ماذا سيكون رأي الإغريق القدماء في إقامة الألعاب الأولمبية دون مشجعين؟

لا يمكن الفصل بين الأولمبيات اليونانية والتجربة الدينية في نظر اليونانيين القدماء، ويعد المسافرون إلى أولمبيا من جمهور ورياضيين بمثابة حجاج متجهين نحو مكان مقدس، أما اليوم فيمكن أن تقام دورة الألعاب الأولمبية في أي مدينة تختارها اللجنة الأولمبية الدولية، في حين كانت الألعاب القديمة تقتصر على مكان واحد فقط في غرب اليونان

Around The Games - Olympics: Day 2
لم تكن الألعاب الأولمبية في اليونان قديما تتمحور حول الرياضيين لوحدهم وإنما كان قلب وروح المهرجان يكمن في التجربة التي يتشاركها الحاضرون (غيتي)

نظرا للارتفاع الحاد في عدد الإصابات بفيروس كوفيد-19 فإن دورة الألعاب الأولمبية تقام دون جماهير، ويشارك الرياضيون في الفعاليات المختلفة في ساحات صامتة تفتقد مئات الآلاف من المشجعين من جميع أنحاء العالم، والذين دفعوا ما يعادل 815 مليون دولار مقابل تذاكر لم يعد لها أي معنى.

وكانت بداية الألعاب الأولمبية في اليونان وبالتحديد عام 776 قبل الميلاد، لكنها توقفت لمئات السنين، قبل أن يحييها أحد النبلاء الفرنسيين وهو بيير دي كوبيرتان في أواخر القرن الـ19، ليبدأ عصر جديد للألعاب الأولمبية من خلال الدورات الحديثة.

وأقيمت منافسات الألعاب قديما في واد مليء بالأشجار، حيث أقام الإغريق التماثيل وشيدوا المعابد في بستان خصص لعبادة زوس.

ويرى بعض الباحثين أن الدورة الأولمبية الأولى لم تقم في العام 776 قبل الميلاد، وأنها أقيمت بعدما نظمت هذه الألعاب في البداية من خلال مهرجانات تقام أيضا كل 4 سنوات نتيجة اتفاقية السلام التي وقعت بين مدينتي إيليس وبيزا، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

في هذا التقرير الذي نشره موقع "ذا كونفرسيشن" (The Conversation) الأسترالي، قال أستاذ الكلاسيكيات والأدب المقارن فنسنت فاريناغا إن هذا الوضع يدفعه إلى التساؤل عن رأي الإغريق -الذين اخترعوا الألعاب الأولمبية قبل ما يقارب 3 آلاف عام- في هذه النسخة من مهرجانهم الأولمبي، ومن المرجح أنهم سيجدون ذلك أمرا غير معقول على الإطلاق، بحسب الكاتب.

في اليونان القديمة لم تكن الألعاب الأولمبية تتمحور حول الرياضيين لوحدهم، وإنما كان قلب وروح المهرجان يكمن في التجربة التي يتشاركها جميع الحاضرين كل 4 سنوات، كان الرياضيون والمشجعون في ذلك الوقت يسافرون من جميع أنحاء العالم الناطق باللغة اليونانية إلى مدينة أولمبيا وكلهم شوق للقاء أبناء وطنهم والتماس آلهتهم.

في ظلال الأحلام

على مدار 5 أيام في أواخر الصيف كان الإغريق يقيمون الأولمبياد كمهرجان يجمع بين عالمين في أولمبيا، وهما عالم الحياة اليومية بحدوده البشرية، والعالم الخارق للطبيعة من الأيام التي كانت فيها المخلوقات الخارقة والأبطال والآلهة تجوب الأرض.

كما هو الحال اليوم كانت ألعاب القوى اليونانية تنطوي على مشاركة الرياضيين في عروض تدفع جسم الإنسان إلى نقطة الانهيار.

لكن الإغريق كانوا على اعتقاد بأن المنافسة يمكن أن تخلق فرصة للمرور بلحظات روحانية يتواصل فيها البشر العاديون مع المخلوقات الخالدة ولو لفترة وجيزة، ولا يمكن حدوث ذلك إلا بوجود شهود حاضرين جسديا لينخرطوا أيضا في اللحظة التي تقشعر لها الأبدان.

باختصار، لا يمكن الفصل بين الأولمبيات اليونانية والتجربة الدينية في نظر اليونانيين القدماء، ويعد المسافرون إلى أولمبيا من جمهور ورياضيين بمثابة حجاج متجهين نحو مكان مقدس، أما اليوم فيمكن أن تقام دورة الألعاب الأولمبية في أي مدينة تختارها اللجنة الأولمبية الدولية، في حين كانت الألعاب القديمة تقتصر على مكان واحد فقط في غرب اليونان.

ومع ذلك، لم تكن جميع الفعاليات تقام في ملعب أولمبيا الذي يتسع لـ40 ألف متفرج أو في ساحات الملاكمة والمصارعة، بل في بستان "ألتيس" المقدس، حيث يقال إن البطل الإغريقي هرقل قام ببناء مذبح للإله زيوس وقدم له تضحية لأول مرة.

في مساء اليوم الثاني من الألعاب يتجمع الآلاف في ألتيس لإعادة تمثيل طقوس جنازة بيلوبس البطل البشري الذي تسابق ذات مرة في عربة للفوز بابنة زعيم محلي، لكن التضحية الكبرى تقدم صباح اليوم الثالث في مذبح زيوس العظيم، حيث يتم ذبح 100 ثور وحرقها لتصل إلههم الإغريقي.

خلال الفعاليات الأولمبية كان الرياضيون الإغريق يتنافسون عراة تشبها بشخصيات بطولية مثل هرقل وثيسيوس وأخيل الذين تجاوزوا جميعا الخط الفاصل بين البشر وأصحاب القوى الخارقة، وكان امتناع الرياضيين عن ارتداء الملابس يعد بمثابة تصريح علني للجماهير بأنهم يأملون في إعادة الاتصال مع عالم الآلهة، بحسب معتقداتهم القديمة.

الحس التشاركي والمجتمع

عاش الإغريق في ما بين 1500 إلى ألفي دويلة عبر مناطق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، ونظرا لأن السفر البحري في الصيف كان الطريقة الوحيدة لعبور هذه الشبكة الجغرافية كانت الألعاب الأولمبية تمثل فرصة ليوناني يعيش في جنوب أوروبا وآخر مقيم في ما تسمى حاليا أوكرانيا الحديثة، للتفاعل لفترة وجيزة في مهرجان لا يحتفي فقط بالآلهة والأبطال، وإنما أيضا باللغة والثقافة اليونانية التي ينتمون إليها.

وإلى جانب الرياضيين كان الشعراء والفلاسفة والخطباء يجتمعون لتقديم عروض شتى أمام حشود ضمت سياسيين ورجال أعمال، وحضور مهرجان رياضي ديني مثل الأولمبياد من شأنه أن يحول المشاهد العادي إلى شاهد مهم لحدث مقدس، وسفير يبلغ الوطن عن العجائب التي رآها في الخارج، لذلك من الصعب تخيل أن تتمكن صور تلفزيونية منقولة من طوكيو من تحقيق غايات مماثلة.

وبغض النظر عن عدد الأرقام القياسية العالمية المحطمة والإنجازات غير المسبوقة التي تم تحقيقها في ألعاب 2020 فإن الساحات الفارغة لن تجذب آلهة أو أبطالا حقيقيين حسب معتقدات الإغريق حتى لو كسبت بعض الدول ميداليات وخسرت أخرى.

الأولمبياد قديما

كان الفلاسفة والشعراء والكتاب يلتحمون مع المقامرين والباعة المتجولين والموسيقيين والراقصين لحضور ألعاب لمدة 5 أيام في فصل الصيف.

وكان من المظاهر اليومية في دورات الألعاب الأولمبية القديمة الاحتفالات الدينية، من تقدمة قرابين، وموسيقى، وعروض مسرحية، وخطب للفلاسفة المشهورين، وإلقاء شعر، ومواكب، وولائم، واحتفالات بالفوز، بحسب تقرير سابق للوكالة الألمانية.

وآنذاك لم تكن فرق رياضية أو جوائز للمركز الثاني، ولم يكن للنساء أن يشاهدن المسابقات الرياضية أو يشاركن فيها، أما الرجال فكانوا يخوضون المنافسات من دون ملابس ويعاقب الخاسر بالجلد.

أما الفائزون فكانوا يحظون بتاج من أغصان الزيتون كجائزة رئيسية، ويحصلون كذلك على وجبات لبقية حياتهم وأموال نقدية وإعفاء من الضرائب، إضافة إلى تعيينهم في وظائف قيادية، وتخليد ذكراهم في قصائد وتماثيل.

ويقول مدير مركز أبحاث الآثار اليونانية والرومانية في مؤسسة البحث القومي باليونان ميلتياديس هاتزوبولوس "كان الأولمبياد القديم مختلفا عن الدورات الأولمبية الحديثة، وكانت المسابقات الرياضية أقل كثيرا، وكان يسمح بالمشاركة فيها فقط للأحرار الذين يتحدثون اليونانية وليس للاعبين الذين يمثلون دولا بعينها".

وكان المتبارون يصلون إلى جبل أولمبيا ويتدربون شهرا، وعليهم أن يجتازوا اختبارا أمام لجنة من 10 أعضاء تقيمهم وفقا لأنسابهم وشخصياتهم وقدراتهم البدنية.

واكتشف علماء الآثار والمؤرخون أن المتبارين في الأولمبياد القديم كانوا يتعاطون منشطات تحسين الأداء التي تعد من المشاكل في أولمبياد هذه الأيام، فقد كان اللاعبون يستنشقون دخان أوراق الغار المغلية لتخليص أجسامهم من الشعور بالتعب، مما يمكنهم من المشاركة في أكثر من منافسة رياضية.

ومن الرياضات العنيفة التي شاعت في الأولمبياد القديم الملاكمة والمصارعة ورياضة قتالية أكثر عنفا كانت تجمع بينهما سموها "بانكراتيان" لم يكن يحظر فيها شيء إلا العض وقلع العين وخدش الأنف أو الفم بالأظافر، ولم يكن يسمح للمتبارين بأن يلفوا الأيدي والرسغ بشرائط جلدية كما في المصارعة والملاكمة.

ولم تكن مباريات الملاكمين تقسم في جولات، بل كان النزال يستمر حتى يسقط أحد المتبارين أو يعلن هزيمته.

وكانت الغرامة المالية تفرض على كل شخص يثبت عليه الغش، وتجمع الأموال من الغرامات لتنفق في بناء تماثيل برونزية لزيوس تنتشر على الطريق المؤدي إلى الملعب.

وكانت هذه التماثيل تحمل رسائل لوصف المخالفات التي ارتكبها اللاعبون، في تذكير لهم بأن الفوز يأتي بالمهارة وليس المال، إضافة إلى التأكيد على الروح الأولمبية "بتقوى الآلهة" والمنافسة الشريفة.

وفي عام 393 ميلادي قرر الإمبراطور الروماني المسيحي ثيودوسيوس الأول إلغاء الأولمبياد، وأمر بإغلاق جميع الطوائف والمراكز الوثنية.

المصدر : الجزيرة + ذا كونفرسيشن + وكالة الأنباء الألمانية