جدل بشأن رواية "أن تقتل عصفورا محاكيا".. نقد العنصرية عبر دراسة النصوص القديمة

يطرح الروائي الإنجليزي (1894-1963) ألدوس هكسلي أهم النقاط التي يتم تجاهلها في موضوع حظر الكتب من المناهج الدراسية، متسائلا: ماذا لو توقف البشر ببساطة عن الاهتمام؟ خشي هكسلي أننا سنصبح غير مهتمين بالأدب الذي يتحدى العقل، إذ إن الترفيه السريع والمتعة الأسرع يجعلان خيار القراءة صعبا، والتفكير أكثر صعوبة.

(Original Caption) 3/3/1962-Hollywood, CA: Movie still of actor Gregory Peck wears glasses in next motion picture, "To Kill A Mockingbird," Universal-International's film version of Harper Lee's Pulitzer Prize-winning novel. The star wears glasses in private life and sees no reson to be concerned over doing so in a movie. Here, he's shown in a scene from the film with little Mary Badham, who plays his daughter.
المحامي بطل رواية وفيلم "أن تقتل عصفورا محاكيا" مع ابنته التي تنسج حولها الأحداث في لقطة من فيلم عام 1962 الذي يدور في قرية أميركية جنوبية (غيتي)

قراءة كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر قد تمنح القارئ تجربة مخيفة، فهو كتاب ممل وممتلئ بالعنف والغرور، حسب بعض النقاد، ويمثل امتلاكه نوعا من الحرج لكثيرين، ولكن مثل تلك الكتب تكون مفيدة لإثارة التفكير النقدي وتحث على التعامل بروح الشك والمساءلة للنصوص.

وفي مقال نشرته صحيفة "ذا سكوتسمان" (Scotsman) الأسكتلنديّة، قال الصحفي والمقدم البريطاني المعروف ألاستير ستيوارت إن مدرسة ثانوية في أدنبره تريد إزالة رواية "أن تقتل عصفورا محاكيا" من مناهجها الدراسية للسنوات الثالثة بسبب طريقة حديثها عن العرق واعتمادها سردية تروّج لـ"الرجل الأبيض المُنقِذ"، ويأتي هذا التحول كجزء من سياسة "إنهاء الاستعمار" في المناهج الدراسية.

ورواية المؤلفة الأميركية هاربر لي (1926-2016) نشرت عام 1960 لتفوز بعدئذ بجائزة البوليتزر وتلقى قبولا واسعا، وهي حاليا مقرر دراسي في المدارس الثانوية والمتوسطة في أميركا وبلاد أخرى.

وتعدّ الرواية من كلاسيكيات الأدب الأميركي وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 1962 يتعامل مع قضايا عدم المساواة العرقية في الولايات المتحدة، وتدور حبكة الرواية حول أزمة ضمير تهز طفلة  تعيش في بلدة جنوبية أميركية هادئة، تدوّن مذكراتها عن أسرتها وجيرانها، وتتناول القصة السلوك البشري بين ثنائيات البراءة والخبرة واللطف والقسوة والحب والكراهية والفكاهة والشفقة.

وتتبع الرواية نصائح محامٍ لأطفاله وتشجيعهم على التعاطف والعدل، وتقتبس عنوانها من نصيحته التي تقول "من الخطيئة قتل العصفور المحاكي" في إشارة إلى أن الطيور بريئة وغير مؤذية، وتحكي الرواية قصة رجل أسود متهم خطئا باغتصاب فتاة بيضاء.

بلدة غارقة في النفاق

ومن خلال عيون الأبناء الشابة، تستكشف هاربر لي بروح الدعابة المواقف المتبانية تجاه العرق والطبقية في أعماق الجنوب الأميركي في الثلاثينيات، وتتناول ضمير بلدة غارقة في التحيز والعنف والنفاق، تتأثّر بصلابة نضال رجل واحد من أجل العدالة في زمن الكساد العظيم في أميركا.

وأصبح بطل الرواية نموذجا أخلاقيا للعديد من القراء الذين وجدوا فيه نموذجا لسعي المحامين من أجل العدالة؛ إذ يصرّ على الدفاع عن المتهم بالاغتصاب (ذي الأصول الأفريقية) مواجها رفض زملائه ومجتمعه، وعلى الرغم من تضافر أدلة البراءة تحكم المحكمة بإدانة المتهم، ولاحقا يقوم والد الفتاة التي ادّعت تعرضها للاغتصاب بمحاولة قتل أبناء المحامي الذي أثبت براءة المتهم الأسود رغم حكم المحكمة.

ويقول الكاتب إن الغاية المتمثلة بمناهضة الصور الذهنية التقليدية والتفاوت العرقي قد تبدو مثيرة للإعجاب لكن طريقة التطبيق مضللة تماما، ذلك أن هذا التغيير مدفوع بالحرج الاجتماعي، ولا يعكس التزاما بدعم التفكير النقدي.

ويتابع "يبدو أن المدرسة نسيت أن اختبارات هيئة المؤهلات الأسكتلندية تتضمن أسئلة مثل "المناقشة"، و"المقارنة"، و"التحليل"، و"التقييم"، وأنه لا يوجد شيء أفضل من نص مثير للجدل يمكن للطلاب تحليله.

التفكير النقدي

وذكر الكاتب أن الفيلسوف وعالم النفس الكندي جوردن بيترسن شدد على هذه النقطة أيضا، وهي أن اتخاذ الكتابة وسيلةً لتأمين الدرجات لا يضمن بناء التفكير الفعال، إذ تتطلب الكتابة تقييم الحجج وصياغتها والدفاع عنها وانتقادها والخروج بنتيجة، ويعتمد ذلك لدى الطلاب في مرحلة الثانوية على توفّر المواد التي تثير شغفهم.

إن تخفيف المنهج الدراسي لأنه يعرض لغة مثيرة للجدل أو مواضيع إشكالية يعدّ مشكلة، وفي الرواية تمثل قصة تحوّل شخصيّة البطل النموذجي المحامي أتيكوس فينش إلى شخصيّة شريرة -في نظر مجتمعه- صورة مصغرة للمناقشات المجتمعية الأوسع نطاقا، لذلك، يمكن أن يكون الكتاب ضروريا لتنشيط التفكير.

كومبو يجمع الرواية وترجمتها To Kill a Mockingbird
رواية "أن تقتل عصفورًا محاكيًا" و تترجم أيضا "أن تقتل طائرا بريئا" أصبحت علامة في الأدب الأميركي الكلاسيكي (مواقع التواصل)

أدب يتحدى العقل

ويطرح الروائي الإنجليزي (1894-1963) ألدوس هكسلي أهم النقاط التي يتم تجاهلها في موضوع حظر الكتب من المناهج الدراسية، متسائلا: ماذا لو توقف البشر ببساطة عن الاهتمام؟ خشي هكسلي أننا سنصبح غير مهتمين بالأدب الذي يتحدى العقل، إذ إن الترفيه السريع والمتعة الأسرع يجعلان خيار القراءة صعبا، والتفكير أكثر صعوبة.

ويقول الكاتب "يبدو أننا ننسى أن إشراك الشباب في الاهتمام مدى الحياة بالقراءة أمر صعب بما فيه الكفاية، دون القلق بشأن ما إذا كانت النصوص غير مقبولة اجتماعيًا".

ودافع الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، بقوة عن خيارات الكتب مشيرا إلى أن قراءة ماو ولينين لم تجعله شيوعيًا.

وأشار الكاتب إلى أن حرجه من امتلاك كتاب هتلر كان نابعا من الخوف من سوء الفهم وأن يعتقد الناس أنه نازي، فبعضهم يقول إن الكتاب عنيف أو كاره للمرأة، كما تتكرّر كلمة "زنجي" نحو 40 مرة في  رواية "أن تقتل عصفورا محاكيا"، ولكنّ هناك فرقا بين أن يكون مؤلف الكتاب عنصريا أو شخصيات الكتاب، وهناك فرق شاسع أيضًا بين قراءة عمل ما والموافقة عليه والقبول بما يتضمنه، وهناك فرق بين الكتاب الذي ينادي بشيء مروع وبين مناقشته أكاديميا.

"ثقافة سريعة الخطى"

وأضاف الكاتب أن لا أحد يقول إن هاربر لي عنصرية متعصبة لكن الناشط في مجال حقوق الإنسان، السير جيف بالمر، رأى أنه "لا يمكنك حل مشكلة العنصرية بوضع نصوص تحتوي على حقائق غير مريحة".

ويقول الكاتب إنه سواء أكان النقاش يتناول كتبا أم أفلاما أم أي شيء آخر يتحدى حساسيتنا للموضوع، فهذا ما نحتاج إليه كتذكير بوجود معاناة حقيقية، مضيفا "يجب أن نبقي كل ما في وسعنا من تاريخنا في المتناول، بخاصة الأجزاء الأسوأ منه والأكثر إشكالية، إذ يمثل محوها تخريبا قصيرا وطويل الأمد. فضلا عن ذلك، إن ثقافتنا سريعة الخطى لدرجة لا تسمح لنا بالتفكير في أي شيء لا نراه أمامنا".

ويردف "عادة ما يكون للقضايا التي تواجه حضارتنا صدى مزلزل. فعلى سبيل المثال، إذا كنا نتعامل مع تغير المناخ، فهل سنقصي رواية (عناقيد الغضب) من قائمة المطالعة لأنها تسيء إلى حساسيتنا بشأن الحقائق المروعة للأضرار البيئية؟".

وقدّم الروائي الأميركي الشهير جون ستاينبيك في روايته "عناقيد الغضب" دعوة للقراء إلى التعاطف مع المهاجرين الأميركيين الذين دمّرت مناطقهم بفعل عاصفة غبار هائلة، وساعدت هذه الرواية الناس على تخيل معاناة هؤلاء المهاجرين من خلال تأكيد أنهم كانوا يشبهون الأميركيين والبيض أيضا، وهو ما بدا تحذيرا من عواقب تغير المناخ ولكنه في الوقت ذاته حمل معاني قد تبدو عنصرية، حسب بعض النقاد.

ويختم الكاتب بالقول إن الطلاب من جميع الأعمار يحتاجون إلى إثارة مشكلة تدفعهم للتحقيق أو النقد أو الاستلهام منها، ويجب أن تشجع قراءة النص نفسه الطلاب على المطالعة والبحث الموسع لأن ذلك سيفسح المجال للقدرة على الاستيعاب وتشكيل الآراء والكتابة بإيجاز.

المصدر : الجزيرة + الصحافة البريطانية