حوار الجزيرة نت مع البروفيسور عمرو رياض حول رحلة حج الطبيب الهولندي فان دير هوخ

بدل ركوب الجمال كما يفعل الحجاج حينها، ارتأى هوخ استئجار حمار ليصحبه إلى رحلة يوم عرفات. يصف ذلك بأنه أكثر أيام حياته الروحانية. فرغم الازدحام شعر أن جو السلام والسرور كان سائدا بين الحجاج في ربوع المكان.

البروفيسور عمرو رياض أستاذ بجامعة لوفان بلجيكا
عمرو رياض رئيس معهد الدراسات الإسلامية والحضارة والمجتمع بجامعة ليوفن البلجيكية (الجزيرة)

يرتبط اسم دكتور فان دير هوخ (Van Der Hoog) بالنسبة للهولنديين بعلامة تجارية شهيرة لديهم تعنى بمستحضرات التجميل، ولكنها تعود كذلك لمواطن مسلم اختار لنفسه اسم "محمد عبد العلي" وكان طبيبا وعالم جرثوميات في جدة بالسعودية أواخر عشرينيات القرن العشرين.

قصة حج فان دير هوخ إلى بيت الله الحرام تجسد نموذجا للحاج الأوروبي، المتصل بخلفيته الغربية، وخاصة الهولندية، وقد أظهر عبر تجربته للحج مدى انتمائه الديني الذي يعبر فيه عن مزيج متعدد الثقافات.

هذا ما حاول رصده البروفيسور عمرو رياض أستاذ الدراسات العربية والإسلامية ورئيس معهد الدراسات الإسلامية والحضارة والمجتمع بجامعة ليوفن البلجيكية العريقة، وزميل هيئة ألكسندر فون همبولدت للباحثين المتقدمين بجامعة ماربورغ الألمانية، وذلك من خلال مجلده المعنون بـ "الحج وأوروبا في حقبة الإمبراطوريات" (The Hajj and Europe in the Age of Empire).

ويعد الكتاب -الصادرِ عن مطبعة بريل العريقة- تجميعا لأوراق تمت قراءة معظمها خلال مؤتمر "أوروبا والحج في عصر الإمبراطوريات: الحج الإسلامي قبل الهجرة الإسلامية للغرب" بالتعاون مع مؤسسة الملك عبد العزيز بالسعودية، وهو مجلدٌ تضمن أبحاثا كانَ خيطها الناظم هو طبيعة الحج في أوروبا حقبة الإمبراطوريات.

الجزيرة نت التقت البروفيسور رياض، وأجرت معه هذا الحوار:

  • بحثك عن رحلة حج "فان دير هوخ" يندرج ضمن كتابك حول رحلات حج الأوروبيين، ما الأهداف وما المخرجات؟ هل هو سعيٌ نحو تلمس هوية المسلم الأوروبي؟

تكشف دراسة "تاريخ الحج في عصور ما قبل الحداثة" عن الروابط الإنسانية الدنيوية المهمة وشبكات التنقل التي تتجاوز معانيها الدينية الأساسية لملايين المسلمين في جميع أنحاء العالم. بعبارة أخرى، خلقت طرق ومسارات رحلات الحج عبر التاريخ مناطق اتصال دينية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة بين المناطق الإسلامية من ناحية، ومع الحدود الجغرافية لأجزاء أخرى من العالم من ناحية أخرى.

** للاستخدام الداخلي لا تصلح رئيسية ** صور رحلة حج طبيب وعالم هولندي فان دير هوخ
من رحلة حج الطبيب الهولندي فان دير هوخ (مواقع إلكترونية)

منذ التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى، عمل الحج على تسريع التجارة البحرية حيث شق آلاف الحجاج والتجار طريقهم إلى مكة والمدينة عن طريق البحر، وتوقفوا في المدن الساحلية حيث كانوا يتاجرون بالسلع في كثير من الأحيان، وقد أخضعت الإمبراطوريات الأوروبية والعثمانية الحج للمراقبة لأسباب سياسية في المقام الأول، وللمصالح الاقتصادية في السيطرة على البواخر في المقام الثاني.

فانخراط شركة النقل البريطانية "توماس كوك" وابنه في الحج أواخر القرن 19 كان محركه الربح، وكان ينظر إلى الحج في هذا الوقت على أنه رحلة تحفها المخاطر، كما تميزت بالحركة الجماعية للفقراء. كان دور كوك يكمن في تحويل المسؤولين البريطانيين في الهند لإصلاح قطاع الحج والسفر ليمهد لهم التدخل التجاري غير المباشر من خلال إعادة تشكيل نظام المرشدين والوسطاء والشاحنين في الهند والحجاز.

على مستوى آخر، كانت مكة والمدينة من المراكز المهمة للتعليم الديني للمسلمين القادمين لاكتساب العلم الشرعي. وفي الحقبة الاستعمارية تشكلت عبر الحج وهذه المراكز الدينية شبكات عابرة للحدود، مناهضة للاستعمار، تكونت من بين الحجاج وهؤلاء الطلاب، وأصبح الانتماء الإسلامي يشكل خطرا على المسؤولين على المستعمرات، وهو ما جعل الحج محركا مناهضا لسياسات الاستعمار.

بحلول أواخر القرن 19، أصبحت القوى الاستعمارية الأوروبية قلقة بشكل عام مما أسمته "العدوى المزدوجة" للحج، أي العدوى الأيديولوجية المناهضة للاستعمار وكذا العدو من نقل الأمراض لهم في نظر المستعمر.

ومن جهة أخرى كانت الدول الأوروبية في القرن التاسع بالفعل قلقة للغاية بشأن انتشار الأمراض في المستعمرات الأوروبية، وبشكل أكثر أهمية داخل الحدود الأوروبية نفسها، نتيجة للحشد السنوي للحج. للحفاظ على السلطة الأوروبية، استغلت الإدارات الاستعمارية دعواتها لمعايير الصحة والسلامة الدولية للحج ليس فقط كإستراتيجية طبية لمنع انتشار الأمراض الوبائية، ولكن أيضا كأداة مراقبة تهدف إلى وقف انتشار الاضطرابات السياسية في المستعمرات.

باختصار، بحلول أواخر القرن 19، أصبحت القوى الاستعمارية الأوروبية قلقة بشكل عام مما أسمته "العدوى المزدوجة" للحج، أي العدوى الأيديولوجية المناهضة للاستعمار وكذا العدو من نقل الأمراض لهم في نظر المستعمر.

  • من هو هوخ وكيف بدأ بالتعرف على الإسلام؟

في البداية أريدُ أن أشير إلى أن اعتناق الإسلام من طرفِ العديد من الأوروبيين المعروفين خلال فترة ما بين الحربين العالميتين كان حاضراً بسبب بحثهم عن مسارات روحية متجاوزة لأصولهم الدينية والثقافية الأوروبية.

وانفتاحي على سيرة فان دير هوخ كانت انطلاقاً من الأرشيف الهولندي وكذا رحلته التي دونها وحواري المباشر مع ابنته، ولكن رغم ذلك لا يُعرف سوى القليل عن سنواته الأولى. ولد هوخ عام 1888، وهو الابن الثاني لجنرال في الجيش الهولندي. كان يرغب أن يصبح طبيبا ولكن والده أراده في الجيش، لذلك درس الطب العسكري ليجمع بين الرغبتين. من الأمور التي ميزت هوخ أنه كان يكتب مقالات في الصحف الهولندية تحت اسم مستعار، انتقد في هذه المقالات الجيش الهولندي وسياسته الاستعمارية وكذا هرميته التنظيمية.

وبفعلِ مقالاته النقدية ضد سياسة الجيش الهولندي تم نقله إلى أبعد نقطة عسكرية، وبالضبط في منطقة بورنيو الإندونيسية في مارس/آذار 1915، حيث انتقد صرامة الضوابط العسكرية وهو ما تسبب له بمشاكل مع قادة المعسكر. ووصل به الأمر إلى حد إخراج تقرير طبي في حق قائد المعسكر يفيد بأنه مجنون وقام بحبسه، وخوفاً على حياته ترك هوخ المعسكر.

ولكن رغم ذلك تم استحضار هوخ إلى جدة سنة 1928 ليباشر مهامه كطبيب، ومكث فيها 6 أشهر. وبسبب معرفته وخبرته ارتفعت شهرته كطبيب، وعمل في مختبر بمستشفى المدينة، حيث كان يعالج الجنود والشرطة وموظفي الخدمة المدنية. وتزامنت إقامة هوخ في جدة مع موسم الحج عام 1928. وأشار إلى أن المدينة كانت تعاني من سوء الحالة الصحية.

أعلن هوخ أنه لم يكن مسيحيا مخلصا قط، وإذا كان بإمكانه أن يصبح مسلما مخلصا فسيكون ذلك تغييرا إلى الأفضل

في تلك السنة أعلن هوخ اعتناقه الإسلام علانية في جدة قبل عودته إلى هولندا بعد انقضاء موسم الحج، مما تسبب في جدل بين المجتمع الأوروبي في المدينة. ونجد على سبيل المثال القنصل الهولندي في جدة فان دير مولين (van der Meulen) يصف إسلام هوخ بأنه فقط ذريعة لدراسة ماء زمزم لعمل بعض الأبحاث الطبية، وأن إسلامه كان ظاهريا، ولكن هوخ أوضح لمولين شخصيا أنه "لم يكن مسيحيًا مخلصا قط، وإذا كان بإمكانه أن يصبح مسلما مخلصا فسيكون ذلك تغييرا إلى الأفضل". وتجدر الإشارة إلى أن في هذه الفترة، كان ليوبولد فايس (محمد أسد) قد بدأ في اعتناق الإسلام تاركا اليهودية.

  • كيف ذهب هوخ للحج؟

بعد عودته إلى مدينة لايدن الهولندية، افتتح هوخ عيادة طبية، لكنه كان مصمما على العودة إلى مكة لأداء فريضة الحج. وعند مغادرته جدة، كان لديه شعور داخلي بأنه سيعود يوما ما إلى الجزيرة العربية. فهو الآن كمسلم بات حرا لأداء فريضة الحج. كان دائما ما يتذكر مشهد الحجاج الذين ساعدهم، وكل أولئك القادمين إلى جدة عبر قوافلهم من الصحراء، الذين أنفقوا من ممتلكاتهم من أجل أداء شعيرة الحج. وأكد هوخ في سيرته أنه ظل يكدح في عمله كطبيب في هولندا من أجل العودة إلى مكة حاجا.

وفي هذا الصدد، راسل الملك عبد العزيز آل سعود ليخبره باعتناقه الإسلام طالبا الإذن بزيارة مكة. وبعث له عاهل السعودية بالتهنئة على هذه الخطوة، لكنه طلب منه إظهار إيمانه الصادق من خلال أداء الفرائض الإسلامية خلال سنة، وهو ما تحقق بفعل مساعدة بعض الطلاب المسلمين الإندونيسيين في هولندا له، وتعلم مبادئ اللغة العربية وحفظ بعض الآيات القصيرة من القرآن، وراسل ملك السعودية مرة أخرى، وهو ما قوبل بالترحيب ليتمهد له الطريق نحو رحلته للحج.

  • كيف وصف رحلة الحج ويوم عرفات؟

وصفَ هوخ شعائر الحج بطريقة مفصلة، ومع ذلك، حاول عدم الانخراط فيما يمكنُ أن يثير حساسية مثل قضايا الأضرحة والمقابر، وكذا الصراعات بين الشيعة والسنة، والخلاف التاريخي حول الخلافة والإمامة.

قام هوخ بإعطاء بعض الرؤى التي تحملُ تأملات فلسفية حول لحظات الهدوء التي عاشها خلال يوم عرفة، حيث قرر الصعود بمفرده إلى منطقة عرفات قبل أن يبدأ الآلاف من الحجاج القدوم إلى المشعر.

يوم عرفات، والذي اعتبره ذروة الحج بأكمله، شعر هوخ أنه وصل إلى مرحلة متقدمة من تجربته الروحية.

فبدل ركوب الجمال كما يفعل الحجاج حينها، ارتأى هوخ استئجار حمار ليصحبه إلى رحلة يوم عرفات، ويصف ذلك اليوم بأنه أكثر أيام حياته الروحانية. فرغم الازدحام، يقول هوخ إن جو السلام والسرور كان سائدا بين الحجاج في ربوع المكان.

تصميم غلاف كتاب مؤلفه البروفيسور عمرو رياض أستاذ بجامعة لوفان بلجيكا
كتاب "الحج وأوروبا في حقبة الإمبراطوريات" لعمرو رياض زميل هيئة ألكسندر فون همبولدت للباحثين بجامعة ماربورغ (الجزيرة)
  • ما قصة الطبيب هوخ مع كسوة الكعبة التي أهديت له؟

في البداية، أريد أن أشير إلى أن كسوة الكعبة كان يتم تصنيعها في مصر وحملها إلى مكة في محمل الحج الشرفي من القاهرة، كما أن الكسوة لم تكن دائما على مر العصور الإسلامية في نفس الشكل واللون الذي نعرفه اليوم، حيث لم تكن دائما سوداء بكتابة ذهبية، وقد كانت بألوان مختلفة من بينها الأبيض.

ظل تقليد صنع الكسوة في مصر مستمرا حتى عام 1927 عندما أمر عاهل المملكة العربية السعودية بإنشاء مصنع لتصنيع الكسوة في مكة. كما كان العرف يرى توزيع ثوب الكسوة على الحجاج. أما بخصوص كسوة الحج التي حظي بها هوخ فقد كانت هدية تلقاها من صديقه المكي قاسم الخليل، أحد تجار مكة الأثرياء، مقابل مساعدة زوجته الحامل على الولادة. وهو أمر لم يكن متداولا حينها بأن يقوم طبيب أوروبي بمساعدة امرأة على الولادة، ومنه فإن قطعة كسوة الكعبة كانت كأجرة له احتفى بها هوخ كثيرا.

  • ذكرت بالبحث أن إحدى اللحظات التي لا تنسى لهوخ لقاؤه بالأمير فيصل وكذا محاولة اغتيال عاهل السعودية، كيف ذلك؟

إحدى اللحظات التي لا تنسى في مخيلة هوخ كانت لقاءه بالأمير فيصل في مكة، حيث تمت دعوته للقاء الأمير من قبل إبراهيم بك، والد زوجة الأمير فيصل. التقى هوخ بالأمير فيصل قبل بضع سنوات من موسم الحج هذا خلال زيارات الأمير الدبلوماسية إلى مدينة لاهاي عام 1928. لكن الاجتماع في مكة كان مختلفًا تاركا فيه انطباعا مميزا.

كان حج هوخ متزامنا مع محاولة 3 رجال يمنيين مسلحين اغتيال الملك أثناء أداء فريضة الحج في 15 مارس/آذار 1935، والتي نجا منها الملك من دون أن يصاب بأذى، وعندما نزل هؤلاء الحجاج اليمنيين من عرفات، رأوا الملك على حصانه يقوم برمي الجمرات مثل أي حاج آخر، وبعد أن ذهب الملك بسيارته إلى مكة ليمشي بين الصفا والمروة اندفع اليمنيون نحو الملك حاملين خناجرهم بغية اغتياله، وهو الأمر الذي لم يتحقق، لكن الضربة أصابت بعض حراس الملك، ليكون هوخ بذلك شاهدا على الحدث، فيروي في رحلته كيف أنه رأى الدم يغطي صحن البيت الحرام في ذلك اليوم.

  • خصص هوخ فصلا في كتابه لانتقاد وضع مدينة مكة، ما مرد ذلك؟

قدم هوخ بالفعل نقدا شديدا لمكة كمدينة، على الرغم من الرحلة الروحية، فقد تعرف على عادات غير مألوفة بالنسبة له. وكانت مكة، حسب نظرته، مدينة غير نظيفة في العموم، وقد صدم بمستوى الفقر المدقع بين الأشخاص القادمين إلى دار العجزة. كما أعرب عن تقديره لـ "العمل الرائع" الذي قدمه المصريون في المجال الطبي والعمراني في المدينة. علاوة على ذلك، وصف الوضع في مكة بالبؤس والفقر، وعبر عن ذلك حين كتب "هنا في مكة يوجد أناس لا يملكون شيئا على الإطلاق. لا شيء سوى أجسادهم المريضة والهزيلة".

  • عندما عاد هوخ إلى هولندا قام بمجهود لسرد تجربته للهولنديين، كيف ذلك؟

هنا تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن غريبا على القارئ الهولندي إيجاد مقالات عن الإسلام في الصحف آنذاك، حيث إن هذا الأمر كان محققا بفعل مساهمات الطلبة المسلمين الإندونيسيين في هولندا، ولكن الجديد هنا أن يجد الهولنديون واحدا منهم هو من يتكلم عن الإسلام، وكان هوخ يكتب عن مواضيع إسلامية مختلفة، وليس عن الحج فقط. على سبيل المثال كتب عددا من المقالات في الجرائد الهولندية عن أبي حامد الغزالي وابن سينا وموضوعات أخرى متعلقة بالطب والعلوم في الإسلام.

كما أجرى العديد من الدورات في ليدن حول الإسلام والجزيرة العربية الحديثة والحج والهوية الإسلامية ما بين سنة 1938 و1939. وقدم الفيلم الوثائقي "عيد مكة الكبير" (Het Groote Mekka Feest) للمخرج الهولندي الإندونيسي "جورج كروخرز" (G. Krugers) عام 1928، للجمهور في دور العرض السينمائية في هولندا بحكم أنه هولندي قام بشعيرة الحج.

المصدر : الجزيرة