"قرافة القاهرة" مدينة القباب الخالدة.. جولة بالفيديو في ضيافة الإمام الشافعي وابن عطاء الله وعمرو بن العاص

قرافة القاهرة، مدينة القباب الخالدة، مدينة لا ترى مثلها في الزمان والمكان، تخفق الأقدام على ثرى كان يوما من قلوب خافقات وخدود يانعات، وعقول ثائرة، لكنها جميعا ذهبت وسويت بالأرض، ولم يبق منها إلا تراب تذروه الرياح، وقباب شاهدات على مرور مئات السنين.

على بعد خطوات قليلة من مسجد السيدة عائشة وقلعة صلاح الدين في قلب القاهرة التاريخية، حيث الزحام الشديد، خطوات قليلة لكنها تنقلك من عالم إلى آخر موغل في السكينة، تغادر الزحام والصراع من ورائك إلى عالم يكتنفه الهدوء والصمت الرهيب، إلى قرافة "سيدي جلال" كما يطلقون عليها.

جلال الدين السيوطي

سرعان ما نفاجأ حين يصدمنا المشهد بكل أهواله ونحن وقوف وجها لوجه أمام مشهد العلامة الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي (849 هـ/1445م -911 هـ/1505م) المفسر والمؤرخ والأديب والفقيه الذي فاقت مصنفاته 600 كتاب، الرجل الذي زهد في الدنيا وانقطع عن الناس وتفرغ للتأليف حتى كان آية زمانه، ترى ضريحه بكل تواضعه، ما يزال شامخا، متحديا العصور والإهمال.

والسيوطي ولد في مدينة أسيوط المصرية (وسط الصعيد) وهو من شوامخ العلم والحفظ وتنوع الثقافة، وصاحب تفسير "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" و"المزهر في اللغة" و"تاريخ الخلفاء" و"البدور السافرة في أحول الآخرة" وغيرها من عشرات الكتب.

ضريح العلامة والفقيه جلال الدين السيوطي بالقاهرة (الجزيرة)

وما إن نودع السيوطي، تحيط بنا مئات من القباب والمآذن، قباب حفظت بداخلها تاريخ ملوك وأمراء وصعاليك وشهداء، ومغامرين وعلماء، حتى نصل لضريح صاحب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري "(15 مجلدا) قاضي القضاة، شيخ الإسلام الإمام المفسر والفقيه الأصولي شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي الشهير بـ "ابن حجر العسقلاني" المولود بالقاهرة (773 هـ – المتوفي 852 هـ) ضريح هو الآخر أكثر تواضعاً، ومغلق للترميم.

ابن حجر صاحب الدرر

ومن مؤلفات ابن حجر العسقلاني (الإصابة في تمييز الصحابة) وهو كتاب تراجم، ترجم فيه للصحابة الكرام، وكتاب (بلوغ المرام من أدلة الأحكام)، وكتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) وغيرها كثير، وكان يلقب بأمير الحديث في عصره.

ضريح الإمام المفسر الحافظ الفقيه ابن حجر العسقلاني (الجزيرة)

سيد العلماء وبائع الأمراء

وإذ نحن في جولتنا في قرافة المماليك، نصل إلى قبر قاضي القضاة، سلطان العلماء وبائع الأمراء العز بن عبد السلام (577هـ/1181م – 660هـ/1262م) الفقيه الدمشقي الذي برز في عصر الحروب الصليبية، وتولى الدعوة لمواجهة الغزو المغولي ووقوفه إلى جانب الحكام الذين قادوا المقاومة والحرب ضد الغزاة، مسانداً السلطان المملوكي قطز حتى النصر في موقعة عين جالوت.

هذا العالم الخالد، والذي ألفت حوله مئات الكتب، وضٌرب به المثل في الشجاعة والقوة في قول الحق، نرى ضريحه وقد انهارت جوانبه، وتهدمت قوائمه، ولم يعد منه إلا كومة من الحجارة، ولا يجد من يقوم على إنشائه من جديد.

ضريح شيخ الإسلام وقاضي القضاة العز بن عبد السلام (الجزيرة)

ومن أغرب ما سجله التاريخ لهذا العالم الفذ، إفتاؤه بملكية الشعب للمماليك الحكام، وأنه يجوز بيعهم لصالح الشعب فهم عبيد مملوكون لا مالكون.

الإمام الليث بن سعد

وبالقرب من الإمام الشافعي وصلنا لفقيه مصر الشهير شيخ الإسلام الإمام الحافظ الليث بن سعد (94 هـ/713 م-175 هـ/791 م) فقيه ومحدث وإمام أهل مصر في زمانه، وصاحب أحد المذاهب الإسلامية المندثرة. وُلد في قرية قلقشندة في محافظة القليوبية بدلتا مصر، ومقامه فيها معروف.

وارتقى ابن سعد منزلة عليا في زمنه حتى استقل بالفتوى، كما أثنى عليه الكثير من علماء أهل السنة والجماعة، فتناقلت كتب التراجم والسير أقوالهم في حق الليث بن سعد. ومن مؤلفاته "كتاب التاريخ" وكتاب "المسائل في الفقه".

مسجد الإمام الليث بن سعد فقيه مصر بمنطقة الإمام الشافعي بالقاهرة (الجزيرة)

وكان الإمام الليث "أسعد حظا" من الأئمة السابقين السيوطي والعز بن عبد السلام وابن حجر العسقلاني، حيث له مسجده وضريحه معروف ويؤمه الزوار طوال العام.

وفي الميدان الذي تسمى باسمها يقف مسجد وضريح السيدة عائشة، وهي بنت جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

والسيدة عائشة جاءت إلى مصر شابة صغيرة سنة 145 هـ وتوفيت في نفس العام، وكانت من العابدات القانتات المجاهدات.

ضريح الصحابي عقبة بن عامر بمنطقة الإمام الشافعي في القاهرة (الجزيرة)

ونقف عند مسجد وضريح الإمام الشافعي ملتقى الحائرين والفقراء والغارمين، وهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ولد في شهر رجب عام 150هـ/767م بمدينة غزة بفلسطين، وتوفي في مصر آخر يوم من شهر رجب عام 204 هـ الموافق لـ 20 يناير/كانون الثاني 820 م) وهو أحد الائمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه نسبة الشافعية كافة.

بجوار الشافعي دفن عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب "طبائع الاستبداد "(1855-1902) وبالقرب منه توجد بعض من مقابر أسرة محمد علي باشا والخديوي توفيق وزوجته.

مسجد وضريح الإمام الشافعي بالقاهرة (الجزيرة)

 

ابن خلدون والمقريزي غادرا

كثير من قبور العلماء والمشاهير تزين القرافة الصغرى، ولكن الكثير منها تم هدمه بقرارات حكومية، مثلما حدث مع قبري عبد الرحمن بن خلدون 1332 – 1406م) صاحب كتاب "المقدمة" المولود في تونس والمتوفى بالقاهرة، وتقي الدين المقريزي (764ـ845 هـ) (1364-1442م) صاحب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".

وهناك أيضا الكثير منها أتى عليه الإهمال، واندثر مع الأيام، وخسرنا ثروة لا تقدر بمال، لو تم استثمارها سياحيا لكانت كنزاً من كنوز العالم الفريدة بحسب الدكتور حسام إسماعيل أستاذ الآثار بكلية الآداب جامعة عين شمس.

الرفاعي يستضيف الأمراء

ومسجد الرفاعي به عدد من الحجرات الملكية تضم أضرحة من الرخام تعود لعدد من أفراد أسرة محمد علي، ومن المدفونين فيه الخديوي إسماعيل (1830- 1895) ووالدته "خوشيار قادين هانم" وهي إحدى زوجات إبراهيم بن محمد علي باشا، وكذلك قبور 3 من زوجات الخديوي إسماعيل.

مسجدا الرفاعي والسلطان حسن بمنطقة القلعة بالقاهرة (الجزيرة)

وفي حجرة مجاورة دفن السلطان حسين كامل (1853-1917) وزوجته السلطانة ملك، بينما يوجد ضريح الزوجة الرابعة للخديوي إسماعيل "فريال هانم" مدفونة بجوار ابنها الملك فؤاد (1868-1936) في حجرة أخرى.

وخُصص الجناح الآخر من مسجد الرفاعي لضريح شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي (1919-1980) وصهره فاروق الأول ملك مصر والسودان (1920-1965) الذي نقلت رفاته لمسجد الرفاعي تنفيذا لوصيته بعد وفاته.

وفي نهاية شارع محمد علي أمام جامع الرفاعي بميدان القلعة (ميدان صلاح الدين) يرتفع مسجد ومدرسة السلطان حسن، درة العمارة الإسلامية بالشرق، حيث يمثل مرحلة نضوج العمارة المملوكية، وأضخم مساجد مصر عمارة وأعلاها بنياناً بـ 38 متراً، حيث أنشأه السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون الفترة ما بين عامي (757 هـ/1356م) و(765هـ/1363م) ليدفن فيه، ولكنه قُتل قبل انتهاء البناء ولم يعثر على جثمانه، ودفن فيه ولداه من بعده.

والعابر من ميدان صلاح الدين بالقلعة، مرورا بالسيدة نفيسة والسيدة سكينة بشارع الأشراف، يواجهه عدد كبير من مقابر الأولياء وأهل البيت، حتى لقب البعض هذه المنطقة بـ "بقيع مصر" لكثرة ما فيها من قبور أهل البيت.

وفي منطقة "القرافة الصغرى" توجد العديد من مساجد ومقابر وأضرحة أهل البيت، منهم مقام وضريح سيدي علي زين العابدين والسيدة زينب، ومقام ومسجد سيدنا الحسين، والسيدة نفيسة والسيدة سكينة وعشرات من أهل البيت يعرفهم القاصي والداني.

وهناك مئات أخرى من أضرحة أهل البيت والصحابة والأولياء والدعاة والعلماء، وكثير منها غير مسجل بهيئة الآثار المصرية. وفي كتاب "الطهر والكرامات.. قداسة الأولياء" يؤكد الدكتور شحاتة صيام، أستاذ الاجتماع السياسي بجامعة الفيوم، أن عدد الأضرحة في مصر يتجاوز 2220 أغلبها غير مسجل.

بقيع مصر

ويوثق الشيخ محمد زكي إبراهيم في كتابه "مراقد أهل البيت في القاهرة" المئات من أسماء أهل البيت الذين جاؤوا إلى مصر خلال القرن الأول والثاني الهجري واستقروا في البلاد.

في شارع صغير متفرع من شارع الأشراف، يدعى "المدبغية" يقابلنا ضريح القاسم الطيب بن محمد المأمون الملقب بالديباج بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن مولانا الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ومن حوله تتناثر أضرحة أبنائه: يحيى الشبيهي، وسمي بذلك لما قيل من شدة شبهه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا رآه الناس كبروا وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى مصر في ولاية أحمد بن طولون، ويوم جاء خرجت مصر كلها للترحيب به.

ومن أبنائه أيضا أم كلثوم، الشهيرة بالست "كلثم" كما يدعوها المصريون، وضريحها على بعد خطوات من قبر والدها القاسم الطيب، وبجوارها يقع ضريح أختها فاطمة النبوية العيناء.

ضريح فاطمة العيناء بنت القاسم بن المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين (الجزيرة)

رابعة في زحام

ونصل إلى مقام الزاهدة المتصوفة شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية (100هـ/ 717م-180هـ/796م) العابدة الزاهدة، ضريحها في زحام من كثرة من دفنوا حولها، واسمها الحقيقي: أم الخير أم إسماعيل التي ولدت وعاشت في بغداد وتوفيت بالقاهرة، ولا يبعد ضريحها عن ضريح الصحابي عمرو بن العاص إلا أمتار قليلة.

ورابعة العدوية شاعرة، لها في الوجد أهوال تشيب لها الألباب، وفي الحب أقوال تذوب لها القلوب، ومن أشعارها في إحدى قصائدها التي تصف حب الخالق تقول:

عرفت الهوى مذ عرفت هواك   وأغلقت قلبي عمن سواك

وكنت أناجيك يا من ترى   خفايا القلوب ولسنا نراك

أحبك حبين حب الهوى  وحبا لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى   فشغلي بذكرك عمن سواك

وأما الذي أنت أهل له   فكشفك للحجب حتى أراك

ضريح رابعة العدوية بمنطقة الإمام الشافعي بالقاهرة (الجزيرة)

أصحاب النبي ﷺ

بجوار ضريح المتصوفة الكبيرة رابعة العدوية يوجد ضريح الفقيه الحنفي فخر الدين الزيلعي أبو عمرو عثمان بن علي بن محجن البارعي، المتوفى (743هـ- 1343م) أصله من زيلع بالقرب من الحبشة، جاء إلى القاهرة سنة 705 هـ فأفتى ودرس، ونشر الفقه، وتوفي فيها ودفن بالقرافة، من مؤلفاته "تبيين الحقائق في شرح كنز الدقائق" وهو كتاب مطبوع في 6 مجلدات، وكذلك "تركة الكلام على أحاديث الأحكام" و"شرح الجامع الكبير".

وعلى بعد أمتار قليلة من مولانا الزيلعي نواجه بمقام السيدة فاطمة الأنور، وهي فاطمة بنت السيد الحسن الأنور بن السيد زيد الأبلج بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنهم أجمعين، ابن السيدة فاطمة الزهراء.

وضريحها على يسار السالك إلى مقبرة الصحابي سيدي عقبة بن عامر الجهني، فلا يخرج أحد ولا يدخل إلى درب سيدنا عقبة إلا إذا مر عليها.

وعلى اليمين في مدخل مسجد الصحابي عقبة بن عامر، يرقد بتواضع شديد الصحابي الجليل عمرو بن العاص فاتح مصر وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم (47 ق. هـ أو 45 ق. هـ / 575م أو 577م-43 هـ/664 م) حيث طلب أن يدفن على طريق الحج القديم لكي يدعو له الحجيج قبل مغادرتهم مصر إلى الحجاز.

مسجد وضريح صاحب رسول الله عقبة بن عامر، وهو صحابي ومحدث وشاعر وهو آخر من جمع القرآن، تولى إمارة مصر لمدة سنتين و3 أشهر إلى أن صرف عنها (667 م) وتوفي سنة (678 م).

صحراء البساتين

وفي جولتنا إلى مقابر البساتين، التي أنشئت حديثاً، وصولا إلى مسجد ومقام ابن عطاء الله السكندري (658 هـ/1260م-709هـ/1309م) صاحب "الحكم العطائية" وقد أنشئ ليحتضن ضريحه الموجود في حضن جبل المقطم، وقام على إنشائه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود يوم كان وزير الأوقاف، وذلك على نفقته الخاصة.

مسجد وضريح ابن عطاء الله السكندري بالبساتين (الجزيرة)

بجوار مسجد ابن عطاء الله توجد قبة صغيرة لحجرة كانت في باطن الأرض، وهي الخلوة الخاصة بالسيدة نفيسة بنت سيدنا الحسين رضي الله عنهما.

وفي نفس المكان، بجوار الخلوة يوجد ضريح العارف بالله المؤرخ والمفسر عبد الله بن أبي جمرة، سلطان المشرق والمغرب كما وصفه ابن عطاء الله السكندري، وهو عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، من العلماء المحدثين، ولد بالأندلس وكانت وفاته بمصر سنة 699 هجرية الموافقة 1296م.

ومن كتب أبي جمرة "جمع النهاية" مختصر صحيح البخاري، ويعرف بمختصر ابن أَبي جَمْرة، و"بهجة النفوس" في شرح جمع النهاية، و"المرائي الحسان" في الحديث والرؤيا.

يجاوره ضريح سيدي محمد بن سيد الناس (671 هـ-734 هـ) وهو أيضاً أندلسي الأصل من إشبيلية، ولد وتوفي في مصر وكان حافظا بارعا، وأديبا بليغا.

المصدر : الجزيرة