إنعاش الاقتصاد المصري

إنعاش الاقتصاد المصري - محمد عبدالله العريان - بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الثورة الشعبية في مصر، دخل اقتصاد البلاد في دوامة من الانحدار تثير القلق، حتى إن عدداً متزايداً من الناس داخل وخارج البلاد بدؤوا يحَمِّلون الثورة ذاتها المسؤولية عن تعطيل الاقتصاد الذي كان قد بدأ بالنمو.
undefined

دوامة الانحدار الاقتصادي تثير القلق
استجابة قاصرة من قبل الحكومات المتعاقبة
البلاد تساق إلى الأساليب القديمة

 دوامة الانحدار الاقتصادي تثير القلق
بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الثورة الشعبية في مصر، دخل اقتصاد البلاد في دوامة من الانحدار تثير القلق، حتى إن عدداً متزايداً من الناس داخل وخارج البلاد بدؤوا يحَمِّلون الثورة ذاتها المسؤولية عن تعطيل الاقتصاد الذي كان قد بدأ بالنمو، والذي تمكن ذات يوم من تقليص أعباء ديونه الخارجية، والحفاظ على متكأ مريح من الاحتياطيات الدولية.

إن إلقاء اللوم على الثورة نهج خاطئ في التعامل مع النكبات التي يعاني منها الاقتصاد في مصر حاليا. ورغم هذا فإن جاذبية هذا النهج في نظر البعض قد تكون مفهومة، نظراً لاستمرار الوضع الاقتصادي في البلاد في التدهور على مدى الأشهر القليلة الماضية. فالنمو هزيل، والبطالة في ارتفاع، ومعدلات الاستثمار الجديد في تراجع لافت للنظر، ويساهم كل هذا في تعقيد الأوضاع المالية والاجتماعية والسياسية العصيبة بالفعل. والنتيجة هي احتمالات الدخول في عِدة حلقات مفرغة في آن واحد.

إلقاء اللوم على الثورة نهج خاطئ في التعامل مع النكبات التي يعاني منها الاقتصاد في مصر حاليا

فالآن يغذي تعطل الإمدادات المحلية التضخم، ويؤدي إلى تفاقم مشاكل الميزانية الوطنية المثقلة بإعانات الدعم. هذا فضلاً عن تفاقم ضعف التمويل الخارجي، الذي يساهم في انخفاض الاحتياطيات الدولية الحاد الذي لم تتمكن الدولة من احتوائه حتى الآن إلا بالاستعانة بقروض استثنائية وودائع من الخارج.

ويفرض نقص النمو وارتفاع التضخم عبئاً حاداً بشكل خاص على الشرائح السكانية الأكثر ضعفاً في مصر. فشبكات الأمان العامة مثقلة بما لا تتحمله من إجهاد، حتى سقط العديد من الفقراء من فجواتها. علاوة على هذا فإن شبكات الدعم الأخرى -بما في ذلك فرص الدخل في السياحة، والقطاع غير الرسمي، والدعم الخيري والأسري- تتداعى تحت وطأة الفقر المتزايد.

وقد أدت هذه المجموعة الواسعة من الصعوبات التي تتزايد حدتها إلى خفض تصنيف مصر الائتماني بشدة، كما تعمل على تثبيط الاستثمار المباشر الأجنبي، تماماً كما يعمل على ذلك تشويه سمعة قوات الشرطة في مصر. ونتيجة لهذا، تتعطل مصادر أخرى للعمل ورأس المال الاستثماري، وهو ما يؤدي بدوره إلى تضخيم التأثير المترتب على هروب رأس المال المحلي.

وبطبيعة الحال، لا يفضي أي من هذا إلى تيسير عملية المصالحة السياسية والوحدة الوطنية التي تحتاج مصر إليها بشدة من أجل استكمال أصعب المحاور الثورية على الإطلاق: من تفكيك الماضي القمعي إلى بناء مستقبل أفضل. والواقع أن الانحدار الاقتصادي الناجم عن الخلل الوظيفي المؤسسي والسياسي في مرحلة ما بعد الثورة أصبح هو ذاته الآن سبباً في تغذية هذه العوامل التي تزعزع الاستقرار.

استجابة قاصرة من قبل الحكومات المتعاقبة
ولكي نكون منصفين، فمن الواجب أن نعترف بأن الحكومات المصرية المتعاقبة -أولاً تحت قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والآن في ظل الإخوان المسلمين- أدركت هذه التحديات. بيد أن استجاباتها كانت قاصرة بعد سلسلة من الآمال تنبني على التعافي التلقائي والطموح للاعتماد على الذات.

وعندما لا يمكن تحقيق المعجزة، تلجأ الحكومات إلى فرض ضوابط رأس المال والتفكير في بيع الأصول وتأجيرها، في حين تضطر للتودد إلى أولئك الذين وجهت لهم الاتهامات من قبل بتكريس النظام القديم.

بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك كان لزاماً على الجماهير الثورية في مصر أن تترك الشوارع وتتبنى حملة شاملة من أجل تحقيق الرخاء الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

كان السرد الأولي لحكومة ما بعد الثورة يشخص الوعكة الاقتصادية التي تعيشها مصر، بوصفها مؤقتة ومن الممكن أن تصحح ذاتها تلقائيا.

فبعد الإطاحة بنظام حسني مبارك -الذي حكم البلاد بقبضة من حديد ثلاثين عاما- بسرعة وبصورة سلمية نسبيا، كان لزاماً على الجماهير الثورية في مصر أن تترك الشوارع وتتبنى حملة شاملة من أجل تحقيق الرخاء الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

وكان المفترض أن تدعم جهودها عملية إعادة توجيه المؤسسات العامة (والحكم على نطاق أوسع) بعيداً عن محاباة القِلة المتميزة، وانطلاقاً من روح توفير الخدمات لجميع المواطنين في البلاد.

والواقع أن هذا السرد عكس (وبشكل مفهوم) الحيوية الثورية وليس الواقع على الأرض. فإصلاح المؤسسات يستغرق سنوات. ومن غير الممكن رسم خطوط الانتقال الاقتصادي والمالي بسرعة. ومن المستحيل إبدال المؤسسات التي فقدت مصداقيتها بين عشية وضحاها. وليس من السهل تنظيم الأحزاب السياسية ذات المصداقية حسب الطلب وبلا تخطيط مسبق. فضلاً عن ذلك فإن العديد ممن حاربوا بشجاعة من أجل الحرية كانت خبراتهم السياسية محدودة، الأمر الذي فرض قدراً أعظم من الكلفة على القيادة اللازمة لتوجيه طاقات المصريين الهائلة -ومطالبهم بالمزيد من العدالة الاجتماعية- نحو رؤية مشتركة وهدف موحد.

وتم سد فراغ السلطة الناجم بأولئك الذين منحتهم مكانتهم السابقة في المجتمع مساراً محليا في البلاد في وقت اندلاع الانتفاضة الشعبية، فتولوا السلطة بمجموعة من الأفكار وإجراءات العمل، التي لم تكن قادرة على ملاحقة مصر الجديدة.

وبينما كان الاقتصاد يكافح، أفسح التفاؤل المجال أمام رؤية أكثر دفاعية وانعزالية، تعلي من قيمة الاعتماد على الذات. ثم أصبح السرد -الذي صاحبته ضوابط اقتصادية زاحفة- أكثر قومية. وكان الولاء -وليس الجدارة- هو معيار الاختيار للمناصب الرئيسية، الأمر الذي جعل إدارة دفة السياسة أشد صعوبة.

البلاد تساق إلى الأساليب القديمة
وفي ظل هذا النهج الذي لم يوفر فرصة أفضل للنجاح، سيقت البلاد مرة أخرى إلى ملاحقة التدابير والأساليب التي ارتبطت -على الأقل في أذهان كثيرين من عامة الناس- بالنظام القديم.

فقد أصبح الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي الهدف الرئيسي للإدارة الاقتصادية، وهو ما اقترن بمحاولات أخرى متلهفة لجمع التمويل.

ولكن في غياب محاولات تجديد السياسات الأساسية، فإن أكثر ما قد تسفر عنه هذه المحاولات لن يتجاوز بضعة أشهر من الهدوء المالي النسبي، ولو كان ذلك بتكاليف مؤجلة إلى المستقبل.

الإصلاحات السياسية المناسبة لابد أن تأتي أولا، وعندما يحدث هذا فإن النهضة الاقتصادية والمالية في مصر سوف تفاجئ كثيرين برشاقتها وسرعتها.

إن ما تحتاج إليه مصر اليوم لا يمكن توفيره من خلال قروض صندوق النقد الدولي وعقود إيجار الأصول فقط. وهذا هو النبأ السيئ. أما النبأ السار فهو أنني بوصفي خبيراً تتبع حالات مشابهة لأكثر من ثلاثين عاماً أستطيع أن أقول بكل ثقة إن مصر لديها كل العناصر والمكونات اللازمة لاستعادة الاستقرار الاقتصادي والمالي: الموارد، والبشر، والشخصية الديناميكية، وروح المغامرة التجارية، والموقع، والارتباطات الإقليمية والعالمية.

وتتمتع مصر أيضاً بسلاح سري قوي لم ينشر بشكل كامل بعد، جيل من الشباب الذين لا زالوا يؤمنون بعد سنوات من الاستبعاد والقمع بأنهم قادرون على (ومن الواجب عليهم) التأثير على مصير البلاد. وبالفعل بدأ بعضهم في إحداث فارق ملموس على أرض الواقع وانتزاع الإعجاب على نطاق واسع.

إن مصر ليست الدولة التي قد تتمكن قطاعات اقتصادية وشرائح سكانية منها من إحراز النجاح على الرغم من أنف الدولة، إذ يتعين على الحكومة أن توفر البيئة اللازمة لإعادة تشغيل محركات التعافي الاقتصادي، وينبغي للسياسات أن تخدم كأدوات للتعجيل بالنمو من خلال توفير بوابات التنمية للشباب المجتهدين المفعمين بالحيوية، والفقراء الساخطين، والطبقة المتوسطة المضغوطة.

ويعيدنا هذا إلى التفاعلات بين الاقتصاد والسياسة والتمويل، والتي تغذي الآن حالة من الهبوط السريع الذي يلحق أشد الضرر بالمواطنين المصريين ويهدد مستقبل أبنائهم. لذا فإن الإصلاحات السياسية المناسبة لابد أن تأتي أولا، وعندما يحدث هذا فإن النهضة الاقتصادية والمالية في مصر سوف تفاجئ كثيرين برشاقتها وسرعتها.

واسمحوا لي هنا أن أضرب مثلا  بسيارة قادرة على تقديم أداء رائع اعتماداً على محركها الداخلي القوي.. هكذا هي مصر القادرة على تحقيق النمو الاقتصادي السريع والتعافي المالي الدائم.  لكن في غياب الجهود الحثيثة العازمة على إحراز التقدم السياسي والوحدة السياسية، فسوف تظل يد تعشيق تروس مصر عالقة عند الترس المحايد، بل وقد تنزلق اليد إلى وضع الرجوع إلى الخلف.

ــــــــــــــــــــــــــ
الرئيس التنفيذي والمسؤول الإعلامي المشارك لمؤسسة بيمكو، ومؤلف كتاب "عندما تتصادم الأسواق".

المصدر : بروجيكت سينديكيت