تشريح الموت في "احتضار الفَرَس".. خليل صويلح: لا رفاهية لمن يعيش الحرب ليكتب عن غيرها

الروائي والصحفي السوري خليل صويلح أصدر روايات عديدة بينها "اختبار الندم" و"دع عنك لومي" و"عزلة الحلزون" وله كتب نقدية منها "نزهة الغراب" (مواقع التواصل)

شذّت رواية "احتضار الفَرَس" عن بقية المدونة السردية للروائي السوري خليل صويلح، على نحو فرض أن يخصص كل الحوار لهذا العمل الصادر مؤخرا عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، في محاولة لتقديم قراءة أخرى لرواية تصنع لنفسها ولصاحبها تميزا سرديا واضحا بين جديد الإصدارات العربية هذه السنة.

لكن الأهم هو ما صنعته في خليل صويلح، الروائي الذي بالكاد يرى انعكاس سرده القديم فيها. فعلى الرغم من أن صاحب "وراق الحب" تناول من قبل مواضيع الفقد والموت واليأس في أعماله السابقة، فإنه في هذه الرواية عرضها عرضا وحشيا ممعنا في القساوة، مفرطا في الألم. لا مساحيق تجميل ولا عبارات تقول الموت بلغة تمنحه وجها ألطف.

في هذا الحوار، يتساءل راوي الحياة الدمشقية عن مكان المثقف في وليمة الوحوش، ويقول "في روايتي انتصر الجنرال على المثقف، والبرابرة على صناع الجمال، والدهماء على النُخب". ويقرّ بأنه "لا بد من اختراع كافكا آخر لتدبير وليمة الهلاك"، ويسأل "ما فائدة أن تكون ثوريا بوعاء سردي ركيك؟"، ويلخص المطلوب من السرد قائلا إنه ينبغي أن يكون "ثورة لغوية ورافعة جمالية تضع البلاغة في موقع لائق".

فإلى الحوار:

  • لنبدأ حديثنا من عملك الأخير "احتضار الفرس" الذي قمت فيه بتشريح الواقع السوري، عارضا صورة سوداوية له عبر تتبعك لذاكرة الموتى. هل كانت غايتك الحفاظ على ذكراهم من التلاشي، أم الخوف من أن يطغى النسيان إلى حد أن يصبح عادة نألفها أو طبعا جديدا يصعب التخلص منه؟

"أنا صديق الموتى"، بهذه العبارة أجبت أحد الصحافيين قبل سنوات، في تبرير معنى الوحدة التي أعيش يومياتها في دمشق.

الرواية تقدم فجيعة الحرب والإنسانية كما يسردها صحفي يرحل من الجزيرة السورية لدمشق والعكس (الجزيرة)

كنت بدأت فحص أحوال مفردة الموت في روايتي "اختبار الندم" أولا، إذ مات اثنان من أصدقائي المهاجرين في يوم واحد، الأول في باريس، والثاني في برلين، منوها إلى حصتنا من الموت في مقابر الغرباء، لكن موتا آخر سيقتحم حياتي بجرعات أكبر. لم يعد الأمر يتعلق بقبر أو قبرين، إنما بمقبرة جماعية.

لعل الأمر يخصّ الفقدان في المقام الأول، وكيف تتحول ملاءة السرير البيضاء في المستشفى إلى كفن وورود ذابلة. كان الموت يراوغني بمبارزة غير عادلة إلى أن طرق بابي بعنف، فكان عليَّ أن أختبره سرديا كنوع من العلاج.

كان الموت يراوغني بمبارزة غير عادلة إلى أن طرق بابي بعنف، فكان عليَّ أن أختبره سرديا كنوع من العلاج.

  • جاء سردك في هذه الرواية هادئا رغم قلق الأحداث التي فيها، يكاد يشبه الهدوء الذي يعتري المحتضر لحظة انفلات الروح من جسده، أو ربما يشبه هدوء قاتل اعتاد على فعل القتل. هل كنت في "احتضار الفَرَس" تتحدث عن لحظة موت لا فكاك منها، أم عن جريمة قتل؟

كان احتضارا مزدوجا، حيال سريالية الموت، إذ يصعب ترويض زمن يمتد إلى ثلاثة أضعاف ما روته شهرزاد في "ألف ليلة وليلة".

كنت أحاول إغلاق القوس على عشر سنوات من الجحيم السوري، وفحص طبقات الموت، وتفكيك معنى الغياب، وتاليا، كان تدوين الموت محاولة لاستعادة تاريخ من غابوا بعبثية الموت نفسها، واستحالة أن تدفن في مسقط الرأس، إنما في قبر يحمل رقما وحسب.

كنت أحاول إغلاق القوس على عشر سنوات من الجحيم السوري، وفحص طبقات الموت، وتفكيك معنى الغياب، وتاليا، كان تدوين الموت محاولة لاستعادة تاريخ من غابوا بعبثية الموت نفسها، واستحالة أن تدفن في مسقط الرأس، إنما في قبر يحمل رقما وحسب.

تكمن الجريمة في تمزيق خريطة البلاد، ومحو التاريخ الشخصي ببلطة حادة وتحويله إلى جثة في العراء. جثث بأعضاء مبتورة تتماهى مع طريقة السرد من جهة الحذف والتشظي والعبثية.

  • الابن في "احتضار الفَرَس" يتلقى بأسى عظيم خبر موت أمه، فيسافر بعد أن دفنت، لا لشيء إلا ليقف عند قبرها وينام في غرفتها، صورة متضادة تماما مع الابن في "الغريب" لألبير كامو الذي يتلقى خبر موت أمه ببرودة، ولا يسافر إلا لأنه مضطر لدفنها، وحين يعطى فرصة رؤية وجهها لآخر مرة يرفض، هل كنت تقصد أن تصنع هذه المعارضة التي تحيل بلا شك إلى مفهوم الوطن/الأم؟

تحضر العبارة الأولى فقط، في الاشتباك مع رواية "الغريب" لكامو، في نوع من الهجاء، فيما تفترق رحلة الراوي لاحقا، فههنا تتأجج العاطفة نحو طاقتها القصوى، سيعوي الراوي مثل وحش جريح، بعد أن يتلقى خبر موت أمه.

وسيكتشف حجم الخسارة، ليس على مستوى شخصي وحسب، وإنما موت بلاد بأكملها، فيسعى بنوع من الهذيان لأن يرمم الغياب بالذكريات، كما سينقذه المكسيكي خوان رولفو في روايته "بيدرو بارامو" من جحيم الفقدان، حيث يخاطب الأحياء الأموات، وكأن أرواح الموتى ما تزال تحوم في المكان.

وكان التمرين الأول للراوي استحضار روح الأم بتنويعات مختلفة تمتص طبقات الألم، كما سيحمي خطواته خاتمها الفضة بوصفه تميمة نفيسة.

  • ما دمت قد ذكرت رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو الذي اقتفى فيها آثار الموتى مستحضرا بشكل ما أرواحهم وذاكرتهم، فأنت أيضا حاولت اقتفاءهم لكن دون أي رغبة ظاهرة في الإمساك بهم، وكأنك باستحضارهم أردت استحضار الموت بذاته والكشف عن وجهه بلا قناع. كل هذا القتل والتدمير الحضاري في الرواية، أكان رغبة في تصوير الواقع كما هو، أم محاولة لتقديمه خارج "الكليشيهات" المعتمدة إعلاميا؟

كنت أرسم خريطة لموتاي في مسعى لإعادة الاعتبار لأرواحهم، والندوب التي تركوها في غيابهم، مستعينا بنصوصهم، وإذا بمحمود درويش يلعب النرد مع إدوارد سعيد، وشاعر آخر يعتلي خزان مياه لقراءة أشعاره.

أرسم خريطة لموتاي في مسعى لإعادة الاعتبار لأرواحهم، والندوب التي تركوها في غيابهم، مستعينا بنصوصهم.

وستحضر ثيمة الموت لتشريح طوبوغرافيا المدينة في تحولاتها التراجيدية. وبعبارة أخرى، فإن تحديقة الراوي تنطوي على قراءة مضادة للكارثة بما يتجاوز الصورة التي استهلكتها الشاشات ومرضى الميديا، والالتفات إلى الطعنات اللامرئية التي قادته إلى الاحتضار أخيرا، تحت وطأة عداد الموتى الذي يعمل بجد، وعزلة كوفيد-19، نحو العتمة التامة، ونوبات الهذيان، واللاأمل.

  • تكاد تكون "احتضار الفَرَس" فلتة سردية مختلفة عن مدونة صويلح الروائية، فنحن لم نقرأ لك من قبل عملا بمثل هذه القتامة والسوداوية، ولم نعتد على أبطال أعمالك أن يكونوا مجرد عين ترصد وتسجل ما حدث ويحدث دون أن تعتريها أي رغبة في قلب الطاولة. . هل كانت تلك طريقتك في التخلص من الوجع المزمن لتنقله إلى قرائك؟

لا أظن أن لديّ -كشخص عاش الحرب وجها لوجه- رفاهية الكتابة عن أغراض أخرى، لذلك كان الراوي يدعو إلى ضرورة اختراع كافكا آخر، لتدبير وليمة الهلاك هذه، كما سيستدعي جورج أورويل وفرناندو بيسوا، والمعري وابن عربي، كآباء شرعيين في توصيف المشهد.

لا أظن أن لديّ -كشخص عاش الحرب وجها لوجه- رفاهية الكتابة عن أغراض أخرى، لذلك كان الراوي يدعو إلى ضرورة اختراع كافكا آخر، لتدبير وليمة الهلاك هذه، كما سيستدعي جورج أورويل وفرناندو بيسوا، والمعري وابن عربي، كآباء شرعيين في توصيف المشهد.

في هذه الرواية، سعيت إلى لملمة أجزاء الخريطة الممزقة أكثر من عنايتي بمصائر الشخصيات ومكابداتها النفسية، كمن يستعرض شريطا وثائقيا لسنوات الحرب، أو صورة شعاعية لجسد مريض لا شفاء له. لكن الرواية لا تخلو من التماعات شعرية خاطفة تؤججها الذاكرة في لحظة إفلاتها من اللطخات الداكنة فوق قماشة هذه الجدارية، لنقل إنها ضرب من غرنيكا (لوحة جدارية للفنان بابلو بيكاسو استوحاها من قصف غرنيكا في إقليم الباسك) أكثر قتامة وعنفا، ولا وقت للراوي في هشاشته أن يقلب الطاولة أو حتى يبدل ماء المزهرية، بعد أن هجرته حبيبته إلى أحضان جنرال متسلط.

في هذه الرواية سعيت إلى لملمة أجزاء الخريطة الممزقة أكثر من عنايتي بمصائر الشخصيات ومكابداتها النفسية، كمن يستعرض شريطا وثائقيا لسنوات الحرب، أو صورة شعاعية لجسد مريض لا شفاء له.

هكذا انتصر الجنرال على المثقف، والبرابرة على صناع الجمال، والدهماء على النخب. وتاليا، فإن الراوي لا يتكئ على شعارات براقة أو حالة اصطفاف بقدر انهماكه في رصد كيفية تظهير صورة أصلية للمكان تبعا لسيرة المصور الفوتوغرافي، وكيف تحول حوض تظهير الصور إلى "بانيو" للرغبة والشهوات، كما أن الراديو المعطل سيكتفي ببث بيانات الانقلابات العسكرية المتلاحقة كصورة عن التاريخ المعاصر للبلاد.

والحال لا مكان للمثقف فعليا في وليمة الوحوش، أكثر من تشذيب اللغة من الأعشاب الضارة، وتدوين الوقائع كشاهد غير محايد على زمنه.

  • يقول الكاتب الأميركي بول أوستير إن "الكتب لا توقف الرصاص ولا تمنع القنابل من الانفجار"، ألا تعتقد أن على الكاتب أن يفكر بالعكس تماما وهو يسرد مأساة الحرب، أم عليه فقط أن يكون شاهدا صامتا على واقع قد لا يرغب فيه ولكنه يكتب مضطرا عنه؟

شخصيا، أظن أن على المثقف أن يعمل في حقله الإبداعي بكامل عتاده، متسلحا بـ"كيبورد" وشاشة مضيئة، وأن يحرث البياض بعمق خارج الزعيق الأيديولوجي بقصد اكتشاف الورم لا علاجه.

على المثقف أن يعمل في حقله الإبداعي بكامل عتاده، متسلحا بكيبورد وشاشة مضيئة، وأن يحرث البياض بعمق خارج الزعيق الأيديولوجي بقصد اكتشاف الورم لا علاجه.

ما هو مطلوب من السرد اليوم، ثورة لغوية أولا، ورافعة جمالية تضع البلاغة في موقع لائق، أما ادعاء المواقف وحده فلن يثمر إطلاقا. ما فائدة أن تكون "ثوريا" بوعاء سردي ركيك؟ مهمة الروائي اليوم أن يشتغل مؤرخا وعالم اجتماع في آن واحد، أما أن يرتدي الكاكي ويقفز إلى الخنادق، فسيضرّ بالرواية مثلما سيصيب المتلقي بالصداع.

المصدر : الجزيرة