيفري د. ساكس - سوف تكون العائدات الجديدة من الضرائب على الكربون بمثابة النعمة للحكومات، فقد وعدت الحكومات المرتفعة الدخل بمساعدة البلدان المنخفضة الدخل بالاستثمار في سلامة المناخ

جيفري د.ساكس*

السلامة المناخية
تهديد وجودي

تصحيح الأخطاء

يتلخص الغرض من النظام المالي العالمي في تخصيص مدخرات العالم لاستخداماتها الأكثر إنتاجية. وعندما يعمل النظام على النحو اللائق، يتم توجيه هذه المدخرات إلى الاستثمارات التي تساعد في رفع مستويات المعيشة.

وعندما يختل كما حدث في السنوات الأخيرة، توجه المدخرات إلى الفقاعات العقارية والمشاريع الضارة بالبيئة، بما في ذلك تلك التي تؤدي إلى تفاقم تغير المناخ الناتج عن أنشطة بشرية.

وسوف يكون عام 2015 نقطة تحول في الجهود الرامية إلى إنشاء نظام مالي عالمي يساهم في تعزيز سلامة المناخ وليس تخريب المناخ. ففي يوليو/تموز تجتمع حكومات العالم في أديس أبابا لوضع إطار جديد للتمويل العالمي.

ويتلخص هدف الاجتماع في تيسير النظام المالي القادر على دعم التنمية المستدامة، بمعنى النمو الاقتصادي الشامل اجتماعيا والسليم بيئيا.

وبعد خمسة أشهر في باريس، سوف توقع حكومات العالم على اتفاقية عالمية جديدة للسيطرة على تغير المناخ الذي تحدثه أنشطة بشرية وتوجيه الأموال نحو الطاقة الآمنة مناخيا، والبناء على التقدم الذي تحقق في وقت سابق من هذا الشهر في المفاوضات في ليما ببيرو. وهناك أيضا سوف يحظى التمويل بقدر كبير من الأهمية.

العديد من الاستثمارات في احتياطيات الوقود الأحفوري الجديدة سوف تخسر المال -الكثير منه- نظرا للهبوط الأخير الذي سجلته أسعار النفط العالمية

السلامة المناخية
الأساسيات واضحة. إن السلامة المناخية تتطلب أن تعمل كل البلدان على تحويل أنظمة الطاقة بعيدا عن الفحم والنفط والغاز ونحو طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية وغير ذلك من المصادر المنخفضة الكربون. وينبغي لنا أيضا أن نختبر جدوى احتجاز الكربون وتخزينه على نطاق واسع، وهو ما قد يمكن الاستخدام الآمن الطويل الأجل لبعض الوقود الأحفوري على الأقل. ولكن بدلا من ذلك، استمر النظام المالي العالمي في ضخ مئات المليارات من الدولارات سنويا في استكشاف وتطوير احتياطيات جديدة من الوقود الأحفوري، في حين لم يوجه سوى أقل القليل لتطوير أنظمة احتجاز الكربون وتخزينه.

الواقع أن العديد من الاستثمارات في احتياطيات الوقود الأحفوري الجديدة سوف تخسر المال -الكثير منه- نظرا للهبوط الأخير الذي سجلته أسعار النفط العالمية.

والكثير من احتياطيات الوقود الأحفوري التي تعمل الشركات على تطويرها حاليا سوف تُهجَر (تترك في باطن الأرض) كجزء من سياسات المناخ العالمية الجديدة.

والحقيقة البسيطة هي أن العالم يملك من موارد الوقود الأحفوري أكثر مما يمكن حرقه بأمان، نظرا لحقائق تغير المناخ نتيجة لأنشطة بشرية.

ورغم أن إشارات السوق ليست واضحة تماما بعد، فإن المستثمرين الأكثر نجاحا هذا العام كانوا أولئك الذين باعوا حيازاتهم من الوقود الأحفوري، وبالتالي تجنبوا انهيار أسعار النفط. وربما كان الحظ في جانبهم فحسب هذا العام، ولكن القرار الذي اتخذوه بسحب الاستثمارات منطقي في الأمد البعيد، لأنه يتوقع بشكل صحيح تحول السياسة في المستقبل بعيدا عن الوقود الأحفوري وباتجاه الطاقة المنخفضة الكربون.

تهديد وجودي
كما قررت العديد من صناديق التقاعد والمؤسسات في الولايات المتحدة وأوروبا مؤخرا اتخاذ نفس الخطوة، حيث أصغت بحكمة إلى كلمات الرئيس التنفيذي السابق لشركة النفط العملاقة "بريتيش بتروليوم"، لورد براون، الذي لاحظ مؤخرا أن تغير المناخ يشكل "تهديدا وجوديا" لصناعة النفط.

كل طن من ثاني أكسيد الكربون ينبعث إلى الغلاف الجوي بسبب إحراق الفحم أو النفط أو الغاز يضيف إلى الانحباس الحراري العالمي في الأمد البعيد، وبالتالي إلى التكاليف التي سوف تتحملها المجتمعات نتيجة لموجات الجفاف والفيضانات

والآن، تعمل المزيد من الحكومات في مختلف أنحاء العالم على فرض أسعار الكربون على النحو الذي يعكس التكاليف الاجتماعية الباهظة الكامنة في مواصلة استخدام الوقود الأحفوري.

إن كل طن من ثاني أكسيد الكربون ينبعث إلى الغلاف الجوي بسبب إحراق الفحم أو النفط أو الغاز يضيف إلى الانحباس الحراري العالمي في الأمد البعيد، وبالتالي إلى التكاليف التي سوف تتحملها المجتمعات في الأمد البعيد نتيجة لموجات الجفاف والفيضانات وموجات الحر والعواصف الشديدة وارتفاع مستويات سطح البحر.

ورغم عدم قدرتنا على التنبؤ بدقة بهذه التكاليف في المستقبل، فإن التقديرات الحديثة تشير إلى أن التكاليف الاجتماعية التي يفرضها كل طن جديد يضاف إلى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي تتراوح بين عشرة ومائة دولار أميركي، مع استخدام حكومة الولايات المتحدة لتقدير متوسط بنحو أربعين دولارا للطن لتوجيه جهود تنظيم الطاقة.

الواقع أن بعض البلدان، مثل النرويج والسويد، فرضت منذ فترة طويلة بالفعل ضريبة على الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون بحيث تعكس تكاليف اجتماعية بنحو مائة دولار للطن، أو ربما أكثر.

كما استحدثت العديد من الشركات الخاصة مؤخرا، بما في ذلك شركات نفط كبرى، تكلفة محاسبية داخلية للانبعاثات الكربونية لتوجيه قراراتها في ما يتصل باستثماراتها في الوقود الأحفوري، وهذا من شأنه تمكين الشركات من توقع العواقب المالية المترتبة على القواعد التنظيمية والضريبية الحكومية في المستقبل.

تصحيح الأخطاء
ومع تقديم المزيد من الحكومات والشركات لأنظمة تسعير الكربون، فسوف ترتفع التكلفة المحاسبية الداخلية للانبعاثات الكربونية، وسوف تصبح الاستثمارات في الوقود الأحفوري أقل جاذبية، في حين تصبح الاستثمارات في أنظمة الطاقة المنخفضة الكربون أكثر جاذبية. وسوف تساعد إشارات السوق بشأن الضريبة على ثاني أكسيد الكربون (أو تكلفة تصاريح الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون) المستثمرين والمديرين الماليين على الاتجاه بعيدا عن الاستثمارات الجديدة في الوقود الأحفوري. كما تقدم الضرائب على الكربون للحكومات مصدرا حيويا للدخل لتنفيذ استثمارات جديدة في الطاقة المنخفضة الكربون.

مع الهبوط الشديد الذي طرأ على أسعار النفط الدولية -بنحو أربعين دولارا للبرميل منذ الصيف- فإن اللحظة الحالية مثالية لتشجيع الحكومات على فرض تسعير الكربون. وبدلا من السماح لأسعار المستهلكين للنفط بالهبوط بهذا القدر، ينبغي للحكومات أن تفرض ضريبة الكربون الآن.

ارتكبت شركات النفط الكبرى وشركات التمويل الكبرى عدة أخطاء جسيمة في الأعوام الأخيرة، فوجهت الأموال إلى استثمارات مدمرة اجتماعيا. وفي عام 2015، سوف تتمكن هذه الصناعات القوية، والعالم ككل، من تصحيح هذه الأخطاء

وسوف يظل بوسع المستهلكين أن يستفيدوا من هذا، لأن كل برميل من النفط يطلق نحو 0.3 من الطن من ثاني أكسيد الكربون، وضريبة الكربون التي تبلغ على سبيل المثال نحو أربعين دولارا لكل طن من ثاني أكسيد الكربون تعني ضمنا ضريبة على النفط بنحو 12 دولارا للبرميل فقط. ولأن أسعار النفط انخفضت بما يزيد على ثلاثة أضعاف الضريبة، فسوف يستمر المستهلكون في دفع مبالغ أقل كثيرا من تلك التي كانوا يدفعونها قبل بضعة أشهر.

علاوة على ذلك، سوف تكون العائدات الجديدة من الضرائب على الكربون بمثابة النعمة للحكومات. فقد وعدت الحكومات المرتفعة الدخل بمساعدة البلدان المنخفضة الدخل بالاستثمار في سلامة المناخ، سواء من خلال الطاقة المنخفضة الكربون أو الصمود في مواجهة الصدمات المناخية.

وعلى وجه التحديد، وعدت الحكومات بتقديم مائة مليار دولار في هيئة تمويل مرتبط بالمناخ سنويا بدءا بعام 2020، ارتفاعا من نحو 25 إلى ثلاثين مليار دولار هذا العام. وتشكل العائدات الجديدة من ضريبة ثاني أكسيد الكربون طريقة مثالية لاحترام ذلك التعهد.

والعمليات الحسابية هنا بسيطة. فقد أطلقت البلدان المرتفعة الدخل نحو 18 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون هذا العام -نحو نصف مجموع الانبعاثات العالمية تقريبا- وإذا خصصت هذه الدول دولارين فقط للطن من ثاني أكسيد الكربون لمنظمات التمويل العالمية مثل صندوق المناخ الأخضر الجديد وبنوك التنمية الإقليمية، فإنها سوف تحوّل بهذا نحو 36 مليار دولار سنويا. وباستخدام جزء من هذه الأموال لتعبئة التمويل من القطاع الخاص، يصبح من الممكن الوصول إلى مائة مليار دولار كاملة من تمويل المناخ.

لقد ارتكبت شركات النفط الكبرى وشركات التمويل الكبرى عدة أخطاء جسيمة في الأعوام الأخيرة، فوجهت الأموال إلى استثمارات مدمرة اجتماعيا. وفي عام 2015، سوف تتمكن هذه الصناعات القوية، والعالم ككل، من تصحيح هذه الأخطاء ووضع الأمور في نصابها الصحيح. وقد بات بوسعنا الآن أن نتوصل إلى مكونات نظام مالي عالمي جديد يعمل على توجيه المدخرات إلى حيث تشتد الحاجة إليها: التنمية المستدامة وسلامة المناخ، لصالحنا وصالح أجيال المستقبل.

_______________

* أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسات الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض بجامعة كولومبيا، ومستشار الأمين العام للأمم المتحدة الخاص لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية

المصدر : بروجيكت سينديكيت