أزمة الخروج من التيسير الكمي

أزمة الخروج من التيسير الكمي

undefined

ستيفن إس روتش

مجلس الاحتياطي الاتحادي في عين العاصفة
تدفقات متراكمة نتيجة التيسير الكمي
تغاضي الاحتياطي الاتحادي عن فقاعات الأصول

مجلس الاحتياطي الاتحادي في عين العاصفة
قد يكون الاقتصاد العالمي في مواجهة مراحل مبكرة من أزمة جديدة. ومرة أخرى يصبح مجلس الاحتياطي الاتحادي في عين العاصفة.

يصر الاحتياطي الاتحادي على أنه لا يستحق اللوم، وهو نفس الموقف السخيف الذي اتخذه في أعقاب أزمة الركود العظيم في الفترة من 2008 إلى 2009، عندما أكد أن ترتيباته النقدية المفرطة لا علاقة لها بالفقاعات العقارية والائتمانية التي كادت تدفع العالم إلى الهاوية

وفي حين يحاول الاحتياطي الاتحادي الخروج من سياسة التيسير الكمي -السياسة غير المسبوقة المتمثلة في شراء كميات هائلة من الأصول الطويلة الأجل- وجدت العديد من الاقتصادات الناشئة نفسها فجأة مقيدة الحركة. وتشهد أسواق العملة والأسهم في الهند وإندونيسيا هبوطا حادا، وكانت الأضرار الجانبية واضحة في البرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا.

ويصر الاحتياطي الاتحادي على أنه لا يستحق اللوم، وهو نفس الموقف السخيف الذي اتخذه في أعقاب أزمة الركود العظيم في الفترة من  2008 إلى 2009، عندما أكد أن ترتيباته النقدية المفرطة لا علاقة لها بالفقاعات العقارية والائتمانية التي كادت تدفع العالم إلى الهاوية.

ولا يزال الاحتياطي الاتحادي غارقا في الإنكار لولا قمع أسعار الفائدة الذي فرضه التيسير الكمي على الدول المتقدمة منذ العام 2009، فإن البحث عن الربح ما كان ليغمر الاقتصادات الناشئة بالأموال "الساخنة" القصيرة الأجل.

وكما حدث في منتصف العقد الذي بدأ بالعام 2000، فإن اللوم متبادل بين الجميع هذه المرة أيضا. فالاحتياطي الاتحادي لم يكن وحده بكل تأكيد في تبني التيسير الكمي غير التقليدي. وعلاوة على ذلك تشترك الاقتصادات النامية المذكورة آنفا جميعها في أمر واحد، العجز الضخم في الحساب الجاري.

فوفقا لصندوق النقد الدولي، من المرجح أن يبلغ العجز الخارجي في الهند، على سبيل المثال، 5% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط في الفترة 2012-2013، مقارنة بنحو 2.8% في الفترة 2008-2011. وعلى نحو مماثل، يمثل عجز الحساب الجاري في إندونيسيا، الذي بلغ 3% من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2012-2013 تدهورا أكثر حدة من الفائض الذي بلغ في المتوسط 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2008-2011. وتتجلى أنماط مشابهة في البرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا.

إن العجز الضخم في الحساب الجاري يعد عرضا كلاسيكيا لاقتصاد ما قبل الأزمة الذي يعيش بما يتجاوز إمكاناته، أي أن استثماراته تتجاوز فعليا مدخراته. والسبيل الوحيد لدعم النمو الاقتصادي في مواجهة مثل هذا الخلل هو اقتراض المدخرات الفائضة من الخارج.

وهنا يأتي دور التيسير الكمي، فقد وفر فائضا من رأس المال الباحث عن الربح من المستثمرين في البلدان المتقدمة، وبالتالي سمح للاقتصادات الناشئة بأن تستمر على مسارات النمو المرتفع.

تدفقات متراكمة نتيجة التيسير الكمي
وتشير بحوث صندوق النقد الدولي إلى أن التدفقات المتراكمة لدى الأسواق الناشئة من رأس المال تقترب من أربعة تريليونات دولار أميركي منذ بداية التيسير الكمي في العام 2009. وفي ظل إغراءات سلوك طريق مختصر إلى النمو الاقتصادي السريع، دفعت هذه التدفقات بلدان الأسواق الناشئة إلى الاعتقاد بأن اختلالات التوازن لديها قابل للاستمرار، وهو ما مكنها من تجنب الانضباط اللازم لوضع اقتصاداتها على مسارات أكثر استقرارا وقابلية للتطبيق.

وهذه ميزة متوطنة في الاقتصاد العالمي الحديث، فبدلا من الاعتراف بالتباطؤ الاقتصادي الذي يشير إليه عجز الحساب الجاري -قبول معدل نمو أقل قليلا اليوم في مقابل النمو المستدام في المستقبل- اختار الساسة وصناع السياسات مناورات النمو الخطيرة التي أتت بنتائج عكسية في نهاية المطاف.

إن إستراتيجية الخروج من التيسير الكمي إذا نجح الاحتياطي الاتحادي في استجماع الشجاعة اللازمة لتنفيذها، لن تحقق ما يزيد على إعادة توجيه السيولة الفائضة من الأسواق النامية العليا عائدا إلى الأسواق في الداخل

وكانت هذه هي الحال في بلدان آسيا النامية، ليس فقط في الهند وإندونيسيا اليوم، بل وأيضا في تسعينيات القرن العشرين، عندما كان العجز المتسع بشكل حاد في الحساب الجاري بمثابة النذير باندلاع الأزمة المالية الموجعة في الفترة 1997-1998. ولكن كان صحيحا بنفس القدر لبلدان العالم المتقدم.

وكان العجز الأميركي المتعاظم في الحساب الجاري في منتصف العقد الذي بدأ عام 2000 بمنزلة تحذير صارخ من التشوهات التي خلقها التحول إلى الادخار المعتمد على الأصول في حين كانت فقاعات خطيرة تتشكل في أسواق الأصول والائتمان. وكانت أزمة الديون السيادية في أوروبا نتاجا للفوارق الحادة بين الاقتصادات الضعيفة التي تعاني من عجز كبير في الحساب الجاري -خاصة اليونان والبرتغال وإسبانيا- ودول قلب أوروبا التي تدير فوائض ضخمة مثل ألمانيا.

وقد بذل محافظو البنوك المركزية قصارى جهدهم للتحايل على هذه المشاكل.

تغاضي الاحتياطي الاتحادي عن فقاعات الأصول
وتحت قيادة بن برنانكي وسلفه ألان غرينسبان، تغاضى الاحتياطي الاتحادي عن فقاعات الأصول والائتمان، وتعامل معها باعتبارها مصدرا جديدا للنمو الاقتصادي.

بل ذهب برنانكي إلى ما هو أبعد من هذا، فزعم أن النمو غير المتوقع نتيجة للتيسير الكمي سوف يكون أكثر من كاف للتعويض عن أي عدم استقرار قد تسببه تدفقات الأموال الساخنة إلى الاقتصادات الناشئة وإلى خارجها. ورغم هذا فإن غياب أي نمو غير متوقع من هذا القبيل في ظل الاقتصاد الأميركي الذي لا يزال متباطئا كشف عن حقيقة مفادها أن التيسير الكمي ليس سوى آلة سيولة تسعى إلى تحقيق الربح.

إن إستراتيجية الخروج من التيسير الكمي، إذا نجح الاحتياطي الاتحادي في استجماع الشجاعة اللازمة لتنفيذها، لن تحقق ما يزيد على إعادة توجيه السيولة الفائضة من الأسواق النامية العليا عائدا إلى الأسواق في الداخل. في الوقت الحاضر، ومع إلماح الاحتياطي الاتحادي إلى أولى مراحل الخروج -خفض التيسير الكمي تدريجيا- بدأت الأسواق المالية تستجيب بالفعل لتوقعات انخفاض معدلات خلق النقود والزيادات في أسعار الفائدة في بلدان العالم المتقدم في نهاية المطاف.

وبعيداً عن وعود الاحتياطي الاتحادي بأن أي تحرك من هذا القبيل سوف يكون بطيئا للغاية فإن هذا من غير المحتمل أن يؤدي إلى أي زيادات ملموسة في أسعار الفائدة الرسمية حتى العام 2014 أو 2015. وكما تشير الزيادة بنسبة تتجاوز 1.1 نقطة مئوية في العائدات على سندات الخزانة التي تبلغ مدتها عشرة أعوام على مدى العام الماضي، فإن الأسواق لديها موهبة خارقة في اختصار الأحداث البالغة البطء في فترة قصيرة من الزمن.

وبفضل آلية الخصم هذه، بدأت مراجحة العائد المعدلة حسب المخاطر الآن تتحرك ضد أوراق الأسواق الناشئة المالية. ومن غير المستغرب أن تستشعر تلك الاقتصادات التي تعاني من عجز الحساب الجاري المشكلة أولا.

فعلى حين فجأة يصبح من الصعب تمويل اختلال التوازن بين الادخار والاستثمار لديها في ظل نظام ما بعد التيسير الكمي، وهي النتيجة التي فرضت خسائر موجعة على العملات في الهند وإندونيسيا والبرازيل وتركيا.

إن اختلالات التوازن غير قابلة للاستمرار مهما بلغت قوة محاولات البنوك المركزية لتفادي العواقب

ونتيجة لهذا تُرِكَت هذه البلدان عالقة في فِخاخ السياسة، فالإستراتيجيات الدفاعية التقليدية للعملات الهابطة تستلزم عادة فرض أسعار فائدة أعلى، وهو خيار غير مستساغ للاقتصادات الناشئة التي تواجه أيضا ضغوطا تدفع النمو الاقتصادي إلى الانخفاض.

ولا أحد يدري أين قد يتوقف هذا، فكانت هذه هي الحال في آسيا في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وأيضا في الولايات المتحدة عام 2009. ولكن في ظل أكثر من عشر أزمات كبرى ضربت الاقتصاد العالمي منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، فإن الرسالة واضحة وغير ملتبسة: اختلالات التوازن غير قابلة للاستمرار مهما بلغت قوة محاولات البنوك المركزية لتفادي العواقب.

والآن تستشعر الدول النامية القوة الكاملة للحظة مواجهة الواقع التي عاشها الاحتياطي الاتحادي من قبل. والواقع أنها مذنبة بالتقاعس عن مواجهة عملية إعادة التوازن إلى اقتصاداتها في الأيام المُسكِرة عندما كان التيسير الكمي في أوجه. ومجلس الاحتياطي الاتحادي مذنب بنفس القدر، إن لم يكن ذنبه أعظم، بسبب قيامه بهذه التجربة الفاشلة في المقام الأول.
ــــــــــــــــــــــــ
عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لمورغان ستانلي في آسيا، ومؤلف كتاب "آسيا التالية".

المصدر : بروجيكت سينديكيت