اكتشاف لحظات الحزن في سيرة الكتابة النسائية.. "الكاتبات والوحدة" يتتبع حيوات 9 مؤلفات

المؤلفة نورا ناجي تحمل نسخة من كتابها "الكاتبات والوحدة" (الجزيرة)

بخلاف الصورة الرائجة التي تصوّر الكاتبات باعتبارهن نساء خارقات، يحتفي كتاب "الكاتبات والوحدة" برائدات الكتابة النسائية واجتهادهن، لكنه لا يغفل عما في الرحلة من متاعب وحيرة وشقاء وألم.

تقدّم الروائية المصرية نورا ناجي في كتابها 9 سير حياتية لكاتبات -هنّ: عنايات الزيات، وفاليري سولاناس، ومي زيادة، وإيلينا فيرانتي، ونوال السعداوي، وسوزان سونتاغ، وأروى صالح، ورضوى عاشور، وفيرجينيا وولف- جئن من جغرافيات مختلفة وعشن حياة قاسية، في كل سيرة هناك تقاطع مع المؤلفة، ورابط بين وحدتهن ووحدتها، دون إغفال للماضي الذي كان السبب الرئيس في شكل النهاية للكاتبات التسع.

ويناقش الكتاب الأحزان المرتبطة بحساسية الكتابة باعتبارها من الأجناس الإبداعية والفنية، وكأن الكاتبات يدفعن ثمن الإبداع بؤساً، ولكنه لا يدعو للاستسلام وإنما للوعي والاستبصار، فالوحدة تحدث أحيانًا بين حشود البشر، وقد تتمثل في رفقة هؤلاء المحاطين بالبشر طوال الوقت.

فهل كانت نورا ناجي تبحث عبرهن عن سبب وحدتها؟ تعترف الكاتبة "حاولت عبر الكتابة عنهن أن أكتشف ذاتي، أن أجد إجابات لأسئلتي، وأن أمنحهنّ بعض الاعتراف الذي يستحققنه، إذ ربما تتلاشى وحدتي في وحدتهن، أو قد يحدث العكس".

وتضيف "قررت الكتابة عن كاتبات يشاركنني الشعور بالوحدة، سقطت كل منهن في فخاخ الجنون أو الانتحار أو اضطراب الهوية أو ذنب الأمومة، الحزن والسعادة، الحب والكراهية، فيما تظل الوحدة ماثلة كشبح يسكن في الكلمات، ويترك غصة لا نحدد مصدرها".

ما الوحدة؟

تبدأ نورا ناجي كتابها بمقدمة تشير فيها إلى فكرة واحدة تسيطر عليها، وهي: ما الوحدة؟ ولماذا تشعر بها الكاتبات أكثر من غيرهن؟ لماذا تتمحور أحاديثها في معظمها حول نفس الفكرة، رغم أن كلا منا تمتلك عائلة وأصدقاء وحياة كاملة؟

كتاب "الكاتبات والوحدة" صدرت طبعته الأولى عن دار الشروق 2020 (الجزيرة)

وهنا نسأل: ما الرابط الوثيق بين وحدة نورا ناجي وكاتبات الكتاب؟ تجيب ناجي "وجدت في كل واحدة جزءًا من روحي، أنا مثل عنايات الزيات مررت بهذه المرحلة من عدم التوازن، عرفت الفقد وآلمني، مثل فرجينيا وولف تطاردني الأصوات في رأسي، مثل رضوى عاشور أحمل همّ العالم، مثل سوزان سونتاغ لا أثق كثيراً بالصور الخادعة، مثل أروى صالح أحب الحياة لكني في لحظة ما ينتهي شغفي بها، لن أتمسك بها كثيراً، مثل إيلينا فيرانتي مصابة بذنب الأمومة، مثل نوال السعداوي أتمرّد على المجتمع مما يعرضني للنبذ، مثل مي زيادة، أشعر بأن كل هذا الزحام لا أحد".

وتشير نورا ناجي إلى أنه لا فرق بين كتابة رواية والإعداد لكتاب أدبي، وتلفت إلى أن كليهما يحتاج إلى الكثير من البحث والقراءات، لكن حين أتجه في الرواية للقراءة عن علم النفس أو حتى لو قرأت في التاريخ أو الفلسفة، أقرأ بعين الشخصيات التي أفكر فيها، أما الكتاب الأدبي فقراءاتي تكون أكاديمية جداً، لأنها مصادري التي يجب أن تكون دقيقة. الكتاب يستلزم برأيي جهداً عقلياً بينما تستنفد الروايات مشاعري أكثر.

لماذا الكاتبات وحيدات؟

تؤمن نورا ناجي بأن الكاتبات حساسات بشكل أكبر تجاه العالم، وأنهن إن لم يحطن أنفسهن بهذه الشرنقة من الوحدة والانعزال بشكل ما، فسيصبن بالاكتئاب، وهو ما يحدث في أغلب الأحيان.

ترى الكاتبة العالم بعين كاشفة، مثل جهاز الأشعة، يمكن أن ترى ما خلف الحواجز وما بداخل القلوب، والمعرفة ليست دائما مريحة، على العكس، معرفة ما في دواخل الناس مخيفة جدا، ستشعر حتما بالخوف والفزع وسترغب أكثر في الابتعاد.

وتستطرد "الكاتبات يعشن حياة تعيسة بسبب حساسيتهن ومعرفتهن، ربما لأنهن يحاولن بعناد أكبر أن يعشن الحياة، يستنفدنها أو يحاولن ملء أرواحهن منها بسرعة، يشعر البعض بأنهن منطلقات، أما التحرر فهو ناتج من الأفكار المحايدة تجاه العالم وعدم الحكم على الآخرين، مما يجعلهن بالتأكيد أكثر ميلا للدفاع عن الحريات والحق والخير والعدالة، لكنَّ هذا ليس مقتصرا على الكاتبات، من المفترض أن يؤمن الفنانون جميعهم بذلك".

عندما تنتحر الكاتبات

لا شك أننا قرأنا الكثير عن تاريخ الكاتبات المنتحرات عبر التاريخ بسبب المرض النفسي والعنف الأسري وحتى الإهمال. وعلى سبيل المثال، في 4 أكتوبر/تشرين الأول 1974، نقحت الشاعرة الأميركية آن سيكستون مخطوطتها لقصيدة "التجديف الرهيب نحو الرب" التي من المقرر نشرها في مارس/آذار 1975، وارتدت معطف والدتها القديم، وخلعت جميع خواتمها، وأقفلت على نفسها في مرآب البيت، وأدارت محرك سيارتها، وتوفيت بالتسمم بأول أكسيد الكربون.

أما الشاعرة والروائية الأميركية سيلفيا بلاث التي أدخلت رأسها في فرن الطهو، فقد حرصت على وضع مناشف مبللة تحت الأبواب لتكون حاجزا بين المطبخ وبين غرف أطفالها، لتموت منتحرةً وهي ابنة 30 عامًا.

وتشير نورا في الكتاب إلى الشاعرة فيرجينيا وولف التي انتحرت في نهر أوس بالمملكة المتحدة، وذلك بأن ملأت جيوبها بالحجارة وظلت تمشي في النهر إلى أن توقفت عن الشعور بالأرض أسفل قدميها، انتحرت بسبب خوفها من المرور بتجربة المرض النفسي مرة أخرى.

ما دفع نورا ناجي إلى الكتابة عن فيرجينيا وولف هو أن روحها تجسدت بين الحين والآخر في أرواح وأفكار العديد من الكاتبات الحالمات، القويات، الراغبات في التواصل والفهم، اللواتي امتلكن رؤية خاصة تجاه الحياة والموت. فيرجينيا تشبه مي زيادة في حبها للكتابة، في الأفكار المتزاحمة داخل عقلهما، في خضوعها فترة طويلة للعلاج النفسي، تقاسمت مي وفيرجينيا الاكتئاب، وتوفيتا في العام نفسه 1941.

هل الكتابة وسيلة للتعافي أم للتطهر؟

ترى نورا ناجي أننا نكتب لنتطهر من مخاوفنا وأحيانا من أحلامنا المستحيلة، وهذا ما يمنحنا أيضاً التعافي من الخيبات والإحباطات والفشل، لذلك كتبت بحرية عن هواجس قاسية عشتها بعد تجربة الطلاق في مدينة بعيدة لا تعرف فيها أحدا، وطفلة. هذه الهواجس قادتها إلى التفكير في أذى نفسها وطفلتها.

تتفق نورا ناجي مع الشاعرة والمترجمة إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم الأمومة" حول خوف الأمهات من أن يتحولن إلى أمهات المطلوب منهن فقط التضحية من أجل صغير تحبه، أو كما فعلت الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي التي ظلت طوال الوقت تعيش ذنب الأمومة عندما قررت أن تعيش كما تريد بالتخلي عن طفلتيها لمدة 3 سنوات، أملا في العثور على ذاتها، ولم تستطيع. كانت في كل مرة تسمع فيها صوت طفل ينادي على أمه تنهار، لتكتشف أنها لم تعد قادرة على خلق شيء يخصها، وعندما عادت لم يكن بسبب حبها للطفلتين، بل حباً بنفسها، لأنها كانت غير مجدية ويائسة دونهما.

هل تستطيع الكاتبة هزيمة الوحدة؟

نمرّ جميعا كبشر بالعديد من الاختبارات الصعبة، ويلزمنا في كل مرّة رسم خطة لبداية جديدة، وربما هذا ما اكتشفته نورا ناجي بعد الانتهاء من الكتاب، فتقول "الوحدة كلمة فضفاضة ينطوي تحتها الكثير من المصطلحات، التمرد، الشعور بالذنب، الاكتئاب، الإحباط، عدم التقدير، كل هذا يدفع الكاتبة لمنطقة منزوية هي ما أسميها وحدة، أن تشعر بأنك غريب وسط الزحام، أن تمتلئ بالأفكار المغايرة مما يجعلك غير متأقلم ولو كنت تملك عائلة كبيرة وأصدقاء كثيرين".

وتلفت "شعرت بالراحة، بونس، أي أن هناك من يشاركني مشاعري وأفكاري، أنا لست غريبة أو منبوذة أو خائفة، بالعكس مشاعري طبيعية وحقيقية، وما أمُر به يمكن أن يمنحني المزيد من القوة لو توصلت لصيغة تصالح معه".

تتحدث نورا ناجي في الكتاب عن الكاتبات اللواتي برعن في إخفاء وحدتهن، بل طمسها بعشرات الطبقات من السعادة والمرح والود والسخرية والانطلاق، أستاذات في التنكر، تماما مثل الروائية الراحلة رضوى عاشور التي تقول الكاتبة إنها كانت وحيدة بشكل أو بآخر، لكنها في ذات الوقت كانت متفائلة، "هذا هو الميراث الذي أرادت تركه لنا بعد رحيلها".

وأضافت المؤلفة "ثقل رضوى، حزنها أو اكتئابها، لم يكن مرتبطا بحياتها الشخصية بقدر ما هو مرتبط بالأحداث العامة، هي تشعر طوال الوقت بمسؤوليتها عن العالم والناس، الإحساس بالمسؤولية نحو العالم يمكن أن يصيب المرء بأزمة حادة تماما كما شعرت يوم انفجار كنيستي مار جرجس في طنطا ومار مرقس في الإسكندرية".

ويبدو الكتاب كأنه لا علاقة له بمسألة تحيز الكاتبة لبنات جنسها، بقدر ما هو علاقة بين تجارب حياتية وقراءات رأت الكاتبة أنها تقترب من تجربتها في الأمومة والكتابة ورؤيتها للعالم، وأن وحدتهن أحاطتها بحلقة أمان، واكتشاف لحظات الضعف والحزن والقسوة والتأقلم معها وبالتالي إدراك معنى جديد للحياة.

والمؤلفة نورا ناجي صحفية وروائية مصرية من مواليد طنطا عام 1987، تخرجت في كلية الفنون الجميلة، وصدر لها أيضا: "الجدار" (2016)، "بنات الباشا" (2017)، "أطياف كاميليا" (2020).

المصدر : الجزيرة