تاريخ الحج من مناطق المحيط الهندي والتنافس على الحجاز بين الإمبراطوريات

يدرس كتاب "مكة تحت الحكم الاستعماري" كيف تغير الحكم العثماني في الحجاز وتسليط ضغوط على العثمانيين لحلّ التقاسم التقليدي للسلطة بين الخلافة في إسطنبول وشرافة مكة

imperial mecca book
كتاب "مكة تحت الحكم الاستعماري: الجزيرة العربية تحت الحكم العثماني والحج من مناطق المحيط الهندي" صدر حديثا عن مطبعة جامعة كولومبيا (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان الحجاز، وهو غرب شبه الجزيرة العربية حيث تقع مكة والمدينة، تحت السيادة العثمانية بصفة اسمية لعدة قرون، ومع ظهور السفن البخارية، صار الحج إلى مكة أسهل بكثير لكن ذلك التحول جلب معه عولمة الأمراض الوبائية، وخاصة مع التفشي المتكرر لوباء الكوليرا.

وخشي المسؤولون الأوروبيون، وبخاصة البريطانيون في الهند، من أن فترات الإقامة الطويلة في الجزيرة العربية قد تعرض رعاياهم المسلمين لتأثيرات النشطاء المناهضين للاستعمار.

وقال الكاتب فاروق حسين، في تقريره الذي نشره موقع "آيجن ريفيو أوف بوكس" (Asian review of books)، إن مايكل كريستوفر لو -أستاذ مساعد للتاريخ بجامعة ولاية أيوا- في كتابه الصادر حديثا بعنوان "مكة تحت الحكم الاستعماري: الجزيرة العربية تحت الحكم العثماني والحج من مناطق المحيط الهندي"، تناول إقليم الحجاز كمنطقة ضائعة بين إمبراطوريتين في التقسيم الأكاديمي المصطنع بين الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وكانت حلقة الوصل ظهور الباخرة والطبيعة المترابطة بشكل متزايد للعالم الإسلامي والتي كان الحج محركها الأساسي.

مدن مقدسة وصراعات استعمارية

يوضح المؤلف كيف أثّر وصول الاستعمار البريطاني بشكل خاص والأوروبي بشكل عام إلى هذه الأراضي في تغيير علاقة الدولة العثمانية بالمسلمين المستعمَرين في الهند، وتساءل عما إذا كان شتات المسلمين الهنود الذين هاجروا أو استقروا في الحجاز حصان طروادة الذي استخدمه البريطانيون للدخول إلى الإقليم؟ فمن خلال اكتساب جنسية الدول الاستعمارية وما يترتب عن ذلك من مطالبات قانونية إقليمية أخرى، وفّر هؤلاء المسلمون الأجانب ذريعة للقوى الأوروبية مثل بريطانيا وروسيا للتدخل في شؤون المدن الإسلامية المقدسة.

يدرس كتاب "مكة تحت الحكم الاستعماري" كيف أدى هذا العامل الاستعماري إلى تغيير الحكم العثماني في الحجاز، وتسليط ضغوط على العثمانيين لحلّ التقاسم التقليدي للسلطة بين الخلافة في إسطنبول وشرافة مكة. ويصف المؤلف في استعارة مثيرة للاهتمام كيف وصل الاستعمار الأوروبي إلى الحجاز الذي كان يخضع للحكم العثماني مثل مسافر متهرب على متن باخرة.

وذكر الكاتب أن التوترات في الحجاز كانت بين عدد من القوى، وتحديدا البريطانيين وشريف مكة والسلطان العثماني إذ كان الحجاز تحت الحكم العثماني بصفة اسمية فقط. وبسبب نسبه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- مارس شريف مكة جميع صلاحيات الحكومة، وهو أمر كان مدمرا للمصالح العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى عندما انقلب شريف مكة على العثمانيين.

كان الرعايا الهنود من حاملي الجنسية البريطانية يمثلون أكبر جالية شتات في الحجاز وأكبر مجموعة من الحجاج كل عام. وقد أعرب أحد المخبرين العثمانيين عن مخاوفه من أن يتحول هؤلاء الهنود إلى طابور بريطاني خامس لتمكين البريطانيين من الاستيلاء على المنطقة. ومن جهته، نظّم شريف مكة مرشدين للحجاج من جدة، بما في ذلك قوافل من الإبل، لضمان مصالحه المالية، بحسب الكتاب.

باءت محاولات الخليفة للتخلص من هؤلاء المرشدين بالفشل، وحتى الحامي المعيّن من قبل البريطانيين في بومباي كان متواطئا في توجيه الحجاج إلى رجال الشريف. كان الخليفة يعلم أن يديه مقيدتان، حيث قال "إن أي مواجهة مباشرة بين الدولة العثمانية والشرافة ستزيد من احتمال قيام الشريف بتشكيل تحالف مع قوة أجنبية أو اندلاع صراع مفتوح بين الحكومة المركزية ومكة من شأنه أن يخلق أزمة عنيفة قد تؤدي إلى تدخل أجنبي".

في عام 1899، قال السفير العثماني في باريس صالح منير باشا "حتى في الحجاز، اتخذ الإنجليز بعض الإجراءات الخسيسة وتآمروا لإثارة فتنة لفصل السلطنة العثمانية عن الخلافة الإسلامية المقدسة.. يحاول الإنجليز زرع بذور كل أنواع الفتنة والصراع في الأراضي الإسلامية.. لقد قدمت هذه المعلومات عن طريق التلغراف بالتفصيل.. لقد اتخذت الإجراءات اللازمة لكشف المتورطين في هذه المؤامرة والوصول إلى حقيقة هذه المخططات الشيطانية".

حذر السفير مرارا وتكرارا من أن الإمبراطورية البريطانية منخرطة في إستراتيجية شاملة لنقل الخلافة العثمانية إلى شريف مكة وإخضاع الإقليم لسيطرة الإمبراطورية البريطانية. كان يعتقد أن البريطانيين يخططون لوضع الحجاز ونجد والعراق تحت الحماية البريطانية وتحويل هذه الأقاليم في النهاية إلى مستعمرات مثل عدن.

نظرا لمكانته المقدسة، لم يكن الحجاز أبدا مرشحا مثاليا للاحتلال المباشر من قبل بريطانيا. ومع ذلك، مثّل عمل بريطانيا على إقامة بيروقراطية الحج على مستوى الإمبراطورية تحديا حقيقيا لشرعية الخليفة العثماني باعتباره "الوصي الوحيد" على الأماكن الإسلامية المقدسة والحج آنذاك.

الحج في زمن الكوليرا

على هذا النحو، باتت شؤون المسلمين الذين يؤدون فريضة الحج إلى مكة موضوعا للوائح الدولية "غير الإسلامية" خاصة في ظل تفشي الكوليرا.

لقد جعل السفر على متن الباخرة الحج في متناول الحجاج ذوي الإمكانيات المتواضعة، وكان حجاج المحيط الهندي يمثلون ما يقرب من نصف الوافدين عبر المحيط في تسعينيات القرن الـ19، وكان الهنود الناقلين الرئيسيين للكوليرا في ذلك الوقت، وفي عام 1865، قضت الكوليرا على ما بين 15 ألفا و30 ألف حاج من إجمالي 150 ألفا.

انتشر الوباء على نطاق واسع مع عودة الحجاج إلى منازلهم مما أدى إلى وفاة أكثر من 200 ألف شخص في أميركا الشمالية وأوروبا. وقد أدى الإحراج البريطاني من تسبب رعاياها في نشر هذا الوباء إلى تطوير جزيرة كمران اليمنية للحجر الصحي، حيث أدارتها بريطانيا عند مصب البحر الأحمر وخصصتها للمسلمين الراغبين في دخول شبه الجزيرة العربية للحج إلى مكة والمدينة.

لكن هذا التدخل الإمبريالي في شؤون الحج لم ينتهِ إلا في عام 1957 مع اعتماد منشآت الحجر الصحي في جدة. وحاليا، تواجه البشرية فيروسا مميتا آخر ظهر للمرة الأولى في دولة آسيوية أخرى كثيفة السكان.

تشير هذه الدراسة المهمة إلى أن الدولة العثمانية في أواخرها -والتي وقع تشويه سمعتها من خلال الترويج لها على أنها "رجل أوروبا المريض"- كانت ما تزال قادرة تماما على تنفيذ مآثر تكنولوجية طموحة للغاية. لكن الإصلاحات التقنية مثل تمديد التلغراف وتطوير سكة حديد الحجاز لم تستطع التغلب على الضعف الكامن في علاقات الحجاز شبه المستقلة مع شرافة مكة والسكان البدو في المنطقة، بحسب الكاتب.

نتيجة لذلك، بحسب الكتاب، تسبب تحفظ الدولة العثمانية المحسوب وعجزها العسكري عن تغيير الشروط الدستورية لهذه العلاقات بشكل كبير، في تقويض أحلام التحديث لدى خبراء وتكنوقراط إسطنبول.

المصدر : مواقع إلكترونية