شاعر الثورة والسلطة.. ذكرى رحيل "الخال" عبد الرحمن الأبنودي

يقول الأبنودي في كتابه "أيامي الحلوة": ولأني خرجت من القرية -وكأني عصارتها- فقد حملت تاريخها وباطنها.

الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي يُعد من أشهر شعراء العامية في مصر (مواقع التواصل الاجتماعي)

عندما استمع الرئيس المصري الراحل حسني مبارك إلى أغنية "مصر يا أول نور في الدنيا" -التي غناها الفنان محمد ثروت- طلب على الفور لقاء مؤلف كلماتها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، ليتم الاتصال به وتحديد موعد له مع مبارك في التاسعة صباحا، وحاول الأبنودي تغيير الموعد دون جدوى لأنه يستيقظ في الساعة الـ11.

امتد حوار الأبنودي مع مبارك لساعات، ويحكى أن الأبنودي طلب من مبارك إتاحة المزيد من الحريات في مصر، فرد مبارك " أنا لو ادّيت الديمقراطية بالشكل اللى أنت بتقوله، مش هعرف أحكم، أديك شايف حال البلد."

ورغم أن الأبنودي قد كتب عددا من الأغاني الوطنية في عصر مبارك، إلا أنه رفض أن يكتب عن مشروع "توشكى"، وهو المشروع القومي لمبارك في التسعينات، فقد طلب منه أن يكتب عنه كما كتب عن السد العالي في الستينات.

أول قصيدة عن ثورة يناير

وفي 4 فبراير/شباط 2011، خص الشاعر الكبير برنامج "الحياة اليوم" بأول قصيدة شعرية لتحية شباب ثورة 25 يناير 2011، ليخاطب مذيعي البرنامج "لأن أهم مكان في مصر اليوم هو ميدان التحرير، القصيدة اسمها الميدان"، ثم تلى أبياته الشهيرة:

أيادي مصرية سمرا ليها في التمييز

ممدودة وسط الزئير بتكسّر البراويز

سطوع لصوت الجموع شوف مصر تحت الشمس

آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز

بهذه الأبيات التي تلاها الأبنودي على الهواء مباشرة، أعلن الشاعر الكبير انحيازه التام لثورة الشباب، ليكون أول من كتب شعرا في الثورة، مادحا شباب مصر، وكاتبا بداية عهد جديد في مصر.

النشأة

في كتابه "أيامي الحلوة"، يقول الأبنودي "ولأني خرجت من القرية وكأني عصارتها، فقد حملت تاريخها وباطنها".

في قرية أبنود مسقط رأسه بدأت تتشكل ملامح شخصيته، حيث تشبع بعادات وتقاليد أهله، وتعمقت علاقته بأسرته واستمع إلى الحكايات الشعبية التي شكلت وجدانه وثقافته، وارتبط بأمه فاطمة قنديل التي كانت تحفظ أشعار القرية وطقوسها، وجدته "ست أبوها"، وهما يشكلان معا خليطا من الشخصية الفرعونية والقبطية والإسلامية، فكان محظوظا أن عاش سنواته الأولى مع هاتين المرأتين، على حد وصفه.

شد الرحال مع أسرته إلى مدينة قنا، ليعيش في شارع بني علي، حيث استمع لأغاني السيرة الهلالية، وحلم حلمه الأكبر؛ أن يجمع هذه الأغاني ويحفظها من الضياع، ويقول إن "الغناء كان جزءا لا يتجزأ من إطار طفولتي، امتزج بي وامتزجت به حتى صرت صاحبه".

إلا أن البيئة الأصولية التي نشأ فيها، بحكم مهنة والده كمأذون شرعي، لم تكن محفزة لإبداعه الشعري، فهاجر إلى القاهرة تاركا خلفه وظيفة حكومية كان يشغلها في محكمة قنا بمؤهله المتوسط.

الفرصة الأولى

3 وجوه من الصعيد، 3 مواهب عظيمة تنتظر من يزيح عنها الستار، ربطت بينهم صداقة قوية وجمعتهم الغربة في القاهرة، وهم الشاعر أمل دنقل، والقاص يحيى الطاهر عبد الله، والشاعر الشعبي الأبنودي، حيث انتقلوا معا بين أحياء القاهرة الفقيرة بحثا عن الفرصة.

وقدم له صلاح جاهين فرصة نشر أشعاره في جريدة الأهرام، فانطلق في عالم الشعر والأغنية، ونشر قصيدته "تحت الشجر يا وهيبة" بمجلة "صباح الخير"، وقد غنّاها الفنان محمد رشدي فيما بعد، وحققت نجاحا كبيرا.

ودخل عالم التأليف الغنائي عندما كتب أغنية عن الدودة وعرضها على جاهين، فأُعجب بها مدير الإذاعة المصرية وحولها لأغنية.

رحلة مع العندليب

تسابق المطربون للغناء من كلماته، وتعرف إلى المطرب عبد الحليم حافظ، ليقدم معه مجموعة من أشهر أغانيه، مثل "أحلف بسماها وترابها"، "المسيح"، "ابنك يقولك يا بطل"، "أحضان الحبايب"، "وأنا كل ما أقول التوبة".

ويحكي الأبنودي أنه اجتمع بعبد الحليم حافظ في الإذاعة بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وطلب منه العندليب الأسمر أن يقدما شيئا عن الهزيمة المرة، فأسمعه الأبنودي كلمات أغنية "عدى النهار"، فسعد بها العندليب جدا، وبدأ بليغ حمدي التلحين، لكنه طالب بجملة على وزن "أبو النجوم الدبلانين" فأضاف لها العندليب "أبو الغناوي المجروحين".

وكما كتب الأبنودي عن النكسة تعاون مع العندليب الأسمر ليكتب أنشودة النصر عقب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ليقدما معا:

وصباح الخير يا سينا.. رسيتي في مراسينا

تعالي في حضننا الدافي ضمينا وبوسينا يا سينا

السيرة الهلالية

وتبقى أهم أعماله هي السيرة الهلالية، وذلك منذ أن جاب صعيد مصر خلال 30 عاما مع صديقه القوّال سيد الضوي، وجمعا السيرة الهلالية في 5 أجزاء، كما كان أحد أبرز الحفّاظة الشعبيين الذين يروون الحكايات بجذورها المتعدّدة، فرعونية وقبطية وإسلامية، ويربطونها بمناسباتها الدينية والاجتماعية، ويحدّدون كيفية تواترها من جيل إلى آخر.

وتحكي ابنته آية الأبنودي أن والدها يَعتبر جمعه لها إنجازه الأكبر، فقد سافر لتونس 22 مرة على حسابه الشخصي كي يجمعها.

الأبنودي مغنيا

وكتب الأبنودي الأشعار لكثير من الأفلام، مثل أغاني فيلم "شيء من الخوف"، وفيلم "البريء"، كما كتب أغاني مسلسلات تليفزيونية شهيرة، مثل "ذئاب الجبل"، لتصبح أغنية تتر المسلسل الشهيرة "قالوا علينا ديابة" فقرة أساسية مطلوبة في الأفراخ الصعيدية.

ولا يعرف كثيرون أن الأبنودي نفسه قد غنى أحد أغاني المسلسل، دون أن يعرف الشاعر ذلك، فقد كان يغني الأغاني بصوته للملحن والمطرب علي الحجار، كي يأخذوا عنه اللهجة، لكن الحجار صمم أن يغني الأبنودي هذه الأغنية بالذات، ووضعها صناع المسلسل.

ويحكي الأبنودي -في حديث تليفزيوني- أنه بالأساس شاعر، يحب جمع الفلكلور، ولا يعتبر نفسه شاعرا غنائيا، فهو "ليس مؤلف أغاني"، وهو يقدم أغنية واحدة مؤثرة كل بضعة أعوام، فالذي يهمه أن يقدم شيئا مهما يعيش لأجيال.

علاقته مع السلطة

تباينت علاقته بالسلطة الحاكمة، فقد أيد ثورة يوليو/تموز 1952، وأحب الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر رغم اعتقاله في الستينات، وعارض معاهدة كامب ديفيد بشدة، مما تسبب في توتر علاقته بالرئيس محمد أنور السادات، وكتب أغاني وطنية عديدة في عصر مبارك.

وكانت علاقته بالسلطة بحساب دوما، ولا يعتبر نفسه ناصريا رغم أغانيه الوطنية في عصر عبد الناصر، ورغم كتابته أحد أشهر قصائد رثائه عقب وفاته، قائلا:

مش ناصري ولا كنت ف يوم
بالذات في زمنه وف حينه
لكن العفن وفساد القوم
نسّاني حتى زنازينه.. في سجون عبد الناصر

ولا يَعتبر الأبنودي "جوابات الاسطى حراجي" التي كتبها لمشروع السد العالي مغازلة للسلطة؛ إذ قال الشاعر الراحل عن عهد عبد الناصر لقد "ارتفع صوتي إلى مستويات لم أكن أتوقعها، لا سيما بعد هزيمة عام 1967 مباشرة، لقد صرخت كأي عربي أو مثقف بأنه إذا كانت السلطة السياسية قد انهزمت عسكريا فإن الشعب لم يهزم، لأن الشعب -وهو الأغلبية الصامتة- لم يستشر ولم يشارك مشاركة فعلية في الحرب".

ولم يكن بين الشاعر الراحل وبين السادات ودٌّ -وخاصة بعدما رفض منصبا وزاريا وعارض اتفاقية السلام مع إسرائيل بشدة، وتمنى أن يكون بين معتقلي السادات، لكنه لم ينل هذا الشرف، على حد وصفه.

ورغم كتابته لبعض الأغاني الوطنية -خلال عصر مبارك- كان من أوائل المثقفين الذين كتبوا عن ثورة 25 يناير، رغم أن له قصائد في مدح الرئيس السابق مثل قصيدة "النسر المصري".

واتهم الأبنودي كذلك بمجاملة الرؤساء وبكونه شاعر السلطة، وخاصة بعد منحه جائزة الدولة التقديرية عام 2001، وإعلان تأييده غير المشروط للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي معتبرا أنه "منقذ" البلاد من الضياع، وأنه "لا يختلف معه إلا أهل الباطل".

عزلة في الريف

قضى الأبنودي سنواته الأخيرة في منزل ريفي في الإسماعيلية، وكان مفتوحا للفنانين والمثقفين للجلوس معه وتناول الأكل الريفي، وكان متابعا للشأن الوطني ويعلق بآرائه على التطورات السياسية في سنوات مضطرب من تاريخ مصر.

وفي مثل هذا اليوم (21 أبريل/نيسان) عام 2015 رحل "الخال" بعد مسيرة حافلة بالعطاء كان فيها شاعر السلطة والثورة، فارس الأغنية الصعيدية، وصاحب السيرة الهلالية.

المصدر : الجزيرة