الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي صاحي: اللون الأسود يعكس قسوة بلادنا.. والخليج سوق فنية نشطة

رسم للفنان فيصل لعيبي صاحي في معرضه "يوميات عراقية – 6 عقود من الفن التشكيلي" (الجزيرة)

يعود الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي صاحي (مواليد البصرة 1945) بمتلقي لوحاته إلى الماضي الجميل البعيد، الذي يصبح حيا مرئيا بألوانه وخطوطه وتفاصيله السابحة في الخيال، رغم أنه واقعي الهوى والمدرسة.

وتتميز منحوتات صاحي -كما لوحاته- بشحنة تعبيرية ورمزية عالية، فثمة سر يكمن في أعماله التي أنضجتها سنوات طويلة من التجربة داخل الوطن وخارجه (في المنفى)، حيث أمضى -خريج معهد الفنون الجميلة في بغداد 1968- الشطر الأكبر من حياته في أوروبا، متنقلا بين باريس ولندن. وفي الدوحة حيث معرضه الأخير "يوميات عراقية – 6 عقود من الفن التشكيلي" بجاليري المرخية، التقت الجزيرة نت معه، فكان هذا الحوار:

  • يبدو أن الرسام يقوم بدور الوسيط بين التراث المعرفي والحداثة الفنية، ثم يكتشف بمرور الزمن وتراكم التجربة أنه أصبح طرفا، أين تجد نفسك في هذه المعادلة؟

الفنان شاهد على عصره، وهذا ما أثبته تاريخ الفن، أعني الفنان الجاد، وليس من يمارس الفن كحرفة أو مهنة، وليس له منها غير تأكيد مهارته، أو فهمه للفن الذي ينحصر في التعبير عن ذاته فقط، الفن (كالرسم والموسيقى والشعر) لغة تحمل رسالة من الفنان إلى أقرانه من البشر، وبالتالي لا بد من أن يقترن بهدف ذي مغزى حضاري، بمعنى تأكيد حضور ما في اللحظة المعينة، والمكان المحدد الذي يعيش فيه، أي تأكيد الذات والهوية، وهنا يكمن دوره في تمثيل المعنى الوجودي له كمبدع.

  • قياسا إلى فترات ماضية، برأيك هل تراجع دور الفن في تغيير الواقع؟

نحن نمر -رغم التقدم الهائل الذي شهدته البشرية- بتدهور في القيم، وإذا ما نظرنا إلى الذي ينتج الآن من أفلام الرعب والجريمة والقتل والجنس وحضور الدماء بغزارة في السينما، سندرك ما نحن فيه، فالفن يتأثر بكل ذلك، وقد يكون جسرا لمثل هذه الصور المفزعة للحياة اليومية التي نعيشها، الفن كقيمة روحية إيجابية قد ينحسر في هذه اللحظة أو تلك، إلا أنه يظل المصدر الأكثر قربا إلى روح الإنسان الطبيعية، وبالتالي هي البلسم الذي يجتمع حوله الجميع من مختلف الشعوب، فنحن لا نختلف في محبتنا للموسيقى من أي مصدر جاءت، وكذلك القصيدة واللوحة والتمثال والمسرحية والرواية، فالفن قادر على التغيير، وهو سلاح مهم من أسلحة التغيير في الوقت نفسه.

عمل تركيبي للفنان فيصل لعيبي صاحي بعنوان "الحرب" (الجزيرة)
  • ينتمي أسلوبك في المرحلة الأخيرة إلى ما يمكن تسميته "تكعيبية" عربية، لكنها محملة بنزعة "رمزية" قد تكون مشتقة من "الحروفية"، أو مدرسة البعد الواحد التي ازدهرت قبل أكثر من نصف قرن في العراق، فهل استُلهم من مدرسة بغداد للتصوير، انطلاقا من يحيى الواسطي رائد فن المنمنمات الإسلامية؟

قد يتعلق سؤالك هذا بما قدمته من أعمال تستوحي الحرْف، ولكنها كانت من منظار مختلف عما لدى جماعة البعد الواحد، في الحقيقة، ما قمت به محاولة لاختزال قيمة مدينة أو منطقة حضارية بمعناها المعرفي رمزيا، وهذا ما وجدته في الأعمال المعنونة باسم المدن، مثل بغداد، أو البصرة، أو الكوفة، أو غرناطة وفينيسيا، فقد أردت اختزال إنجازاتها بطريقة تعتمد على اللغة، كتجريد في منتهى الكثافة للتعبير عن عطائها العلمي والفني والحضاري.

ما ذكرته عن الواسطي قد تجده في رسومي الأخرى، التي تصور الحياة اليومية للناس في وطني الحبيب العراق، وهنا يمكن أن نشير إلى جماعة بغداد للفن الحديث، ودورها في بلورة هذا الشكل الذي أعبر به عن المواضيع التي أتناولها الآن، أعتقد أن جماعة بغداد للفن الحديث هي أقرب الجماعات إليَّ، وما أفهمه من رسالة الفن، وخاصة في بلد مثل العراق الذي تتكالب عليه الضباع حاليا من جميع الجهات.

  • تختار موضوعات واقعية شعبية، غير أنها مصاغة بثراء شكلاني باذخ، ألا تجد تناقضا في ذلك؟

فعلا، وإن شئت غرابة، وربما اغتراب بالمفهوم البريشتي (نسبة إلى الألماني برتولت بريشت)، أي أنها تعكس الواقع وكأنك تراه لأول مرة، نحن نمر بأماكن، وتمر بنا أحداث، ونشاهد مناظر وصورا، ولكننا لا ندرك جمالياتها من الوهلة الأولى، وعندما نعيد النظر إليها نكتشف روعتها وقيمتها الكبيرة، لنأخذ مثال القصاب أو الحلاق وحتى الخياطة، فنحن نعرفهم مسبقا، ولكن عندما تعرض لنا صورهم، ونحن في وضع رائق، نكتشف جماليات كانت غائبة عنا، ونتذكر أحداثا ارتبطت بهم، فكم مرة وقفنا عند الخياط ليفصل لنا أثوابنا الجميلة، وهل ننسى رائحة القماش وهيبة المكان وسحر الماكنة؟

هناك الكثير مما أود قوله في مثل هذه المشاهد الأثيرة لدي: الحلاق ويداه وهو يمسك بالموسى بحذر وخوف ومهارة، ويوم العيد ورائحة العطور والزجاج والمرايا وجمال الدكان والصور المعلقة فيه وطبيعتها، من هنا تأتي التناقضات والغرابة والاغتراب، وينحدر فيض الجمال والمحبة والعطاء.

  • تناولت التاريخ العراقي باسكتشات (تخطيطات) بالأبيض والأسود، هل طبيعة المضمون فرضت هذا النوع الاختزالي، حيث لا يمكن تجسيد ذلك التاريخ بصريا كما ينبغي، بالنظر إلى دمويته المفرطة؟

هذه الأعمال وبشكل واضح تراجيدية، يغلب عليها صفة الرفض لما هو غير إنساني، ومن هذه الزاوية فاللون الأسود أقرب إلى التعبير عنها، وأنت تعرف رمزية هذا اللون عندنا، نحن أبناء هذه المنطقة المسكونة بالكوارث والمصائب والويلات المتتالية، أنا هنا أعكس رأيي في ما يجري في بلادي، وأعبر عن رفضي للعنف والقمع والاضطهاد والقسوة التي يعامل بها الإنسان عندنا، وهذه إحدى مهام الفن وجزء من رسالته السامية، فحتى الأعمال الفنية عبر التاريخ، التي تعكس انتصارات الملوك والقادة العسكريين وزهوهم وغطرستهم، تعكس كذلك رأي الفنان بما يلحق بالمهزومين من أذى وظلم وعدوانية، من دون أن يشعر بذلك، حتى لو كان مع الغالب ضد المغلوب.

  • صرامة خطوطك تضبط تموجات اللون، هل لذلك علاقة بجوهر الثقافة العربية؟

أنا سليل حضارات خمس، آخرها الحضارة الإسلامية، التي كان العرب قد وضعوا لها الأسس ومهدوا لنموها وازدهارها؛ لهذا فرسومي لا تبتعد عن هذا الجذر أو الخيط المربوط ما بين أعمالي وخلفيتي الحضارية العربية، خاصة في ما يتعلق بجماليات الألوان، ولو قرأت "الليالي العربية" ستجد عجائب الأوصاف التي تتكلم عن الألوان وصورها المعكوسة على البشر والأشياء.

  • في النحت لديك انتباه إلى الفراغ أكثر من الكتلة، حتى أنك جعلت بعض المنحوتات شفافة، مثل مجموعة "ملحمة جلجامش"، ما السبب؟

النحت تجربة متأخرة لدي قياسا إلى الرسم، ولكنها تمتلك مقومات حضورها في داخلي، وتلح علي بين فترة وأخرى، وعندما أجد الفرصة والمادة المناسبتين أقوم بتنفيذ ما أفكر به أو أشعر، والنحت لا تكتمل جمالياته إلا مع الفراغ المحيط به، فهو في صيرورة مستمرة من الوجود والعدم، أما أعمالي حول "ملحمة جلجامش"، فهي مشروع نحتي مصغر لنصب كبيرة تصلح لأن توضع في الحدائق والساحات العامة، أو أمام البنايات العالية، وكونها شفافة فقد ارتأيت أن تكون نصبا ليلية أكثر منها نهارية، لتضاء بالأضواء الملونة مع حركة دائرية لها، لتعكس الألوان تنوع الشكل وجمالياته على أتم وجه.

لوحة من معرض فيصل لعيبي صاحي في جاليري المرخية بالدوحة (الجزيرة)
  • باستثناءات معدودة لا توجد حركة تسويق فني عربية، برأيك ما الذي يمكن أن تقدمه المؤسسات المعنية (الحكومية أو الخاصة) على هذا الصعيد؟

صالات العرض الفني تلعب دورا تنويريا واضحا في مجتمعاتنا العربية، خاصة في هذه المرحلة التي تمر بها بلادنا من فوضى المشاريع والمقترحات السياسية والاجتماعية الغريبة عنها، التي شوهت النسيج الاجتماعي للشعوب، وقسمت الأوطان وفرقتها إلى شيع وطوائف وملل متصارعة.

بدل الإخاء حيث نعيش في منطقة حضارية متجانسة ومتفقة على الكثير من القيم الروحية والمعرفية، ونملك لغة واحدة وتاريخا مشتركا، لكن هذه الصالات -وهذا ما لاحظته في أكثرها- لا تعمل ضمن برنامج واضح ومميز لكل منها، فمثلا في أوروبا، هناك صالات تختص بالأعمال التجريدية، وأخرى بالسوريالية، وثالثة تعتمد آخر صيحات الفن المفاهيمي.

أظن أن الصالات الحكومية والخاصة تحتاج إلى تنسيق، ووضع برامج مشتركة ومتفق عليها ضمن خطة طويلة الأمد، تراعى فيها المطالب الأساسية لمجتمعاتنا، من دون أن ننسى أهمية الإبداع والحرية الفردية للمبدع، وكذلك ضرورة تشجيع الباحثين ونقاد الفن عندنا على لفت انتباه المبدعين إلى ما نملكه من ثراء جمالي باذخ، ومع هذه الشروط أيضا نحتاج إلى تعديل مناهج تدريس الفن في معاهدنا، وجعل تراثنا الغني مصدرا مهما من مصادر التدريس والتدريب، مع عدم نسيان تجارب الشعوب الأخرى، وما تعيشه الحركة الفنية عالميا من تطورات مختلفة ومتنوعة.

  • كيف تقرأ المشهد التشكيلي الخليجي، وعلى الأخص الفن التشكيلي القطري؟

تعد منطقة الخليج حاليا أنشط سوق فنية، وها نحن نرى الفنانين الأوروبيين يسعون إليها، ويحاولون الاستفادة من الإمكانيات المادية المتوفرة فيها، وهناك إقبال من المجتمع على شراء الأعمال الفنية، وقد ظهر عدد من جامعي الأعمال الفنية والأنتيكات؛ هذا يشجع المبدعين على الإنتاج والعمل وبذل الجهد من أجل تطوير أنفسهم أيضا، لكني لاحظت هوسا بكل ما هو غربي، ودفع مبالغ طائلة لأعمال أقل من كونها عادية، ولا قيمة لها فنيا، فالمفروض الاهتمام بفنانينا العرب بشكل خاص.

قد أشبه تجربة دول الخليج في ما يتعلق بالثقافة بالمدن الإيطالية التي أنتجت النهضة الأوروبية، وغيرت تاريخ العالم، لكن هذا مرهون بالإرادة والوعي والتصميم على القيام بالنقلة المطلوبة لمجتمعاتنا التي ترزح تحت قيم القرون الوسطى حتى الآن، فالنهضة العمرانية الهائلة واستخدام التقنيات المتطورة لا يكفيان لخلق إنسان معاصر، أنا أعول على الجيل الشاب الذي نهل من الفكر الحديث، وتعرف على عيوب الفكر الغربي ونقائصه، خاصة في ما يتعلق بالمركزية الأوروبية أو نظرية الرجل الأبيض، حسب تعبير مفكر التفكيكية الأبرز جاك دريدا، أما في ما يتعلق بالحركة الفنية التشكيلية في قطر، فلم يسعفني الحظ لزيارة مرسم أو مشغل فنان قطري، كما لم أقرأ كتابا جامعا للفن التشكيلي القطري.

  • قضيت معظم سنوات عمرك خارج العراق، ما أثر الغربة في اكتشاف الذات؟

غربتي لا تختلف عن رحلات السندباد البحري البصْري، ابن المدينة التي أنتمي إليها؛ في الغربة تعدّل سلوكيات كنت تراها طبيعية في وطنك، لكنها مستهجنة في البلاد الأخرى، الزمن يصبح قاطعا كحد السيف، وليس سيالا كما كنت تعيشه في الوطن، حيث الفرص تأتي وتذهب وأنت لاهٍ عنها، تتعلم من فنون بلاد الغربة ومهاراتها وتدرس عالمهم الغني وتأخذ منه ما ينفعك، وترى الأمور التي قرأت عنها بأم عينيك، فهذه لوحة الموناليزا لدافنشي، وذاك تمثال موسى لمايكل أنجلو، وهناك جداريات رفائيل ونافورة دو شامب، وآنسات أفينيون لبيكاسو، هنري مور ونساؤه المستلقيات، وجاكوميتي وشخوصه العابرون، هذا كله نعمة كبرى.

ذات مرة في متحف اللوفر، زرت القاعة العراقية، وكانت تطل على القاعة اليونانية، فشاهدت جوديا -أو جودت، وربما جواد- حاكم مدينة لجش السومرية في جنوب العراق، كان يجلس بوقار ضاما يديه إلى صدره على هيئة المصلين المسلمين، وينظر إليَّ كمن يخاطبني: هل تعرفني؟ كانت -ويا للمصادفة- فينوس ميلوس تواجهه في القاعة اليونانية المقابلة، فنظرت إليها، ورغم جمالها الآسر، شعرت أن العم جوديا أقرب إلى نفسي بعمته التي تشبه عمة البغدادي اليوم، وجلسته الهادئة والواثقة، ومع أني كنت دائم الحضور والزيارات للمتحف العراقي القديم عندما كنت في بغداد، لكنني لم أنجذب أو أكتشف هذا الجمال والهيبة والوقار إلا في الغربة، إنها رحلة في الزمان والمكان والتجارب، وهي التي أعادت لي الوعي بذاتي، وعلمتني كيف أحترم خصوصيات غيري الفنية والمعرفية والحضارية، وبالتالي معرفة شخصيتي وطبيعتي وذاتي التي كانت منزوعة عني بأوهام قوة الآخر وضعف الأنا.

جانب من معرض فيصل لعيبي صاحي في جاليري المرخية بالدوحة (الجزيرة)
  • سافر الفنانون الرواد العرب إلى الغرب، ليعودوا إلى بلدانهم وينهضوا بفنها، هل نحن بصدد حركة عكسية الآن؟

سفر الفنانين العرب الرواد إلى الغرب كان بسبب حاجتنا الماسة للتعلم من تجارب الغير، لكن هذا التعلم لم ينتج معرفة خاصة إلا لدى القليل منهم، وهذا ما جعل معظم نتاجات فنانينا في متاحفنا تحاكي ما هو موجود هناك، اليوم هناك فنانون عرب لهم حضورهم المميز في المزادات الغربية، ولكن زبائن هذه المزادات هم عرب على الأكثر، وهذا لا يفسر ما نتمناه من انتشار حقيقي للإبداع العربي في العالم، لكني متفائل، خاصة أن هناك طاقات مذهلة تبشر بخير، لا سيما بين الشباب.

  • كيف تولد لوحتك، هل ثمة طقوس محفزة؟

ليست هناك طقوس معينة، أنا فنان أحضر المادة بشكل جيد قبل البدء برسمها، وأضع رسومات أولية لها، قد تصل إلى العشرات للوحة الواحدة، فأختار منها ما هو أقرب إلى ما أشعر به حول الموضوع، وقد يأتي الموضوع من قراءة قصيدة، أو مشاهدة فيلم أو مسرحية، أو سماع قطعة موسيقية.

  • غالبا ما تشكل العلاقة مع المرأة جزءا من تكوين الإنسان، إلى أي حد يبرز ذلك في تجربتك؟

المرأة مخلوق غير قابل للوصف، هي آلهة أرضية، تسير كالطائر الحالم، وتنشر الجمال من حولها، هي الأم التي أعطتني الحياة، والأخت التي منحتني المحبة، والزوجة التي تكتمل بها شخصيتي، من دون المرأة لا نستطيع تحديد هويتنا الحقيقية، ولا شخصيتنا الواقعية، زوجتي ورفيقة دربي الباحثة والعازفة الموسيقية عائشة خلاف هي الناقد الأول لكل عمل أقوم به، من النهوض صباحا إلى إنتاج الأعمال الفنية ونقدها، علما بأن معظم ملاحظاتها النقدية صحيحة.

المصدر : الجزيرة