الحيرة عاصمة المناذرة.. أول ممالك العرب قبل الإسلام وشاهد بارز على حضارتهم

أهمية آثار الحيرة تكمن في كونها توثق لمملكة عربية عراقية قديمة تمتد ما بين هيت والأنبار شمالا إلى الخليج العربي جنوبا، وما بين نهر الفرات شرقا وحافات الصحراء غربا.

الحيرة واحدة من أهم الحواضر في تاريخ بلاد الرافدين والوجه الحضاري الأبرز للعرب قبل الإسلام - الصحافة العراقية
الحيرة امتلكت في أوج ألقها كل مقومات الحداثة في ذلك الوقت من خلال التنوع الاقتصادي والحريات والانفتاح على العالم القديم (الصحافة العراقية)

النجف- تُعد مملكة الحيرة عاصمة المناذرة واحدة من أهم الحواضر في تاريخ بلاد الرافدين، واستمرت في الحفاظ على ازدهارها ومكانتها السياسية، حتى باتت الوجه الحضاري الأبرز للعرب قبل الإسلام.

وامتلكت الحيرة في أوج ألقها كل مقومات الحداثة والعصرنة في ذلك الوقت من خلال التنوع الاقتصادي والحريات والانفتاح على العالم القديم، إضافة إلى الأنظمة والقوانين والمؤسسة العسكرية المميزة.

كانت الحيرة تتمتع بازدهار ملحوظ لاسيما في التجارة والزراعة والصناعة والحركة العمرانية - الصحافة العراقية
كانت الحيرة تتمتع بازدهار ملحوظ لا سيما في التجارة والزراعة والصناعة والحركة العمرانية (الصحافة العراقية)

تأسيسها وموقعها

هذه الحضارة حيرت -منذ نشأتها- المؤرخين حول أسباب اندثارها وزوالها، فقد قيل إنها نشأت في نهاية القرن الثاني الميلادي، إذ أسس الملك التنوخي جذيمة بن الأبرش مملكة عربية في تلك المنطقة وعُرف ملوك الحيرة باللخميين، وعرفوا أيضا بـ"النعامنة" وبـ"المناذرة"، بسبب شيوع اسم النعمان واسم المنذر، بحسب الكاتب علي قاسم الكعبي.

الكعبي: الحيرة بدأت كمدينة صغيرة ثم مرت بمراحل ازدهار على مر العصور - الجزيرة نت
الكعبي: الحيرة بدأت مدينة صغيرة ثم مرت بمراحل ازدهار على مر العصور (الجزيرة)

ويضيف الكعبي -للجزيرة نت- أن الحيرة تقع في إحدى مدن العراق الجنوبية وتحديدا في السهل الرسوبي لبلاد ما بين النهرين، شمال غرب بادية السماوة، وتبعد عن مدينة الكوفة مسافة 15 كيلومترا، ونحو 10 كيلومترات جنوب شرقي مدينة النجف.

وعن سبب تسميتها، يبيّن الكعبي وجود آراء متعددة، حيث قيل إن العرب آنذاك هم من أطلق هذا الاسم وهو بمعنى الحيرة أو الضلال، لكن هناك من يقول إن لفظ الحيرة لفظ سرياني مأخوذ من كلمة "حرتا" والتي تعني الحصن، لافتا إلى أن مدينة الحيرة بدأت صغيرة كباقي المدن، ثم مرت بمراحل ازدهار على مر العصور لا سيما خلال عهد دولة المناذرة.

وحول طبيعة سكان الحيرة آنذاك يقول الكاتب الكعبي إنهم ينقسمون إلى 3 أقسام، أولهم تنوخ، وهم من العرب الذين نزحوا من بلاد البحرين، وثانيهم العباد، وهم سكان أصليون في منطقة الحيرة. أما القسم الثالث، فهم الأحلاف، وأصولهم عربية، هجروا بلادهم لأسباب عديدة، وجاؤوا إلى تنوخ والعباد، وارتبطوا معهم برباط حلف، فأطلق عليهم اسم "الأحلاف".

الأدهمي أكد أن الحيرة كانت من المراكز الحضارية المهمة في عهد المناذرة (الجزيرة)

أهميتها

تعد مملكة المناذرة في الحيرة واحدة من الممالك العربية الثلاث التي ظهرت في بلاد الرافدين قبل الإسلام، إلى جانب مملكة ميسان ومملكة الحضر، وتقع آثار الحيرة اليوم على مسافة 7 كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من مدينة النجف، وقد أصبحت الحيرة عاصمة لمملكة المناذرة العرب الذين نزحوا من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين، وحكموها مدة 365 عاما تقريبا، بحسب أستاذ التاريخ الدكتور محمد مظفر الأدهمي.

ويبيّن الأدهمي للجزيرة نت أن ملوك الحيرة اضطروا إلى التحالف مع الساسانيين الفرس الطامعين بأرضهم، لأن الحيرة لها موقع إستراتيجي يتحكم بخطوط القوافل مما يمكن الفرس من تصريف بضائعهم على طرق التجارة بكل سهولة، وكذلك لجعل مملكة المناذرة درع لهم من هجمات الروم عليهم، فساعدهم هذا التحالف مع الساسانيين الفرس في تقوية نفوذهم على القبائل في العراق.

وينوه الأدهمي إلى أن الحيرة كانت من المراكز الحضارية المهمة في عهد المناذرة، وكانت منبعا للفكر والمعرفة وزخرت بمعاهد العلم ومدارسه في العديد من العلوم وفي مقدمتها الطب والشعر والأدب.

المعموري لفتت إلى أن الحيرة اشتهرت بالصناعات الماهرة مثل الخزف والأسلحة والمنسوجات والحلي والآلات الزراعية - الجزيرة نت
المعموري: الحيرة اشتهرت بمهارة صناعها الذين برعوا في شتى المجالات (الجزيرة)

ازدهار وتقدم

شهدت الحيرة ازدهارا ملحوظا في التجارة والزراعة والصناعة والحركة العمرانية وذلك بفضل موقعها الفريد على نهر الفرات، كما تقول الأكاديمية والباحثة في التراث الدكتورة فاطمة عباس المعموري.

وتضيف المعموري للجزيرة نت أن الحيرة اشتهرت بمهارة صُنّاعها الذين برعوا في شتى المجالات، مثل صناعة الخزف والأسلحة والمنسوجات والحلي والآلات الزراعية وغيرها من الصناعات.

وعن ازدهار الحركة العمرانية تتحدث المعموري عن براعة المعمار المناذري في التصاميم المعمارية خاصة بالقصور والأديرة، وكان طراز البناء الحيري طرازا قائما بذاته وقد ظل لبناء القصور معروفا في العصر الإسلامي، وكان المناذرة قد اختاروا أحسن الأماكن لبناء قصورهم. وتشير المعموري إلى أن فن الطراز الحيري يتميز بإضافة 3 قبب متجاورة في مركز المبنى، ويجعلون في حيطان أديرتهم الفسيفساء وفي سقوفها الذهب والصور.

من جانبه، يذكر الأدهمي أن صناعة الحيرة بلغت درجة كبيرة من المهارة والإتقان حتى أصبحت كثيرا من الصناعات تنسب للحيرة، ومنها صناعة السلاح وقد اشتهرت الحيرة بسيوفها وسهام ونصال الرماح، ولذلك كان جيشها قويا مسلحا بأفضل المعدات الحربية.

كما اشتهرت الحيرة بصناعة الآلات الموسيقية والتحف المعدنية والحلي وأدوات الزينة الذهبية والفضية المرصعة بالجواهر، إضافة إلى صناعة النسيج خصوصا نسج الحرير والكتان والصوف، والتطريز بخيوط الذهب.

ويتابع الأدهمي بالقول "اهتم المناذرة بالتجارة من خلال حماية القوافل، كما سهّل نهر الحيرة المتفرع من الفرات التجارة البحرية، فكانوا يركبون بالقوارب حتى يبلغوا ميناءهم في الأُبلة على الخليج العربي، ليركبوا من هناك السفن الضخام ويجوبوا البحار إلى الهند والصين ".

النوري: الحيرة واحدة من أبرز المواقع الأثرية وأهمها وفيها آثار وقصور عريقة - الجزيرة نت
النوري: الحيرة واحدة من أبرز المواقع الأثرية في العراق والمنطقة، وفيها آثار وقصور عريقة (الجزيرة)

آثار ماثلة

وتعتبر مدينة الحيرة واحدة من أبرز المواقع الأثرية وأهمها في العراق والمنطقة، وفيها آثار وقصور عريقة، بحسب أستاذ التاريخ القديم المساعد الدكتور ميثم النوري.

وفي حديثه للجزيرة نت يقول النوري إن من أبرز آثار الحيرة قصر الخورنق؛ وهو القصر الذي بناه الملك النعمان بن المنذر، وأما القصر الثاني فهو قصر السدير وقيل سمي بذلك لكثرة سواده وشجره، ومن قصورها أيضا القصر الأبيض الذي يعرف أيضا بأبيض النعمان، وقصر السندان، وقصر الزوراء وقصر العدسيين الكلبيين، وقصر العذيب، وقصر بني بقيلة التي ينسب بناؤه لعبد المسيح الغساني، وغيرها من القصور التي بنيت في الفترة الإسلامية، كما حوت أكثر من 30 ديرا (مكان عبادة المسيحيين).

بدوره يرى الأستاذ الدكتور حسين أحمد الباوي أن أهمية آثار الحيرة تكمن في كونها توثق لمملكة عربية عراقية قديمة تمتد ما بين هيت والأنبار شمالا إلى الخليج العربي جنوبا، وما بين نهر الفرات شرقا وحافات الصحراء غربا.

وخلال حديثه للجزيرة نت يحذر الباوي المتخصص بتاريخ الآثار من المخاطر والتحديات التي تواجه آثار الحيرة اليوم، مثل التعرية الناتجة عن الأمطار والرياح، وعبث العابثين الذين يرومون الحصول على آثار لغرض الانتفاع الشخصي، وتكمن أهمية الحفاظ على ما تبقى من آثار الحيرة والتي كشفتها التنقيبات الأثرية من خلال صيانتها والمحافظة عليها.

أما فيما يخص عمليات التنقيب، فيؤكد الباوي بأن الدولة العراقية تخطط لكشف أسرار تلك المواقع الأثرية لأهميتها، وبلا شك أن عمليات التنقيب ستكشف أسرارا أخرى لمدينة الحيرة وغيرها.

المصدر : الجزيرة