رُحّل تونس أوفياء لتاريخهم رغم قسوة الظروف

كان رحّل تونس يسافرون قديما على ضوء قمر الليالي الصيفية والصافية فأُطلق عليهم اسم "نجع قمرة".

منيرة حجلاوي_عبد الحميد حاجي يشرب فنجان شاي بعد يوم عمل شاق تحت خيمته المتواضعة_تونس-قفصة_خاص الجزيرة نت
عبد الحميد حاجي بعد يوم عمل شاق (الجزيرة)

تونس – مع حلول فجر يوم جديد، تنهض حبيبة في الظلام الدامس والسكون يعمّ الأجواء وبعض النجوم مازالت تتلألأ في السماء، تؤدي صلاة الفجر ثم تسارع -وعلى ضوء مصباح صغير- إلى عجن وطهي القليل من الكسرة (نوع من الخبز) على نار الحطب ثم تعدّ ما تيسّر من القهوة تتشاركها مع زوجها.

وبحلول الخامسة صباحا، تغادر وزوجها خيمتهما المتواضعة في منطقة سيدي عيش بمحافظة قفصة (الوسط الغربي) ويُخرجان قطيع الأغنام والماعز من الزريبة لرعيها في الأراضي القاحلة المحيطة بهما.

يعود الزوجان أدراجهما التاسعة صباحا وقد انغرست شمس يوليو/تموز الحارة في كبد السماء وأرسلت أشعتها الحارقة تنذر بيوم شاق وطويل ينتظرهما، على أن يخرجا ثانية الخامسة مساء ويرجعان مع حلول أذان المغرب.

"نجع قمرة"

وحبيبة واحدة من سكان "نجع قمرة" وهم مجموعة من الرحّل التونسيين يتنقلون بين أحواز مناطق البلاد، فيحطّون الرحال صيفا في مواطنهم الأصلية بالوسط والساحل في حين يتوجهون شتاء إلى الشمال الغربي أين تتركز المراعي الخصبة لمواشيهم.

وكان رحّل تونس يسافرون قديما على ضوء قمر الليالي الصيفية والصافية فأُطلق عليهم اسم "نجع قمرة".

منيرة حجلاوي_فاطمة الزهراء تحلم بالاستقرار وبترك حياة الترحال_تونس-قفصة_خاص الجزيرة نت
فاطمة الزهراء تحلم بالاستقرار وترك حياة الترحال (الجزيرة)

توارث سكان النجع تربية ورعي قطعان الإبل والأغنام والماعز عن أجدادهم، ويشكل ذلك مورد رزقهم الوحيد الذي يدرّ عليهم القليل خاصة مع الارتفاع الكبير لأسعار الأعلاف السنوات الأخيرة، كما يؤكد عبد الحميد حاجي (61 سنة) أحد أفراد النجع للجزيرة نت.

ظروف صعبة

ويشكو عبد الحميد ظروف عيشهم الصعبة وقلة يد الحيلة وعدم التفات الدولة لهم، وبالنسبة له فهو توارث طريقة العيش هذه مجبرا لا مخيّرا فآثر حياة الرحل دون مياه صالحة للشرب وضوء، على الاستقرار. ومن تربية المواشي، درّس أبناءه الثمانية وزوّج بعضهم في حين مازال الآخر عاطلا عن العمل "فمن دون قطيعي أبيت جائعا".

ولا تخلو حياة "نجع قمرة" من مخاطر على رأسها ليالي الكر والفر بين سكان النجع وسارقي قطعان المواشي، حيث لم تمكنهم السلطات من رخص امتلاك السلاح لحماية أملاكهم، وفق المصدر ذاته.

تزوجت فاطمة الزهراء (60 عاما) عبد الحميد منذ 40 سنة وهي "راضية وصبورة معه على الحلو والمرّ" كما تقول للجزيرة نت.

وتحلم بمورد رزق وراتب شهري قاريْن يضمنان لأسرتها الاستقرار والعيش الكريم وينسيانها ليالي البرد القارس والأمطار الغزيرة التي تقضيها في خيمتها الرثة في العراء وأيام القيظ شديدة الحرارة التي تفتقد فيها إلى مياه عذبة نظيفة وباردة ونسيم عليل.

يدفع عبد الحميد مبلغا ماليا يتراوح من 400 و600 دينار (من 133 إلى 200 دولار) لصاحب الأرض التي يحطون الرحال فيها لاستغلالها مرعى لمواشيهم بعد حصادها والانتفاع ببقايا "التبن" و"القرط" غذاء للأغنام والماعز، وهو مبلغ كبير وفيه استغلال لسكان النجع الذين يعانون أوضاعا معيشية قاسية، كما تؤكد الزهراء.

منيرة حجلاوي_نجع قمرة هم رحّل تونس توارثوا الترحال وتربية ورعي الأغنام والإبل والماعز_تونس-قفصة_خاص الجزيرة نت
نجع قمرة رحّل تونس توارثوا الترحال وتربية ورعي الأغنام والإبل والماعز (الجزيرة)

تقاسم المعاناة

ولمساعدة أزواجهن على مصاعب الحياة وعلى تحمّل أعبائها، تلجأ نسوة النجع إلى جمع الطماطم من الأراضي المحاذية لمقر إقامتهن رغم المردود الضئيل لهذا العمل المضني والشاق، فيحصلن على 300 مليم للصندوق الواحد الذي يسع 28 كيلوغراما من الطماطم.

وتتقاسم نسوة "نجع قمرة" نفس المعاناة وطريقة العيش البدائية، فحبيبة (59 عاما) تحلب القطيع وتجمع الحطب وتطهو الطعام على النار وتجلب مياه الشرب من بئر عميقة بعيدة وتجمع هي الأخرى الطماطم من الثالثة فجرا حتى الرابعة والنصف مساء.

وتشكو حبيبة العطش وضنك العيش وقلة موارد الرزق والظلام والعطش وبطالة الأبناء، وتنتقد بشدة لامبالاة الدولة تجاه وضعياتهم الهشة، وفق تصريحها للجزيرة نت.

يُشار إلى أن الشرطة البلدية بمنطقة المروجات بمحافظة بن عروس (تونس الكبرى) نفذت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 قرارات إزالة وإخلاء خيام رحّل "نجع قمرة" قائلة إنها وُضعت دون رخصة.

المصدر : الجزيرة