الجسد في ميونخ والروح في الفرات.. "أناشيد ميونخ المؤجلة" للشاعر السوري فواز قادري

غلاف المجموعة
ديوان "أناشيد ميونخ المؤجلة" للشاعر السوري فواز قادري يتغنى فيه بالمدينة الألمانية التي عاش فيها لعقدين من الزمان مستحضرا ظلال مسقط رأسه دير الزور (الجزيرة)

ميونخ- فواز قادري (مواليد 1956) شاعر سوري غادر وطنه الأم ومدينته دير الزور قبل نحو ربع قرن، ولم يكن يخطر على باله قط أنه لن يعود إليه مرة أخرى، والعودة هنا ليست زيارة عابرة، بل عودة نهائية، فالأصل عنده التوحد بمدينته والاستثناء هو المغادرة المؤقتة لتحسين وضع أسرته، إلا أن الاستثناء أصبح أصلا.

بعد عقدين من المكث والعمل في ميونخ، صدر للقادري نحو 20 عملا مطبوعا وترجمت بعض أعماله للألمانية والهولندية، كتب لميونخ مجموعة شعرية كاملة تحت عنوان "أناشيد ميونخ المؤجلة"، وقال في الإهداء:

"إلى بلادي التي محاها الطواغيت

وتنهض من حطامها في كل مرة

إلى الأمل بعد كل هزيمة

يمشي جميلا في الأرض

إلى ميونخ

بالحب أقوي الأواصر بيننا وأمدُ الجذور"

فواز في حديثه للجزيرة نت
قادري: قصيدة النثر هي التي اختارتني، لأنها حرة مثلي تماما (الجزيرة)

الجزيرة نت زارت الشاعر فواز قادري في منزله بميونخ عاصمة ولاية بافاريا، وكان لنا معه هذا اللقاء الذي لم يتوقف عند مجموعته "أناشيد ميونخ المؤجلة" بل تطرق الحديث إلى تجربته الشعرية بشكل عام، ودار الحوار معه حول الأسئلة الآتية.

  • الشاعر السوري فواز قادري، برأيك، أين انتهت التجربة الشعرية الطويلة؟

رغم أني أصدرت نحو 20 عملا شعريا، وهناك ضِعف ذلك ما زال مخطوطا، وثمة أعمال مختارة لي ترجمت للألمانية والهولندية، فإنني ما زلت أكتب وأحاول أن آتي بما يشبهني في تمردي؛ فأنا الناقد الأول لأعمالي، أراجع وأدقق، وأقيمه حتى أقارب ذائقتي، لذلك أجدني في الـ10 السنوات الأخيرة أستطيع أن أقول إني كتبت الكثير ولكن لم أتوقف، فالإنسان العادي أو المهني يشعر بالمتعة حين ينجز عمله بإتقان، فكيف بالحالة الإبداعية؟ علما بأني راض عن كل ما كتبت.

  • إذن، لماذا هجرت الوزن واتجهت لقصيدة النثر؟

قصيدة النثر هي التي اختارتني، منذ أن عرفتها وهي تبحث عن كل ما يشبهها، لأنها حرة مثلي تماما، طيوري طيورها، أجنحتها أجنحتي، مداها يتلون ويغيم مثلي وأنا اكتب، تمشي معي حيث أمشي، جسورها جسوري، لغتها سهلة وعميقة، تشير ولا تقول، حين أريدها أجدها أمامي من دون عناء، تعرف جميع من يقيمون معي، وتكتشف رائحة الراحلين وتدون خطاهم مهما طال الغياب.

لهذا نتداخل ونشترك في طريقة العيش، نتنفس برئة واحدة، ونغني من حنجرة واحدة، نذرف الدمع من عين واحدة، نجلس في مكان واحد، و نمشي على الدروب معا، ونلعب في الحارات ونفرح بروح واحدة كالصغار، نجلس على أرض واحدة، ولكنها دائما تترك لي فرصة وطريقة العيش كاملة، آكل، أشرب، أملأ حيزي الزمني والمكاني بها وبدونها، تستمر في العيش عندما يجتاحني الموت بكل معانيه؛ لهذا أكتب قصيدة النثر.

  • فماذا عن مجموعتكم التي صدرت مؤخرا "أناشيد ميونخ المؤجلة"؟

هذا سؤال أنتظره، لقد سكنني الفرات وأغلق علي كل وسائل الهرب نحو جغرافيا أخرى، ولطالما شعرت بالخجل أمام ميونخ التي احتضنتني وأسرتي منذ عقدين من الزمان، وهنا أسست فيها علاقات إنسانية قمة في الروعة، ولهذا كتبت هذه المجموعة، وكنت أشعر أني يجب أن أكتب عنها منذ 20 عاما.

  • في ما يتعلق بخصوصية شعر المدن، هل اختبأت دير الزور في ظلال قصائد ميونخ؟

حين أنجزت هذه المجموعة، شعرت أني استعدت توازني الإنساني، صحيح أني أنتمي للفرات ومدن الفرات، ولكني في الواقع أنتمي إنسانيا لهذا الكوكب، لم أفكر أن أستعيد دمار ميونخ لكي أبشر بإعادة بناء مدينتي دير الزور المدمرة، بل أخذت مواطن الجمال فيها، ولعل تجربة الألمان في بناء ميونخ متفردة؛ حيث نقلوا حطام الأبنية لمناطق خارج المدينة وجمعوها على شكل تلال، ونتيجة العوامل الطبيعية تحولت تلكم البقايا إلى تلال خضراء، قلة من يعلم أنها بقايا المدينة المدمرة.

  • دير الزور وميونخ، ما وجه التشابه والاختلاف بين المدينتين؟

حين يطول زمن الغياب، المدن تتناسل وتتواءم. وفي الحب، المدينتان تتشابهان إلى درجة تختلط فيها بعض الأزمنة. وفي الحنين، واحدة تحمل القليل من عبء الأخرى، تلتبس الأمكنة في الأحلام، وتتمايز في اليقظة وتجرح بمشرط الذكريات، لهذا تأخرت قصيدة ميونخ كل هذا الوقت، وكان من الطبيعي أن تشتركا بعد أن صحوت من فعل التناسي الشنيع، سنوات طويلة ولم أكتب شيئا يذكر عن ميونخ، حياتي، أصدقائي، الذين أحبوني واحتضنوني وعائلتي، الأمكنة التي غسلت عيوني بجمالها، الغرباء الذين تعرفت عليهم وصاروا أصدقاء.

ميونخ لها أيضا حصة في الشاعر الإنسان، رغم ما يختلف في حالات الطفولة القصية وحالات الحب، يتغير المشهد ويتباين الشوق، كنت أحن إلى بلدي وحين يأتي ذكره أموء كقط يتزاوج، وذكر تلك المدينة البعيدة، تلتبس الأنهار علي، أحار بين نهر الفرات ونهر إيزار، فكل موجة حالة غرق، كل شاطئ له شمسه. وأنا ولد، سرقتني أصوات نداءات نساء وبنات الدير، الحبيبة، الأم، الصديقات، الأصدقاء، الأمكنة التي لا تغادرني إلى الآن، الدير هي تلك الطفلة التي قبلتها أول مرة، فرحتُ وداخت من الخجل، أغنية لا يسمعها أحد غيري وغير قصيدتي، تمنحني السر السهل والواضح والملتبس.

التجربة المكانية

من جهته، وصف الناقد والشاعر الدكتور درغام سفان "التجربة المكانية " لقادري بأنها امتداد لتجربة امرئ القيس وسواه من الشعراء الذين أسرهم المكان، وقال للجزيرة نت "كان المكان حاضرا كموضوع شعري أثير، يتبارى فيه الشعراء واقفين، مستوقفين تارة باكين، مستبكين، تارات أخرى، (أناشيد ميونخ المؤجلة) باعتقادي نص واحد، متماد، متشابك، متواصل، يمكنك قراءته بالطبع على مستويات عدة (لغة، ومجازا، ورؤيا، إلخ) فتعثر على الكثير مما يصح مجادلته نقديا".

صورة قديمة لتلة هيديرليك في أنقرة، التي يحتمل أن يكون الشاعر الجاهلي إمرئ القيس مدفوناً فيها
صورة قديمة لتلة هيديرليك جنوب شرق أنقرة، حيث يحتمل أن يكون الشاعر الجاهلي امرئ القيس مدفونا (مواقع التواصل)

وأضاف سفان أن "أحد امتيازات هذا النص، جوهريا، هي العلاقة الاستثنائية بين السارد والمسرود؛ ففي العادة يقف الشاعر على مسافة ما، شارحا، حالما، مفتتنا، أو لاعنا، متذمرا، رافضا، لكنه هنا يتعالق نصيا مع موضوعه، حاملا (بوصلته) الإبداعية، ليزيح الأستار عن المخبوء من الطاقات الشعرية في نسيج المدينة الكثيف الصلد، حيث الزحام على أشده، والضوضاء في جبروتها، وكذلك صليل المراكب الحديدية".

وتابع الناقد والشاعر أنه "لكنه يقتحم هذا الحشد القاسي، بعصاه وقنديله السحريين، دليلا على مواطن المتعة، حيث يتدفق الشعر، من طراوة أعشاشها، وصلافة نسائها، وأنين القطارات المسافرة، من نار معدنها وقسوة زجاجها، وعبث نوافيرها، لكن ثمة ميونخ أخرى، تخرج من أردان الشاعر حمامة مبللة بنقيع الشعر. ميونخ الأخرى التي أكثر شسوعا وعمقا وحميمية".

واستدرك "أليس هذا ما عناه الناقد الأميركي الشهير أرشبيلد ماكليش بقوله: كل قصيدة، هي توسع مفاجئ للعالم".

د. درغام سفان
الناقد الأدبي سفان: قادري يضع بين أيدينا دليلا شعريا لقراءة ميونخ القاسية (الجزيرة)

وتابع سفان أن قادري بهذا المعنى يضع بين أيدينا وقلوبنا دليلا شعريا لقراءة ميونخ القاسية، اللعوب، المتكبرة، فتلين، وترق، وتفرش روحها تحت أنامل الشاعر.

الحسية الشعرية

عن تجربة قادري في "أناشيد ميونخ المؤجلة"، قال الناقد والأديب مصطفى عبد القادر للجزيرة نت "إن الحسية الشعرية لدى فواز قادري واكبت التغيير الانقلابي الحداثي في بنية الجملة وبناء الفقرة، ومدت حبال الوصل والإيصال مع القارئ عبر مفردات حملت توهج الكلمة، وسهولة امتناع النص النثري، مثلما حملت تراكيب إيقاعية داخلية مموسقة يلتقطها المتلقي دون كثير عناء".

ويستشهد بقول الشاعر في نصه المعنون بـ(خسائر) "جمعت بين يدي مائك العذب قطرة.. قطرة وسيرت الغيوم إلى نزيفها، سأدخر لك النبع في الرمضاء، وأجمع الأماني كأعواد مبلولة، وأشعلها حتى تتشكل غيمة خضراء على روحك".

وأضاف عبد القادر "قادري لا يكتفي بامتلاكه مفتاح الدخول إلى عالم النص النثري -سهل الولوج والانفتاح- بل يجيد الخروج والقفل بإحكام بما يتواءم مع مرامي نصه وسيره المتواتر، كل ذلك ساعد على استحضار العمق التخييلي المحرض على الارتقاء بالذائقة الجمالية، رغم قسوة وقتامة الكثير من المضامين المطروحة بسخاء بين دفتي الديوان".

المصدر : الجزيرة