علماء الآثار يكتشفون الأقبية البيزنطية القديمة في إسطنبول

تحيط العديد من الأساطير بالعالم السفلي لإسطنبول، الذي يقال إنه مملوء بالأنفاق السرّية، ويُعتقد أن إمبراطورا بيزنطيا كانت له أنفاق سرية تربط بين قصره وآيا صوفيا وساحة الهيبودروم التي كانت ميدان سباق الخيل في العصر البيزنطي وذلك حتى يتمكن هو وحاشيته من الظهور في الأماكن دون حاجة إلى التجول في الشوارع.

صهريج البازيليك يعود تاريخه إلى القرن السادس الميلادي وهو أكبر خزان أرضي من مئات الصهاريج القديمة الواقعة تحت مدينة إسطنبول (غيتي)

تحت جوامع وأسوار وبيوت مدينة إسطنبول العريقة تقع شبكة من خزانات المياه والممرات والدهاليز السرّية التي تروى عنها العديد من الأساطير والأفلام السينمائية والأعمال الأدبية، وتعود كثير من تلك الخزانات والممرات التحتية إلى زمن البيزنطيين حيث خصصت لسقاية أهل المدينة بالمياه.

وفي هذا التقرير الذي نشره موقع "الإذاعة الوطنية العامة" الأميركية (NPR) تحدثت المراسلة دوري بوسكيرن عن الأقبية البيزنطية الخفية المكتشفة تحت أحياء مدينة إسطنبول العتيقة، التي تمكنت من رؤيتها خلال جولة قادها عالم الآثار التركي فيرودون أوزغوموش.

تحت الأرض

تحت محل لبيع السجاد أراها عالم الآثار التركي هيكلا يشبه الكهف ينزلون إليه بسلم خشبي متداع قائلا "لك أن تتخيلي مدى حماستي عندما رأيت أول مرة هذا المكان، لقد كان ممتلئا بالحطام، وكان علينا الزحف حتى نتمكن من الدخول إليه".

وعلى مدى أكثر من 20 عامًا، طرق أوزغوموش الأبواب في عقارات أقدم أحياء إسطنبول وطلب إلقاء نظرة على الأقبية، وفي عمر 64 سنة كان الأستاذ في جامعة إسطنبول من بين أوائل علماء الآثار في تركيا الذين كرسوا أبحاثهم لدراسة المساحات الموجودة تحت المدينة، وقد تمكن من تحديد موقع أكثر من 300 قبو وهو يعلم أن هناك مزيدا منها، لا يزال يتعين اكتشافها.

وقالت المراسلة إنه بمجرد أن تطأ قدماك الممر المؤدي إلى القبو الموجود تحت محل بيع السجاد تنخفض درجات الحرارة، تتوزع الأقواس التي يبلغ ارتفاعها 20 قدما على الأقل بشكل متساو على امتداد الهيكل، وتتسرب قطرات الماء عبر السقف، وعند إمعان النظر ترى دوائر الطوب الرقيق الذي يشبه لونه الصدأ بالتناوب مع طبقات سميكة من الملاط.

وأوضح أوزغوموش أن ثخانة الطوب وطبقة الملاط بين الطوب وكذلك اللون كلها تدل على تاريخ بناء الهيكل، مشيرا إلى قوس من الطوب المشذب أكد أنه يعود إلى القرن الثاني الميلادي.

ويعتقد أوزغوموش أن هذا الموقع بالذات قد يكون مرتبطًا بقصر مترامي الأطراف بناه قسطنطين العظيم، رابع الملوك الرومان ومؤسس القسطنطينية القديمة، ولكن من الصعب الجزم بذلك.

لقد ضاعت العديد من المعالم التي تعود إلى الحقبة البيزنطية وذكرت في الوثائق الأرشيفية على مر التاريخ، مثل قاعة الاستقبال في قصر قسطنطين الشهير الذي لم يجده أحد إلى الآن. وقال أوزغوموش إن لديهم كثيرا من المصادر الأدبية التي تعود إلى أواخر العصر الروماني ولكن البيانات الأثرية لا تتطابق معها.

وتشير نظرية عمل أوزغوموش، بناء على خصائص الطوب وموقع المحل، إلى أن هذا الهيكل قد يكون قبوا استُخدم للتخزين تحت ما افترض أنه قاعة استقبال القصر، ولكن لا يمكن تأكيد هذه الفكرة إلا بإجراء مزيد من أعمال التنقيب.

عالم آخر ومدينة أخرى

ويوجد في جميع أنحاء إسطنبول قرائن عن نمط عيش سكان العاصمة البيزنطية ونشاطهم وعمارتهم. لقد تماهت المدينة مع محيطها، حتى إن أنقاض حمام روماني قديم أصبحت غرفة تدفئة لمبنى مكتبي حديث، وتحوّل خزان مياه أرضي يعود للقرن السادس مع أعمدة بيضاء إلى محل للمجوهرات، يقول مالكه إن التهوية فيه ليست جيدة ولكنه يبقى دافئا في الشتاء وباردا في الصيف، وبات هيكل كنيسة صغيرة يقبع تحت قبو تابعا لمقهى نرجيلة.

وبعد أن أنهى أوزغوموش دراسة أثرية عام 2010 استمرت 13 عاما لشبه جزيرة إسطنبول التاريخية (الأحياء القديمة داخل السور التي كانت تعرف باسم القسطنطينية)، واصل الباحثون الأصغر سنًّا النسج على خطاه مضيفين مئات المواقع إلى السجل العام.

وتشكل هذه المواقع أساس شبكة صغيرة ولكنها متزايدة من المواقع الأثرية الواقعة تحت الأرض، حيث يؤخذ الزوار في جولات يمرون فيها عبر ممرات ضيقة لرؤية أعمال الطوب القديمة وخزانات المياه والصور الجصية (فريسكو) من الكنائس المنسية منذ زمن بعيد.

وحسب كاتب ومنظم جولات يدعى ياسين كاراباكاك يشارك ما يعثر عليه على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم "الوجه الخفي لإسطنبول، "فإن الوصول إلى الهياكل الموجودة تحت الأرض ليس سهلا لأنها ملكية خاصة". ويضيف أنه يمكن لأي شخص أن يزور آيا صوفيا، ولكن عندما تفتح بابا يؤدي إلى الأسفل تشعر بأنك شخص مميز، كما لو أنه متاح فقط لك. إنه أشبه بعالم آخر أو مدينة أخرى".

أنفاق غير غامضة

وتحيط العديد من الأساطير بالعالم السفلي لإسطنبول، الذي يقال إنه مملوء بالأنفاق السرية.

ويُعتقد أن إمبراطورا بيزنطيا كانت له أنفاق سرية تربط بين قصره وآيا صوفيا وساحة الهيبودروم التي كانت ميدان سباق الخيل في العصر البيزنطي (وأصبحت الآن ساحة وميدان السلطان أحمد) وذلك حتى يتمكن هو وحاشيته من الظهور في الأماكن دون حاجة إلى التجول في الشوارع.

فُقدت العديد من الآثار عندما نُهبت القسطنطينية خلال الحملة الصليبية الرابعة التي دمّرت كثيرا من المعالم البيزنطية في 1204، ولذلك من المنطقي أن يكون قساوسة الكنيسة قد أخفوا تحفا مسيحية في هذه الأنفاق السرية، هذا إن وجدت فعلا، ولكن لم يُعثر عليها قط.

ويقول كاراباكاك إن بعض الأنفاق، مثل تلك المخصصة لعمال التنظيف في قنوات المياه التي بنيت في العهد العثماني، كانت مخصصة لأغراض عادية، ما يعني أن الأنفاق ليست كلها سرية أو لها وظائف سرية، وإنما كانت وظائفها أساسية مثل التنظيف والصيانة.

ويعود الفضل في بقاء هذه الأقبية البيزنطية في إسطنبول إلى قانون الإرث الثقافي في الثمانينيات الذي يسمح للأشخاص بالاحتفاظ بما يجدونه من آثار في ممتلكاتهم دون القلق من أن تصادرها السلطات.

وقد جذبت الآثار الرومانية السياح ومثلت نعمة لكثيرين، في حين كانت مصدر قلق لآخرين ممن لا يزالون يخشون خسارة ممتلكاتهم أو تأجيل أعمال الترميم أو إيقاف البناء بسبب هذه المواقع الأثرية فيختارون التكتم عليها.

نظام تخزين مياه مقاوم للهزات الأرضية

بُني خلال الحقبة البيزنطية نظام لتخزين المياه مكون من خزانات أرضية للمياه التي تنقل عبر قنوات مقنطرة وأقبية تحت المباني العامة وتوفر أماكن تخزين يمكن التحكم في حرارتها.

وأوضح المؤرخ المعماري والمهندس كريم ألتوغ أن خزانات المياه بنيت بطريقة تساعد إمدادات المياه في المدينة على مقاومة الهزات الأرضية، وقد رسم ألتوغ خريطة لمواقع 158 خزان مياه من الحقبة البيزنطية، ويعتقد أنه كان هناك الآلاف منها في القسطنطينية القديمة.

وحسب المؤرخة أرزو أولاس، كان من المنطقي خلال العهد العثماني البناء على هذه الأنقاض وإعادة استعمال الهياكل البيزنطية بدلا من هدمها والبدء من الصفر.

وقام العثمانيون بتمديد وتحسين نظام المياه في القسطنطينية، وكانوا أحيانا يحوّلون خزانات المياه إلى ورشات لغزل الحرير أو تخزين المحاصيل.

وفي وقت لاحق، انهارت بعض الهياكل الفرعية التي كانت بحاجة إلى ترميم أو استُعملت لأنشطة غير قانونية مثل التهريب.

وذكرت أولاس أنها وجدت تحت بعض المساجد ممرات ممتلئة بالمياه وعظام الحيوانات.

لا ينبغي التنقيب عن كل شيء

ويوجد في حي الفاتح بإسطنبول شرفة خلف محل لبائع جلود بالجملة تطلّ على أقواس حجرية يعتقد أوزغوموش أنها بنيت كجزء من قبو تخزين تحت منزل فخم في منتدى ثيودوسيوس، الساحة الرئيسة للقسطنطينية التي تقع حاليا في منطقة لالالي.

ويعتقد أوزغوموش أيضا أن الهيكل الذي يعود للقرن السادس قائم على تيجان أعمدة تعود إلى عهد الإمبراطور البيزنطي جستينيان.

وقد نجت هذه الأقواس من قرون من الزلازل والنيران والتطور الحضري السريع، ولا تزال حتى يومنا هذا تدعم وزن ما بني فوقها، ولكن هذا الموقع عانى التدخلات الخارجية التي شوهته.

ولهذا السبب، يرى أوزغوموش أنه لا ينبغي التنقيب عن كل ما يوجد أسفل أحياء إسطنبول لأن العديد من الحفريات الأثرية أُهملت بعد انتهاء العمل عليها لتُترك في مواجهة أعمال التطوير الحضري، وهو يرى أنه إذا لم يتوفر التمويل الكافي ولم تكن ثمة خطة لحفظ الموقع الأثري فإن من الأفضل أن تبقى محفوظة تحت الأرض.

المصدر : الصحافة الأميركية