الأخير من جيل القراء العظام.. محمد الطبلاوي نقيب القراء الذي رحل في رمضان

وقعت نقطة التحول الأبرز للشيخ باعتماده في الإذاعة المصرية عام 1970، وهناك سجل الشيخ المصحف المرتل والمجود والمعلم، وفي حواراته المتعددة للصحف، كان الطبلاوي يؤكد أن "الإذاعة لها فضل كبير على أهل القرآن".

في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، قدّر الله أن تنتهي حياة آخر القراء العِظام في مدرسة التلاوة المصرية، الشيخ محمد محمود الطبلاوي الذي ولد في 14 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1934، ليمتّع بصوته السامعين على مدى 7 عقود.

توفي الطبلاوي في شهر رمضان (مايو/أيار 2020)، بعد أن جمع أفراد عائلته على إفطار خامس يوم في رمضان كما اعتاد كل عام، وبعد أن أشرف على توزيع المساعدات على مساكين منطقته عبر جمعية خيرية تديرها ابنته، بينما لم يكف لسانه عن تلاوة القرآن المعتادة في ختمته الأسبوعية، متحاملا على آلام الشيخوخة.

بعد أسبوع من جمعه لأبنائه، وفي الخامس من مايو/أيار، انتباته صحوة الموت، كما روى مقربون من الشيخ، فبدا متخففا من أمراض الشيخوخة، وظل منذ استيقاظه ضاحكا مستبشرا، يداعب أفراد أسرته.

وعلى مائدة الإفطار أخذ يسامر أفراد أسرته فردا فردا، وبعد أن انتهى الجميع من الإفطار، واستمر السمر، التفت الشيخ إلى ولده الصغير عمر البالغ من العمر 10 سنوات، ودعاه إليه، واحتضنه طويلا وقبّله، ثم أوصاه الوصية الأخيرة بضرورة استكمال حفظ القرآن، لأنه سبيل النجاح والنجاة.

رحلة طويلة

86 عاما حملها نقيب القراء الراحل فوق ظهره، لم تكن أولاها مبشرة له بأنه سيصبح ذا شأن في دولة القرآن، إذ رسب 9 مرات في امتحان التلاوة بالإذاعة، وفي العاشرة دعا ضاحكا "يا بركة دعاء الوالدين، يا رب اكفني شر هذه اللجنة"، فسمعه أعضاء لجنة الامتحان من خلال المكبر المفتوح دون قصد، فضحكوا وأدخلوه للامتحان ليفاجأ بنجاحه في المرة العاشرة.

كان صاحب الأسلوب الفريد الذي ميّزه عن غيره طوال عقود، يرسب في الامتحانات لعدم إلمامه بالمقامات الصوتية والموسيقية، لكنه ظل مُصِرًّا على أن يحقق حلم أبيه محمود الطبلاوي الذي رأى في المنام مَن يبشره بطفل وحيد سيكون له شأن بالقرآن.

رحلة بدأت بحلم رجل بسيط في منطقة ميت عقبة بالقاهرة، هو محمود الطبلاوي، بأنه سيُرزق بطفل حافظ للقرآن، وفي أواخر عام 1934 ولد محمد، فلما بلغ الرابعة من عمره ألحقه والده بكُتّاب المنطقة، وهنالك لاحظ الشيخ غنيم شيخ الكُتّاب جمال صوت الطفل قبل أن يتم حفظ كتاب الله في العاشرة من عمره، لتمر الرحلة بمنعرجات بلغت ذروتها بقراءة القرآن في جوف الكعبة، كما لم يفعل قارئ من قبل.

هذه الواقعة التي لم يفتأ الشيخ الراحل يفاخر بها محدثيه، ويقول "لقد شممت ريح الجنة حينها وأنا أقرأ القرآن في جوف الكعبة في رمضان".

حدثت هذه الواقعة فترة السبعينيات حينما كان جالسا مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز آل سعود فاصطحبه معه لغسل الكعبة، ثم طلب منه القراءة بداية من قوله تعالى "۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (سورة النساء: الآية 58).

لم يتخيل إمكانية تحقق هذا الحلم ذلك الفتى القارئ الذي بدأ نشاطه قارئا متجولا في مناسبات عامة بمحافظة الجيزة وما حولها، واشتهر بحلاوة صوته وتفرد طريقته وطول نفَسه، فباتت العائلات الكبيرة تتسابق لحجزه في مناسباتها.

بدأت رحلة الطبلاوي مع التلاوة في المناسبات وهو في الثانية عشرة من عمره، مقابل 10 قروش لليلة (الجنيه 100 قرش وكان القرش ذا قيمة وقتها)، ثم بات يدعى للتلاوة في مآتم لكبار الموظفين والشخصيات البارزة والعائلات المعروفة، بجوار مشاهير القراء الإذاعيين قبل أن يبلغ الخامسة عشرة، وارتفع أجره إلى 5 جنيهات.

لحظة فارقة

ووقعت نقطة التحول الأبرز للشيخ باعتماده في الإذاعة المصرية عام 1970م، وهناك سجل الشيخ المصحف المرتل والمجود والمعلم، وفي حواراته المتعددة للصحف، كان الطبلاوي يؤكد أن "الإذاعة لها فضل كبير على أهل القرآن".

كان الشيخ مشهورا قبل التحاقه بالإذاعة، التي زادته شهرة، وساعدته في السفر إلى مختلف دول العالم.

تُروَى عن الشيخ حكاية بشهود عيان، ووقعت في العاصمة الإيطالية روما، بعد ترتيل القرآن بالمجلس الإسلامي بالمدينة، دعاه البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان للقائه، فوافق على شرط واحد أن يلتقيه البابا أمام المصعد تقديرا للكتاب الذي يحمله الطبلاوي، ووافق البابا.

أما في أميركا فقد شهدت إحدى قراءاته هنالك إسلام العشرات على يديه عقب انتهائه من القراءة، كما ذكر بنفسه في أحد حواراته.

وبدا أن السبعينيات مثّلت عصر الانطلاق الكبير للطبلاوي، حيث اختير قارئا للجامع الأزهر، في تحقيق لأمل قديم ظل يراود الشيخ ويدعو الله أن يحققه، وعلم لاحقا أن وزير الأوقاف وقتها طلب كشوف المتقدمين ولم يجد اسم الطبلاوي بينها فأمر بوضع اسمه وجعله مقرئا للأزهر.

الشيخ النقيب

لاحقا صار الطبلاوي نقيبا لـ12 ألف مقرئ في مصر، ورغم ضخامة العدد فقد أعرب الطبلاوي في تصريحات عديدة له عن أسفه لـ "فوضى" القراءة، حيث فتحت الفضائيات الباب لقراء غير معتمدين، كما لم يعد للمستمعين قارئ يعرفون موعد إذاعة قراءته فينتظرونه، كما كان الأمر سابقا.

ومع هذا العدد الكبير للقُرّاء، صار نقيبهم وشيخهم يتأسف لتردي أحوالهم المادية، وانعدام الخدمات المقدمة لهم، لذا انصرف أصحاب المواهب والأصوات الجميلة عن المجال ولم تعد الساحة تشهد بروز أصوات بروعة السابقين، بل صار معظمهم مقلدين للسابقين، ولا سيما مع اختفاء منظومة الكتاتيب التي كانت تفرز حفّاظا للقرآن، تكون من بينهم أصوات نادرة.

وفي نصائحه للمقرئين الجدد، يوصي الطبلاوي بالقرب من الله سبحانه وتعالى وبالتقوى والسخاء والزكاة عن نعمة الصوت الحسن، واليقين بأن للقرآن كرامات دون حصر.

ومع ما أفاض به عليه القرآن من شهرة وثروة فإنه يؤكد أنه لم يسع للتكسب من القرآن، قائلا "شخصيا لم أطلب أبدا أجرا معينا وأدع الأمر لصاحب الأمر، وهناك الكثير من المناسبات التي ذهبت إليها ولم أتقاض عنها مقابلا، وكنت مرتاحا جدا".

وعن صاحبه الذي كان الأقرب إليه دوما، يقول الطبلاوي "القرآن يجمع البركة وينير القلوب ويحفظ البشر ويعطيهم الأمان والقناعة.. هذه هي الثروة الحقيقية التي لا جدال فيها، والقرآن الكريم أسعدني وكرّمني وأعزني مع الزعماء وأحياني حياة كريمة".

المصدر : الجزيرة