"عائدون إلى البيت".. توثيق أدبي لتجارب أطفال القدس مع الحبس المنزلي

فلسطين- رام الله- عزيزة نوفل- الكاتبة أحلام بشارات و كتابها عائدون إلى البيت عن الحبس المنزلي للأطفال في القدس - الجزيرة نت
الكاتبة أحلام بشارات وكتابها "عائدون إلى البيت" عن الحبس المنزلي للأطفال في القدس (الجزيرة)

رام الله – "كان أصدقاؤه يقفون على باب البيت يوميا حتى يأخذوه معهم في جولة أو للعب في مكان ما، كنت أمنعه حتى من فتح باب البيت، مع الأيام قل عدد الأطفال الذين يأتون إلى باب البيت، ومع الأيام لم يعد يأتي أحد منهم".

هذه شهادة هند والدة المقدسي موسى العجلوني الذي كان يقضي حكما بالحبس المنزلي عندما كان 12 عاما، كبر موسى الآن وأصبح يقضي حكما بالسجن 16 عاما في سجون الاحتلال، إلا أن تجربة الحبس المنزلي التي تكررت على مدار 6 سنوات هي الأصعب عليها وعليه وعلى كل العائلة كما تقول والدته.

تجربة موسى ووالدته وثقتها الكاتبة أحلام بشارات في كتابها الجديد "عائدون إلى البيت" الذي جمعت من خلاله قصص الأسرى من مدينة القدس وتجربتهم مع الحبس المنزلي الذي تفرضه إسرائيل عليهم، وذلك من خلال مجموعة من المقابلات مع الأطفال الذين عاشوا التجربة وعائلاتهم.

وجسدت الشهادات -التي أعادت الكاتبة تحريرها أدبيا وقدمتها في كتابها- أكثر تجارب الاعتقال صعوبة، وهي التجربة التي لا يعلم الكثيرون تفاصيلها "ففي هذا النوع من الاعتقال تتحول الأم إلى سجانة، والبيت إلى سجن" تقول بشارات للجزيرة نت.

وعن ذلك تقول هند "كان أقسى ما حدث هو أن موسى لم يعد يراني أمه، أصبحت في نظره السجانة، كنت مسجونة مع موسى، أصبحت قاسية من شدة خوفي أو من شدة جهلي بعواقب ما أفعله، كل ما كنت أريده ألا يخرج موسى من البيت فحسب..".

ممنوعون من العلاج والدراسة

و"الحبس المنزلي" هو إجبار الطفل على قضاء فترة محاكمته أو في ما بعد محكوميته في البيت في عهدة والديه، يمنع خلال هذه المدة -التي تمتد أحيانا لسنوات- من الخروج من البيت حتى للعلاج أو الدراسة، تحت طائلة المسؤولية التي تقع على الأهل الذين يوقعون على كفالات بمبالغ مالية عالية جدا.

وبحسب ورقة حقائق أعدتها المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار "مفتاح" في 2020، فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تفرض الحبس المنزلي على الأطفال المقدسيين ممن هم دون سن 18 عاما، وتتركز أكثر على من هم دون 14 عاما، لأن القانون الإسرائيلي يمنع تنفيذ الحبس الفعلي بحقهم.

ويبقى الطفل في الحبس المنزلي خلال إجراءات المحاكمة التي قد تستغرق وقتا طويلا، وإذا بلغ الطفل السن القانوني يتم إيقاع عقوبة الحبس الفعلي بحقه، دون احتساب مدة الحبس المنزلي حتى لو استمرت لسنوات.

فلسطين- رام الله- عزيزة نوفل- الكاتبة أحلام بشارات تستعرض بعض قصص كتابها عائدون إلى البيت- الجزيرة نت
الكاتبة أحلام بشارات تستعرض بعض قصص كتابها "عائدون إلى البيت" (الجزيرة)

وكان اختيار بشارات -وهي الكاتبة التي تخصصت في الكتابة للأطفال واليافعين- التطرق لهذا النوع من الاعتقال من واقع اهتمامها بالأسرى الأطفال، فكانت لها تجربة سابقة من خلال عملها الأدبي" أولاد المنسي" عن حكايات الأسرى الأطفال في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

تقول "تشغلني قضية الأسرى باستمرار وتحديدا الأشبال، أحاول التجسير بين خيال الكاتب والواقع لأطفال يعيشون واقع الاحتلال الصعب".

وخلال إعدادها "أولاد المنسي" استندت إلى الاستماع للأطفال الذين خاضوا تجربة الأسر، وهو ما لم يكن متاحا لها هذه المرة بسبب عوائق الاحتلال التي تمنعها من دخول القدس، فاستعانت بمن يجمع لها الشهادات التي قدمتها في كتابها الصادر عن مركز الدراسات النسوية.

تقول "لو استطعت الالتقاء بالأطفال والاستماع إليهم أكثر لكان الأمر مختلفا، يمكن أن يكون عملا روائيا متكاملا".

وهذا أيضا ما صعّب عليها التجربة، ليس عليها فقط وإنما على من تعاونت معها لإعداد رسومات الكتاب وهي الفنانة المصرية بسنت داود التي تقول بشارات إنها اكتشفت فلسطين من خلال هذا العمل.

اختارت بشارات تضمين كتابها 12 قصة، نصفها يرويها الأطفال والآخر الأمهات، وكل منها تقدم زاوية مختلفة لتشكيل الصورة الكاملة عن "الحبس المنزلي" أو "الألم غير المطروق" كما وصفت.

وأضافت "كان التحدي تحويل كل هذا الألم لنص أدبي وقصص تسلط الضوء على زاوية جديدة لم يتم التطرق لها من قبل في الحبس المنزلي".

الحبس المؤلم

هذا الألم لم يستطيع كل الأطفال تحمله أو التكيف معه، مما دفعهم إلى تفضيل الحبس في سجن حقيقي كما الطفل عبد الله عبيد من بلدة العيسوية شرق القدس المحتلة.

عبيد اعتقل وعمره 15 عاما، وفرضت محكمة الاحتلال عليه حبسا منزليا، وبعد 4 أشهر طلب من عائلته تقديم طلب إلى المحكمة الإسرائيلية لإكمال فترة سجنه في سجن حقيقي.

يقول -وهو الذي كان أحد أفراد فريق كرة القدم في بلدته- "يتسلل اليأس إلى أعماقي، أنتظر وأنتظر كي أقابل حبيبتي كرة القدم، كان هذا أصعب ما في الحبس المنزلي أنني لم أعد قادرا على التقدم في حلمي، حتى أصدقائي لم يعودوا أصدقائي لأنهم يخافون أن يلقي جنود الاحتلال القبض عليهم إن حاولوا التواصل معي أو زيارتي، قلت لنفسي: لن أسمح لهذا الحبس أن يسلخ جسدي".

ومن خلال الشهادات التي تضمنها الكتاب فإن من أصعب تجارب الحبس المنزلي هي إجبار البعض على قضاء الفترة بعيدا عن بيته، فتلجأ العائلة لتأمين طفلها عند أحد أقاربه في مكان بعيد عن بيته ومحيطه.

الطفل فارس شكري دويك (من مخيم شعفاط شرقي القدس) عاش هذه التجربة حين اعتقل في سن الـ14، وفرضت المحكمة الإسرائيلية الحبس المنزلي مع الإبعاد من المنزل.

3-المسجد الأقصى، القدس المحتلة أغسطس 2015 مجموعة من الأطفال يشكلون سلسلة بشرية لمنع المستوطنين من الصعود لقبة الصخرة أثناء اقتحامهم للأقصى
مجموعة من الأطفال يشكلون سلسلة بشرية أمام قبة الصخرة بالقدس (الجزيرة)

اختارت عائلته قضاء فترة حبسه في منزل جدته بحي السعدية في البلدة القديمة، وكان على والدته زيارته يوميا وقضاء اليوم بالكامل معه خوفا من خروجه من المنزل، ثم العودة إلى منزلها لتعتني بأطفالها الخمسة الآخرين.

تقول "كان يتصل بي ليقول إزهقت يما، مش قادر أتحمل يما، اشتقت لأخوتي، خليهم ييجو أشوفهم وأقعد معهم، كانت طلباته البسيطة هذه توجع قلبي، وكان علي أن أكون أما حازمة فلا أدعه يؤثر علي، فأستمر بإقناعه بأن هذا أفضل حل له..".

عودة غير آمنة

بشارات -التي حررت هذه الشهادات وعاشت معها طويلا- حاولت رغم كل هذا الوجع والألم في هذه الشهادات تجنب تقديم نص بكائي، وإنما قصص تجسد المعاناة الحقيقية لهؤلاء الأطفال وإيصالها للعالم من خلال ترجمة الكتاب إلى اللغة الإنجليزية.

واقتبست بشارات عنوان الكتاب من رواية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" للكاتب الجزائري الطاهر وطار، ولكن العودة إلى البيت في حالة هؤلاء الأطفال -كما تقول- لم تكن آمنة "هم يعودون إلى البيت الذي أُفرغ من معناه وتعرض للاضطهاد كما الطفل والأم والأب والمدينة التي حولها الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته بأكملها إلى سجن".

المصدر : الجزيرة