أقدم المدافع الجزائرية إبان العهد العثماني.. مدفع "بابا مرزوق" ومطالبات باسترداده من فرنسا

يرى حسين عبد الستار، المؤرخ الجزائري المختص في قضايا الذاكرة، أن المدفع ليس مجرد قطعة سلاح، بل له عمق تاريخي، عسكري وإستراتيجي بالغ الأهمية، فقد ارتبط اسمه بتاريخ الجهاد البحري للجزائريين، ويعد رائد المدافع التي أنجزتها دار النحاس بالجزائر

مدفع بابا مرزوق المقلَّد أنجزته قوات البحرية الجزائرية في الذكرى الـ50 للاستقلال عام 2012 (الجزيرة)

الجزائر- تشكل استعادة مدفع "بابا مرزوق" أحد أهم القضايا المطروحة ضمن مطالب تسوية الذاكرة بين الجزائر وباريس، بعد نجاحها مؤخرا في استرجاع جماجم ورفات شهداء المقاومة الشعبية في 5 يوليو/تموز 2020.

وكانت وزيرة الثقافة والاتصال الفرنسية سابقا، فلور بليران، أعلنت في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2015، عقب اجتماعها المغلق برئيس الحكومة الجزائرية وقتها، عبد الملك سلال، أن "مدفع بابا مرزوق التاريخي يعد من أبرز مطالب السلطات الجزائرية، وقد تم تحديد ورقة (خارطة) طريق تقضي بإرجاعه"، لكن حتى الآن ما يزال الملف يراوح مكانه.

وفي آخر تصريح رسمي بهذا الخصوص، جدد وزير المجاهدين في الجزائر، العيد ربيقة، التأكيد مرة أخرى، عزم بلاده على استرجاع "كل تراثها التاريخي والثقافي من الخارج، وعلى رأسه مدفع بابا مرزوق، تجسيدا لالتزامات رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون"، فما قصة هذا المدفع الذي ينعته الجزائريون بفيلق الحق وراجم العدوان؟

جهاد وبطولة

لقد تعلق اسم المدفع الشهير بتاريخ الجهاد البحري للجزائريين في الفترة ما بين القرنين الـ16 والـ19 الميلاديين، إذ يصنفه المؤرخون ضمن أقدم المدافع الجزائرية إبان العهد العثماني (1518-1830).

وتشير مصادر متواترة إلى أن صناعة المدفع كانت بأمر من الحاكم العثماني في الجزائر، باي حسن آغا، في عام 1542، تحت إشراف المصمم الإيطالي، سيباستيانو كورنوفا، بمصنع الأسلحة "دار النحاس" في الجزائر العاصمة.

ويسجل أبو القاسم سعد الله، شيخ المؤرخين الجزائريين كما يلقب، أن "المدفع ظل منتصبا كالنسر الجبار على باب الجهاد المطل على البحر في الجزائر، بينما سماه الفرنسيون القنصل (consulaire)، وكانوا يرتعدون منه إذا ذكر لهم".

وزارة المجاهدين تؤكد عزم الجزائر استرجاع كامل تراثها التاريخي والثقافي دون تنازل (الجزيرة)

وعن سبب الذعر الفرنسي من المدفع قبل الاحتلال، قال سعد الله في موسوعة الحركة الوطنية الجزائرية، إن الجزائريين في الماضي كانوا قد وضعوا في فوهته قنصل فرنسا (لوفاشي) سنة 1663، وقصفوه به إلى البحر، ثم كرروا ذلك مع خليفته (بيول) سنة 1688، أثناء قصف دوكيني، قائد أسطول لويس الرابع عشر، مدينة الجزائر، مثلما تثبته الروايات الفرنسية نفسها.

ولذلك كان من أوائل ما اتخذه الفرنسيون من إجراءات عقب دخولهم الجزائر، هو نقل مدفع بابا مرزوق إلى فرنسا، وقد يظهر لك هذا أمرا بسيطا، ولكننا نعتقد أن المدفع كان يرمز إلى أشياء كثيرة، إنه قبل كل شيء رمز الذكورة والقوة، ونقله، بالإضافة إلى أنه لصوصية عسكرية وثقافية، كان يعني خلو الجزائر من رمزها الأقوى والأكثر فحولة، والكلام للمؤرخ سعد الله (1930-2013).

ويوثق سعد الله أن الفرنسيين سارعوا إلى إزالة بابا مرزوق من مكانه وحملوه إلى بريست على المحيط الأطلسي ونصبوه هناك في إحدى الساحات بتاريخ 23 يوليو/تموز 1833 إلى اليوم، كجزء من غنائم الحملة على الجزائر.

خصوصية استثنائية

من جهته، أكد حسين عبد الستار، المؤرخ الجزائري المختص في قضايا الذاكرة، أن مدفع بابا مرزوق هو سيد مدافع الجزائر المحروسة ومفخرة وطنية ورمز يعكس قوة البحرية الجزائرية في المتوسط وسر هيبتها، فقد "مثل قطعة ثمينة لها تاريخ حافل بالمجد والقوة، أبقت مدينة الجزائر قلعة حصينة ضد الغزاة الصليبيين لمدة 3 قرون".

وقال في تصريح للجزيرة نت إن المدفع ليس مجرد قطعة سلاح، بل له عمق تاريخي، عسكري وإستراتيجي بالغ الأهمية، فقد ارتبط اسمه بتاريخ الجهاد البحري للجزائريين، ويعد رائد المدافع التي أنجزتها دار النحاس بالجزائر.

وأوضح أنه صنع من مادة البرونز، طوله 7 أمتار ووزنه 12 طنا، ويقذف إلى مسافة تتجاوز 5 كيلومترات، فهو "أكبر مدفع في العالم حينها، وبفضله ذاع صيت البحرية الجزائرية حتى بلغت شهرتها المدى".

حسين عبد الستار: المدفع ألحق خسائر جسيمة بفرنسا والغزاة الأوروبيين قبل الاحتلال لذلك له خصوصية استثنائية (الجزيرة)

وقد نجح المدفع في إلحاق خسائر جسيمة بفرنسا والغزاة الأوروبيين في معارك كثيرة قبل الاحتلال، لذلك له خصوصية استثنائية، بحسب المتحدث، فقد كان بمثابة الحامي لمدينة الجزائر، بل وشكل إضافة نوعية للنظام الدفاعي الجزائري، نظرا لمداه وقوته التدميرية.

ونعت المؤرخ الجزائري المدفع المذكور بالإنجاز العسكري الذي قلما ازدانت به ورش الصناعات الحربية في حوض المتوسط.

وشدد على أن استعادة مدفع بابا مرزوق يدخل ضمن استرجاع التراث الثقافي والتاريخي للجزائر، لأن الأمم تسجل ذاكرتها بالرموز الدالة على عظمتها، تعتمد عليها وتستأنس بها في التغلب على مشاكل الحاضر وتحديات المستقبل، على حد تعبيره.

موقف القانون الدولي

من جانب آخر، يثير الحقوقي كمال فيلالي، الخبير لدى الأمم المتحدة في القانون الدولي، الإشكالية القانونية المطروحة بشأن مدفع بابا مرزوق، متسائلا: هل كان الاستيلاء على المدفع قانونيا كما تزعمه فرنسا؟ وما موقف القوانين الدولية التي كانت سائرة المفعول من أجل حماية التراث التاريخي والثقافي للدول في حالة الغزو والتدخل الاستعماري؟

وقال فيلالي إن فرنسا تعتمد على عدم وجود قوانين مكتوبة سنة 1830، متناسية أن القانون الدولي العام يدل على وجود فرعين، القانون الدولي العرفي والقانون الاتفاقي.

وأضاف في تصريح للجزيرة نت أن تاريخ القانون الدولي أبرز وجود ممارسات من طرف الدول خاصة الأوروبية، وكذلك آراء فقهاء أكدت عدم شرعية الغنيمة، حيث ركزوا على ضرورة إرجاع هذه الأخيرة إلى أصحابها، وهذا "ما يؤدي إلى إبعاد الدفع المتعلق بعدم وجود قوانين خاصة بالإشكالية القائمة".

واستشهد فيلالي كذلك، وهو نائب رئيس سابق في لجنة الاتحاد الأفريقي للقانون الدولي، بقانون فرنسيس ليبر حول تصرف العسكريين في النزاعات المسلحة، والذي نشأ في 1863 بتكليف من الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن، لمنع التسلط وسياسة الغنائم أثناء الحروب.

ويؤكد مؤتمر لاهاي الأول في 1899 المنع المقترح في القانون العرفي الدولي والتطور في قانون الحرب، مثلما جاء مؤتمر لاهاي الثاني في 1907 بالنتائج ذاتها سابقة الذكر.

وبعد الحرب العالمية الثانية، يقول فيلالي، صنفت محكمة نورمبيرغ في 1945 النهب والاستيلاء على الممتلكات التاريخية والثقافية كجرائم حرب، والمنحى نفسه أخذته اتفاقيات جنيف في 20 أغسطس/آب 1949، والبروتوكولان الإضافيان في 1977، وكذلك اتفاقية لاهاي في 1954 وبروتوكولها الأول، وهي أول اتفاقية خاصة بحماية الممتلكات في النزاعات المسلحة.

ويرافع فيلالي عن حق الجزائر في استرجاع المدفع استنادا إلى اتفاقية روما المؤرخة في 17 يوليو/تموز 1998، والتي تؤكد منع الاستيلاء وسرقة الملكية التاريخية والثقافية، كما أنها تمنع سياسات الغنائم.

وتبين الاجتهادات القضائية مؤخرا منع فكرة الاستيلاء والنهب وتهديم الرموز التاريخية والثقافية، وهذا ما رآه العالم في قضية أحمد الفاقي المهدي، المؤرخة في مايو/أيار 2019.

التفاوض والقضاء

وأوصى فيلالي بإعطاء الأولوية للمفاوضات بين الدولتين الفرنسية والجزائرية، من أجل استرجاع مدفع بابا مرزوق.

وفي حال فشل التفاوض، يمكن للمنظمات غير الحكومية رفع دعوى إدارية ضد ولاية فينستير الفرنسية، للمطالبة باسترجاع مدفع بابا مرزوق الموجود في بريست، أي داخل إقليمها، موضحا أن "هذه الدعوى ترمي إلى عرض النزاع لاحقا على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان كآخر إجراء".

كما يقترح الخبير القانوني الأممي رفع دعوى رسمية من طرف الدولة الجزائرية ضد الدولة الفرنسية أمام محكمة العدل الدولية.

المصدر : الجزيرة