ميراث التاريخ الروحي.. التصوف الإسلامي بعيون المستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكلسون

كرّس المستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكولسون (1868-1945) حياته لدراسة مصادر التصوف العربية والفارسية، والعوامل التي ساعدت على نشأته ونموه، ويتناول في هذا الكتاب الزهد والتصوف والفرق بينهما.

كتاب في التصوف الإسلامي
كتاب "في التصوف الإسلامي وتاريخه" للمستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكولسون (الجزيرة)

منذ مطلع القرن الـ20، تزايد الاهتمام البحثي بالصوفية، فتزايد وكثر المهتمون بفلسفتها وأفكارها والسائرون وراء غاياتها وأغراضها، ووضعوا لها التأويلات البعيدة والقريبة بغية التوصل لعلاقتها المعرفية بالتاريخ القديم، وأواصر صلتها بالتاريخ الحديث.

وفي كتابه "في التصوف الإسلامي وتاريخه"، الصادر عن دار التنوع الثقافي، اعتنى المستشرق الإنجليزي رينولد ألين نيكولسون (1868-1945) بتراث الصوفية في تاريخ الإسلام، إذ رأى فيها أخص مظاهر الحياة الروحية عند المسلمين وأبرزها.

وكرّس المستشرق -الذي يعد أفضل المترجمين لأشعار جلال الدين الرومي- حياته الطويلة، أو نيفا و50 عاما منها، في دراسة مصادر التصوف العربية والفارسية، والعوامل التي ساعدت على نشأته ونموه، إذ يتناول المؤلف في هذا الكتاب الزهد والتصوف والفرق بينهما.

التصوف.. نظرة تاريخية

يقول الكاتب إن بذور التصوف الأولى ظهرت في نزعات الزهد القوية التي سادت العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري، واختلف الباحثون في تفسير كلمة "التصوف"، فمنهم من أرجعها إلى لبس الصوف الذي كان يؤثره المتصوفة على سواه مبالغة في الزهد والتقشف، وفي هذا حاكى العرب رهبان المسيحيين.

وقد انفرد البيروني (973-1048م) من بين الكتاب العرب بقوله إن هناك صلة بين اسم الصوفي والكلمة اليونانية "سوفيا"، وأخذ بهذا الرأي المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر برجشتال (1774-1856م)، الذي يقول إن كلمة صوفي مأخوذة من كلمة "جمنوسوفيست" (Gymnosophist) ومعناها الحكيم العاري، وهو لفظ يوناني أطلقه اليونان على بعض حكماء الهنود القدماء الذين اشتهروا بحياة التأمل والعبادة.

ويعتقد نيكولسون أنه لا يوجد لدى هامر برجشتال دليل سوى تقارب اللفظين، وحسب الكاتب فإن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الكوفي (توفي 150هـ)، أما كلمة الصوفية بالجمع فظهرت حوالي سنة 199 هجرية.

ويعتبر نيكولسون في كتابه أن نشأة التصوف ترجع إلى عوامل خارجة عن الإسلام، عملت عمَلَها ابتداء من القرن الثالث الهجري، وأهم هذه العوامل وأبرزها في نظره هو التأثر بالأفلاطونية الحديثة المتأخرة التي كانت شائعة في مصر والشام.

ويستشهد المؤلف برأي عالم اللاهوت البروتستانتي المؤرخ الألماني فريدريش أوغست جوتريو ثولوك (1799-1877م) الذي ذهب إلى أن التصوف الإسلامي مأخوذ من أصل مجوسي، محتججا بأن كثيرين من مشايخ الصوفية ظهروا في الشمال من إقليم خراسان.

أما المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (1883-1962) فله رأي آخر، إذ يقول "التصوف الإسلامي قد أخذ نشأته من صميم الإسلام ذاته".

وبدوره يشير إسماعيل بنزكرية، وهو مريد الطريقة الكركرية وخطيب جمعة وواعظ بالمجلس العلمي في طنجة (شمالي المغرب) وأكاديمي مختص بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، "لا يمكنني القول إن التصوف هندي أو وثني أو مسيحي بقدر ما هو نزعة إنسانية ومشاركة بشرية عبر العصور، لأنه ينتمي لعالم الروح المرتبط بأصل الفطرة والنفحة الروحية التي وضعت في الإنسان".

يذكر أرنولد نيكولسون أن لكل طريقة صوفية قواعدها الخاصة بها، لكنها جميعا متفقة في بعض تقاليد الأزياء والطقوس والخلوة والكر والحركات البدنية والموسيقى والاعتقاد بالكرامات.

ويرى الكاتب أن احترام المرشد أو شيخ الطريقة من قبل أتباعه يقترب من التقديس.

الصوفية والزهد

يقول المؤلف إن القرآن الكريم صرّح بأن الرهبانية بدعة ابتدعتها المسيحية في قوله تعالى "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله" (الحديد، آية: 27)، مضيفا أن للنبي محمد صلى الله عليه وسلم قولا مشهورا "لا رهبانية في الإسلام".

ويوضح نيكولسون "ومن هنا ظهرت حركة الزهد قوية عنيفة، وانتشرت على مر الأيام. فكانت زهدا دينيا خالصا في بادئ الأمر، ثم دخل إليها بالتدريج بعض العناصر الصوفية حتى تحوّلت في النهاية إلى أقدم صورة نعرفها للتصوف الإسلامي".

وبحسب الكتاب، فقد ذكر المستشرق اليهودي المجري إجناتس جولد تسيهر (1850-1921) قصة بهلول بن ذؤيب، الذي خرج إلى جبل بجوار المدينة ولبس لباس الشعر وربط يديه خلف ظهره بسلاسل من حديد، وجعل يصيح "يا رب انظر إلى بهلول يرسف في الأغلال ويعترف بذنوبه"، كدليل على بذور التصوف منذ عصر النبوة.

الصوفية.. بين التوريث والتعيين

وعن خلافة شيخ الطريقة الصوفية، يقول الدكتور محمد صبحي العايدي، عضو المجلس الأعلى للوعظ والإرشاد ومدير الدراسات والبحوث والتوثيق سابقا في وزارة الأوقاف الأردنية، إن "هذا الأمر متروك للشيخ لأنه أدرى بمريديه من غيره، وقد يعيّن الشيخ ابنه، وهذا لا يعاب إذا كان أهلا لذلك، وقد يظن البعض أن هذا يفتح بابا للتوريث، والحقيقة لا، لأن الشيخ ما خلفه إلا لأنه يستحق الخلافة".

في حين يرى إسماعيل بنزكرية أن "الأصل فيها الأهلية والاستحقاق مع مراعاة الأصول الشريفة والانتساب إلى آل البيت وحمل سر الشيخ".

وبدوره يقول الشيخ حذيفة العبادي، ماجستير في الفقه الإسلامي وأصوله وإمام وخطيب في مساجد الموصل، في حديثه للجزيرة نت "إذا حدث أن مات شيخ الطريقة ولم يعيّن أحدا، فإن مجلس شورى الطريقة يختار أفضل من يستطيع أن يخلف شيخ الطريقة".

ويذكر الباحث في الحركات الإسلامية الدكتور مصطفى زهران -في حديثه للجزيرة نت- "تعمد بعض الطرق الصوفية إلى تعيين طفل بمنصب شيخ للطريقة الصوفية، وذلك يعارض قانون المجلس الأعلى للطرق الصوفية الذي يحدد أن الولد الذكر الأكبر هو من يخلف شيخ الطريقة".

ويعتقد "أن أحد أهم أسباب تراجع الدور الصوفي الطرقي في الأمة الإسلامية في القرون الأخيرة هو الإصرار على التمسك بالتوريث"، ويرى زهران أنه لكي تعود للصوفية مكانتها "لا بد من إعادة النظر في هذه القوانين التي نسجت على مقاس شيخ الطريقة، فنالت من مكانة المشيخة وأخضعتها للإرث بعيدا عن الكفاءة الفقهية".

الولاية منحة إلهية

يقول أرنولد نيكولسون إن الولاية في نظر الصوفية مرتبة لا يصل إليها الولي بأعماله ومجاهداته، إنما هي منحة إلهية يمنحها الله من يشاء من عباده.

وهذا هو المعنى الذي يشير إليه الصوفية بكلمة "الجذب"، وهي علامة على "الفناء" في الله.

فالولي في الإسلام هو "المجذوب" إلى الله. يذكر أن هناك ما يشبه الاتفاق عند المسلمين على أن للأولياء كرامات، ولكن كبار الصوفية يحذرون من الركون إليها والاغترار بها، وقد تنبّه علماء الصوفية إلى هؤلاء الدخلاء وبيّنوا أغلاطهم وتبرؤوا من أفعالهم وأقوالهم.

ويرى الكاتب إلى أن "الكرامات التي ظهرت على أيدي المتصوفة كانت، في اعتقادهم، إمدادات إلهية لم يطلبوها، ولكن الله منحها لهم".

وقد قال الجنيد البغدادي "لو رأيتم الرجل قد تربع في الهواء ومشى على الماء فلا تلتفتوا إليه حتى تنظروه عند الأمر والنهي، فإن كان عاملا بالأمر مجتنبا لما نهي عنه فاعتقدوه".

ويؤكد نيكولسون أن هذا لا يعني أن جميع الصوفية أولياء، فإن الأولياء ليسوا في الحقيقة إلا طائفة قليلة من خواص أهل الله من الرجال والنساء الذين وصلوا إلى مراتب الأحوال الصوفية.

آراء في التصوف الإسلامي

تقول الدكتورة سعاد الحكيم في كتاب "نحو إعادة بناء الدراسات الإسلامية" إن الوجود الصوفي بدأ بالظهور في مجتمعات الإسلام في مدينة البصرة في نهايات القرن الأول الهجري وبدايات القرن الثاني مع الحسن البصري (641-728م) ورابعة العدوية (718-801م).

وأكدت أن التصوف لم يستقل باعتباره علما إسلاميا له موضوعه ومصطلحه ومنهجه ونظامه المعرفي، إلا ببغداد في القرن الثالث الهجري مع الجنيد البغدادي (830-910م).

في حين يقول الدكتور العايدي إن "الناظر في مبادئ التصوف يجدها خرجت من رحم الدين، فمبادئ التصوف نظيفة لا غبار عليها".

في المقابل، يبدي إسماعيل بنزكرية معارضته قائلا "مع مرور الزمان طرأت تغيرات على هذا التيار، وتم توظيفه سياسيا من خلال صناعة بعض الزعامات".

ويستدرك بنزكرية "لكن كل هذا لا ينفي بقاء جزء كبير من أبناء هذا التيار مرابطين على الحب الإلهي، وهم أهل السند المتصل والرباط النوراني".

ويقول مرشد الطريقة الجهرية النقشبندية بدولة الصين الشيخ عبد الرؤوف اليماني الحسني الحسيني للجزيرة نت "إن مبدأ الصوفي الحقيقي في التصوف هو كلام الله، المتمثل في القرآن الكريم، وجميع الكتب التي تؤمن بالخالق والمبدأ الصحيح من الكتب السماوية الخالية من التبديل والتغيير".

الشيخ عبد الرؤوف اليماني الحسني الحسيني مرشد الطريقة الجهرية النقشبندية بدولة في الصين copy
مرشد الطريقة الجهرية النقشبندية بالصين الشيخ عبد الرؤوف اليماني الحسني الحسيني (الجزيرة)

ونجد تحوّلا في نظرية أرنولد نيكولسون في المقال الذي نشره عام 1921م في دائرة معارف الدين والأخلاق تحت عنوان"التصوف"، إذ إنه يعترف صراحة بمنزلة العامل الإسلامي من بين العوامل التي ساعدت في نشأة التصوف.

تراجع النفوذ الصوفي.. وصعود السلفية

يقول بعض الباحثين إن تراجع النفوذ الصوفي، واختفاء طقوس واحتفالات الصوفية من الميادين العامة، مرتبط بصعود الجماعات السلفية التي لا تزال في صراع دائم مع الطرق الصوفية.

يقول العايدي "السياسة هي التي تلعب دورا في صعود بعض التيارات وانحسارها، ولذا نلحظ أن العالم بدأ يتجه نحو تبني التصوف والفكر الصوفي لأنه أكثر انفتاحا وعالمية، فأساسه الروح، وهي لا تميز بين أصحابها من أي جنس أو عرق أو لون أو دين".

ويضيف العايدي "لذا تجد الاتجاهات الصوفية أكثر تعايشا مع المجتمعات من غير المسلمين".

ويعلق إسماعيل بنزكرية قائلا "لا يمكن اعتبار صعود التيارات السلفية عنصرا أساسيا في تراجع المد الصوفي لأننا مازلنا نلاحظ امتدادا شعبيا للتصوف كثقافة في كثير من المجتمعات المسلمة، إلا أن الاختراق الأجنبي لعب دورا كبيرا في تفكيك بنية التدين التقليدي الذي ارتبط بالمدرسة الصوفية".

المصدر : الجزيرة